يبدو من خلال التمعن في دواوين شعراء ما بعد السبعينيات الصادرة في هذه الفترة، أن الرغبة في بلورة هذه الذات من حيث طرحها لأنموذج الكتابة الشعرية المختلف عن سابقه فيما تغاير معه به، والراغب في تجاوز ما تشاكل معه فيه، ليس وليد صدفة حداثية أتاح لها حِراكُها المرحلي التمظهر باللبوس الذي ظهرت به فحسب، وإنما هو نتيجة البنية المُكونة للجذور الاجتماعية والثقافية لهؤلاء الشعراء وما لحقها من تغيرات جذرية على مستوى الأنساق المعرفية المؤسسة لهذه الذات... -1- أما المعلم الثاني الذي يحدد فترة الثمانينيات بوصفها مرحلة انتقالية في البنيات الثقافية والإيديولوجية للمجتمع، فهو المعلم الأساسي الحاضر في تاريخ الجزائر المعاصر، والتي عادة ما وصفت ب (أحداث أكتوبر1988) ووصل فيها المجتمع الجزائري إلى مرحلة متقدمة من التأزم في الصراع بين المواقف السياسية وانعكاسها على المشاريع الثقافية، وتجلي أيقوناتها المغيبة بصورة واضحة، إن على مستوى الكتابات السياسية والفكرية أو على مستوى الحراك الثقافي الذي كانت تشهده الجامعة الجزائرية بوصفها حاضنة مكوّنة لهؤلاء الشعراء خصوصا، وتنامي صراعات توجهات طلبتها بين المتموقعين في صفوف الخلايا اليسارية العاملة تحت غطاء التنظيمات الطلابية الرسمية التي كانت تستمد شرعية نشاطها من جناح السلطة الداعم لها، وبين المتموقعين في التنظيمات الإسلامية في المساجد والأحياء الجامعية، والباحثة عن شرعية من خلال سياسة الأمر الواقع. لقد كان للصراع الإيديولوجي والثقافي الذي شهدته مرحلة الثمانينيات، خاصة بالنسبة للشعراء الذين صادف تعليمهم في هذه المرحلة بالذات، أثر بارز في النظر إلى مساحة الصراع الثقافي بوجهة تحاول أن تدرك مساءلاتها الجوهرية وتبني لها موقفا منها. ولعل النقاشات السياسية والفكرية المبطنة بغطاء اللبوس الثقافي والنشاط العلمي قد لعبت دورا أساسيا في تأجيج مساحة الصراع وبلورة المفاهيم والمواقف التي كان يجب على الأطراف تبريرها بمبررات تريد أن تعيد إشكاليات الهوية الوطنية والتعريب والانتماء الحضاري والموقف من المذاهب الإيديولوجية المستوردة، وثنائيات التقليد والتجديد والقدم والحداثة والأصالة والمعاصرة. وقد وجدت الأطراف المتصارعة فرصة في هذه النقاشات لتدلي بوجهة نظرها فيما يخص أساليب التحديث الإبداعي والفكري بناء على مواقفهم من هذه الثنائيات. ولطالما كان شعراء هذه المرحلة ومبدعوها يحاولون ربط طرائق الإبداع وتجلياتها الشكلية والدلالية بمواقف أصحابها، فيكون التجديد في الشكل الشعري بالنسبة لأحدهم موقفا من أحد أطراف هذه الثنائيات التي سيطرت على الخطاب الثقافي في الثمانينيات، والعكس صحيح. -2- ومثلما كان ضياع فلسطين في 1948 وهزيمة حزيران 1967 مَعْلَمَيْنِ أساسيين في المشرق العربي في مرحلة الانتقال الإبداعي وتشكيل المنابع الضرورية للخوض في إشكاليات التجريب الإبداعي عموما والشعري على الخصوص، نظرا لما لهما من دلالات في التأثير على الوعي الجمعي للطبقة المثقفة من خلال إعادة طرح المساءلات المتعلقة بالوجود والمصير، فإن المَعْلَمين التاريخيين السابقين بالنسبة للجزائر قد لعبا دورا أساسيا في تشكيل رؤية جديدة استطاع من خلالها المبدعون عموما والشعراء خصوصا، بمختلف مستويات تكوينهم ووعيهم بعمق هذه التحولات، أن يعكسوا الحاجة الملحة للتغيير على مستوى الخطاب الإبداعي عموما والشعري على الخصوص. وحتى وإن كان وجه الشبه بالنسبة للحالة المشرقية لا ينطلي على الحالة الجزائرية من حيث الأبعاد السياسية والتاريخية، فإنه لابد من الإقرار بأن الآثار التي خلفها المعلم المشرقي في البنية الثقافية للمجتمع العربي - والجزائر من ضمنها - قد كان له تأثير بارز على محاولتهم إعادة صياغة الرؤية التي كان يحملها هؤلاء الشعراء عن الكتابة الإبداعية وإشكاليات التجريب الشعري التي تغير بموجبها الخطاب الشعري من خلال التأسيس لذات شعرية ومعرفية تتحسس الإشارات الجمالية والدلالية لطبيعة المرحلة التاريخية، وتعيد صياغتها وفق الرؤية الآنية لحداثة الممارسة الشعرية. نقول ذلك، لأنه لا يمكن أن نتصور فهما عميقا للنص الشعري لشعراء ما بعد السبعينيات من دون التوقف عند الجذور الاجتماعية والتكوينية لهؤلاء الشعراء، ومعرفة مدى تأثيرها على تغيّر بنية النص الشعري، نظرا لما أتاحته من مبررات فكرية ومعرفية، ومسوغات نفسية، تنبئ عن مدى إدراكهم الرؤية المعرفية التي تحدد علاقتهم بعوالم الشعرية المعاصرة، وتمكنهم من الانتقال بإشكاليات التجريب إلى آفاق جديدة. ذلك "أن الذات في فضاء الشعر - وتحديدا الحديث - إنما هو حضور ذات إدراكية. إن مسألة الذاتية تظل شرط إمكان المشاركة في كونية الأدب، باعتبارها مشاركة تقتضي إسهاما معرفيا". ويبدو من خلال التمعن في دواوين شعراء ما بعد السبعينيات الصادرة في هذه الفترة، أن الرغبة في بلورة هذه الذات من حيث طرحها لأنموذج الكتابة الشعرية المختلف عن سابقه فيما تغاير معه به، والراغب في تجاوز ما تشاكل معه فيه، ليس وليد صدفة حداثية أتاح لها حِراكُها المرحلي التمظهر باللبوس الذي ظهرت به فحسب، وإنما هو نتيجة البنية المُكونة للجذور الاجتماعية والثقافية لهؤلاء الشعراء وما لحقها من تغيرات جذرية على مستوى الأنساق المعرفية المؤسسة لهذه الذات. ويبدو جليا مع بداية تقادم هذه المرحلة التاريخية، بأن ترك الثورة الثقافية جانبا، إنما كان ينم عن شمولية الرؤية الفكرية والإيديولوجية للمرحلة السبعينية، وهشاشة تصورها للبناء الثفافي لجزائر ما بعد الاستقلال، مما حدا بها إلى تحويل (Transfert) إشكاليات عناصره العالقة منذ فترة ما قبل الاستقلال إلى مثقفي ما بعد السبعينيات، لا بوصفها إرثا لم تقدر على تحمل مسؤوليات طرحه بصورة جلية فحسب، وإنما بوصفها عقدة معرفية وإشكالا إيديولوجيا قابلا لمعاودة الظهور بطرق أكثر إلحاحا في أية لحظة. ولعل هذا ما أدى بشعراء هذا الجيل إلى البحث عن عناصر الهوية الشعرية من خلال البحث عن عناصر الهوية الوطنية والانتماء الحضاري. وكأن الإشكال الحقيقي الذي سيواجهه هذا الجيل إنما هو مشكلة الهوية لا بوصفها إرثا سياسيا وحضاريا يجب التخلص من تبعاته السلبية فقط، ولكن بوصفها عقدة وجودية تنطلي إشكالاتها الفلسفية على المسار الوجودي لهؤلاء الشعراء وهم يحاولون البحث عن مكان يسع تساؤلاتهم الموروثة. "ذلك أننا عندما نأتي إلى هذا العالم، فإننا لا ننخلع في واقع الأمر عن جذورنا، بل نحمل في أنفسنا الانفصال عن الجذور. وهذا الوجه الذي نحاول طيلة حياتنا أن نلصقه بجلدنا، حتى ولو أدى الأمر إلى فقدان هويتنا الأولى". -3- لقد بدت هذه المرحلة التي عايشها شعراء ما بعد السبعينيات وكأنها مرحلة التخلص من الإرث السبعيني، من خلال إعادة هيكلة البنى الاجتماعية والاقتصادية غير القادرة على التأقلم مع معطيات العصر. وقد أدى ذلك إلى تعطل الآلة الصناعية وشح الإنتاج الزراعي في المنظومات الفلاحية التي طالما تغنى بإنجازاتها شعراء السبعينيات، وما تبعهما من تسريح سيزداد مع الوقت لآلاف العمال ذوي الأصول الريفية الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة واقع اجتماعي متغير لا يتكفل بمتطلباتهم الضرورية في عيش كريم كانوا يطمحون من خلاله إلى تحقيق أحلامهم المسكونة بالوهم السبعيني. والحق أننا لو بحثنا عن الجذور الاجتماعية لشعراء ما بعد السبعينيات لوجدنا أن معظمهم ينتمون كنظرائهم السبعينيين إلى الطبقة العمالية أو الفلاحية التي حملت في صيرورتها التاريخية ظلم الاستعمار الفرنسي الغاشم، ودفعت ضريبة التحرير بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أثناء الثورة التحريرية، وعايشت حلم الاستقلال والمساواة والعدالة الاجتماعية، وتحملت انعكاسات هذا الحلم على أرض الواقع. و قد تحمل شعراء هذا الجيل تبعات هذه الصيرورة وهي تفضي إلى تبلور الصراع بطريقة حادة ومريرة. ويبدو ذلك جليا في المواضيع التي كانت تستحوذ على قصائدهم وطرائق طرحها بصورة مختلفة عن نظرائهم السبعينيين. لقد كانت العودة إلى موضوع الثورة الجزائرية باعتبارها بؤرة مركزية للتدليل على الانتساب الحضاري والتاريخي لشعراء ما بعد السبعينيات، ومحاولتهم تلقف أيقوناتها الرمزية تأخذ مجرى مخالفا في البنية الدلالية والفكرية لنصوصهم من خلال تجاوز الطرح المناسباتي المباشر الذي كان يطبع النصوص السبعينية. كما تغيرت مصادر الاستقاء من المنابع الثقافية التي كانت تُميّز الجيل السبعيني، فأصبحت الرموز الثقافية والفكرية المغيبة في النصوص السبعينية أكثر حضورا في النصوص الجديدة من خلال استنطاق الحادثة التاريخية وإعادة قراءتها قراءة مختلفة. نستشف ذلك من خلال مناداة هؤلاء الشعراء لهذه الرموز وكأنها مناداة استنجادية للبعد المُغيّب في النص الشعري من أجل تعديل اختلالاته البلاغية وتحقيق مساحة التوازن في بنياته الدلالية. كما أعاد هؤلاء الشعراء طرح مشكلة الهوية الألسنية من خلال العودة إلى الإشكال اللغوي وما كان يدل عليه من فوراق اجتماعية وثقافية بينهم ? بوصفهم شعراء معربين- وبين من كانوا ينتسبون إلى اللغة الفرنسية. وذلك من خلال التركيز على ما حققه الانتماء إلى هذه اللغة للأدباء والشعراء الناطقين بها من مستوى اجتماعي وثقافي مكّنهم من فرص التماهي مع المرحلة أكثر من نظرائهم المعربين. وربما تخوف هؤلاء الشعراء كغيرهم من المثقفين المعربين من خلال التعبير عن مواقفهم في خضم الجدل الثقافي في مرحلة الثمانينيات، من أن "تضيع العربية في الفرنسية، فيقع المسخ للناشئة فينشأون على غير شيء، ما دام كل ما يتعلمونه هو غير شيء. [وقد] أصبح الفرنكوفيليون يتحكمون في مصير الأغلبية، ويرفضون تطلعاتها، ويدوسون على القيم التي تؤمن بها". وسنرى أن شعراء ما بعد السبعينيات سيؤكدون على مشكلة الهوية الوطنية، والانتماء الحضاري، والغربة داخل اللغة الأم، وتصوير الفوارق الاجتماعية، ونقد البنية السياسية السائدة في أطروحاتهم الثقافية ونصوصهم الشعرية. وذلك من خلال اتخاذ الإشكالات الأساسية التي أفرزها المجتمع في مرحلة الثمانينيات تيمات ذات دافع يحمل في حركيته أساليب التعبير عن حدة الطرح الشعري المؤدي بدوره إلى تجاوز الأنماط السائدة على مستوى النصوص، وتحرير فضاءاتها الدلالية والفكرية من الرؤية المهيمنة عليها. وقد أصبحت المساءلات الجوهرية التي كانت تحملها هذه المرحلة التاريخية في مستوياتها السياسية والإيديولوجية ظاهرة للعيان بصورة واضحة في هذه النصوص. والأكيد أن هذه التيمات قد دلّت الشعراء على مسافة الفارق الذي يجب تحقيقه من أجل الانفصال عن شعرية السبعينيات. وقد ساعد على ذلك تبلور مفاهيم الصراع الثقافي بين تيارين أساسيين متناقضين يتجاذبان مساحة النقاش الفكري والإيديولوجي: أ-تيار عروبي إسلامي يريد أن يؤكد على ضرورة الانتماء الحضاري من خلال الرجوع إلى الأصول المُغيّبَة في السبعينيات بوصفها مرجعيات متأصلة. ب- وتيار لائكي يساري يريد أن يحافظ على المكاسب المحققة في المرحلة السبعينية ودعمها خوفا من ضياعها نظرا لاهتزاز البنية الإيديولوجية لهذه المرحلة في أذهان الجيل الجديد من المثقفين. وتجلى ذلك من خلال التموقع الإيديولوجي للتيارين اللذين ظهرا وكأنهما يستعدان لمعركة حاسمة لم يكن أحد على علم بمآلاتها السياسية وانعكاسها على مستوى الواقع الاجتماعي. وقد كانت الجامعة الجزائرية ميدانا حقيقيا لتجليات الصراع الفكري بين هذين التيارين على مستوى النقاش الفكري الحاد، وبداية ظهوره في وجهه العنيف. كما كانت (ملتقيات الفكر الإسلامي) مخبرا حقيقيا لبلورة المشروع الإسلامي الزاحف في صورته المشرقية في أذهان المنتمين إليه، والذي كان يستقي دعائمه الإيديولوجية من الحراك السياسي والفكري العربي العام الذي كانت الجزائر جزءا منه. ولعل هذا المعلم الثاني الفاصل لمرحلة الثمانينيات ستتحدد نهايته في (أحداث أكتوبر 1988) على مستوى الجزائر في الوعي الثقافي العام للجيلين المتصارعين من خلال التيقن من انتهاء مرحلة تاريخية بكل ما حملته من رؤى سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية من جهة، ونهاية مبررات بقائها على مستوى الخطاب الأدبي وتجليات هذه الانعكاسات على بنياته الشكلية والدلالية والفنية من جهة ثانية. ولعل الذي سيؤكد نهاية هذه الرؤية هو تجلي نهايتها على المستوى العالمي، وذلك بانهيار النظام الاشتراكي، وتلاشي الأنظمة الشيوعية على المستوى السياسي من خلال معلم تاريخي فاصل هو سقوط جدار برلين سنة 1989. للموضوع مصادر ومراجع وإحالات