يحاول خالد زيادة، في كتابه "لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب"، متابعة مجمل التطورات التي عرفتها العلاقات التركية الأوروبية والعربية التركية الأوروبية، وصولاً للمرحلة الحالية، راسماً صورة تاريخيةً للعالم العربي بعد انهيار الدولة العثمانية، وحصول العرب على الاستقلال السياسي، ولكيفية ممارسة هذا الاستقلال، وكأنه يقدم جردة حساب ليست لما قدمه المفكرون من هنا وهناك فحسب، بل لما تم إنجازه في مجالات التحديث والإصلاحات السياسية والبناء المؤسساتي من أفكار تتعلق بكيفية بناء الدولة أيضًا، مسترشداً بأفكار الثورة الفرنسية ومنجازات الحضارة الأوروبية. الكاتب يتابع المخاضات التي رافقت نهوض الإمبراطورية العثمانية، وما رافقها من تطورات بين هذه الإمبراطورية وما يسمى اليوم ب "أوروبا" التي بدأت تدريجياً بأحكام سيطرتها على أرجاء العالم كافة، بدءاً من القرن التاسع عشر، إذ "لم تكن سيطرتها عسكرية فقط، بل اقتصادية وثقافية أيضاً، وأوروبا في تلك الأزمان، لم تكن إمبراطورية، بل كانت دولا متنافسة"، "وقد توسلت دولها الوسائل العلمية والتقنية كعلوم البحار وعلم الخرائط لاكتشاف العالم". يتابع زيادة تلك المخاضات وصولاً لبدايات الألفية الثالثة، حيث يشهد العالم العربي مخاضات عسيرة، خصوصا على الصعيد الفكري. إن ما باح به مفكرو عصر النهضة وما راكمته الحوليات الفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية والتقنية في القرن العشرين، قد أصبح مرجعية للمستقبل. وكأنه بما يقدمه يستكمل زيادة ويضيف إلى ما جاء به مفكرو عصر النهضة من بطرس البستاني الذي حاول توطين المصطلحات العلمية في ما قدمه من أعمال موسوعية، إلى شبلي الشميل الذي تبنى الفكر العلماني ودعا إلى فصل الدين عن الدولة، إلى علي عبد الرازق الذي سار على الطريق نفسها، وعمل لغايات وأهداف مماثلة، ولم يتجاهل زيادة ما قدمه فرح أنطون والأفغاني ومحمد عبده وغيرهم. لقد وطّن هؤلاء المفكرون فكرة المدرسة والمطبعة، وعملوا على إنشاء الجمعيات الأهلية، وكان لذلك دوره في تعميم اللغة العربية الفصحى، وبالتالي المساهمة في نمو الوعي القومي، وقد رأيناه في مسارات الدعوة إلى التمدن، وإلى تربية جديدة، وقد تقلص فيها دور علماء الدين، وبالتالي إلى طرح رؤية تاريخية إلى الماضي بديلاً عما كان يقدمه علماء الدين. لقد تبنى هؤلاء المفكرون ما جاءت به الثورة الفرنسية من أفكار تتعلق بالحرية والمساواة والمواطنة. لم يتجاوز الفكر العربي، مرحلة ما بعد الخمسينيات من القرن المنصرم، ما جاء به رواد الحركة الإصلاحية لاسيما محمد عبده الذي أدى دوراً في تأسيس الجامعة الأهلية - تلك التي دعا لتأسيسها جورجي زيدان من على صفحات مجلة الهلال، والتي سميت فيما بعد بجامعة القاهرة - ولم يتجاوز أيضاً ما قدمه الشميل وأنطون وعبد الرازق. عبده الذي لم تتبن جامعة الأزهر أفكاره، كان قد وجد في الجامعة الأهلية ضالته، لكن ما كان يدعو إليه لم يتحقق، وها إن الثقافات الإقطاعية التي ارتدى أصحابها زوراً جلباب الإسلام، عادت لتطل برأسها، وكان معظم من حملوا هذه الثقافة من خريجي مؤسسة الأزهر، وحيث جامعة القاهرة التي عوّل عليها عبده وغيره كبديل عن جامعة الأزهر أصبحت امتداداً لها، بل فرعاً جديداً من فروعها. لقد تقلص دور الجامعة في نشر العلوم المعاصرة وتوطينها، وهذا ما أدى إلى إعادة الاعتبار للثقافات الدينية على ما عداها. لم تؤسس جامعة القاهرة للتجديد والتراكم والتوطين العلمي والتقني المعاصر، هذا الذي كانت تحتاجه مصر وغيرها من الشعوب العربية. *** يرسم زيادة صورة لما قدمته الحركات الإسلامية من أفكار، كذلك لما رسمته الحركات الثورية والوطنية والقومية، وكانت مصر، من دون تجاهل دور لبنانوسورياوالعراق وتونس وغيرها من دول، البيت الذي شغله، ففي جامعاتها وبيئتها نشأت المدارس والجامعات ذات الاختصاصات المتعددة. لقد أميط اللثام، عن دور الرموز الأساسية للإصلاحيين والأصوليين والراديكاليين والقوميين العرب. فزيادة يرسم صورة لما قدموه ولما مارسوه أو قد تم تحقيقه والأخذ به. وكانت الانقلابات العسكرية التي يحذر من العودة إليها في الألفية الثالثة، قد رسمت صورة لدورها ولرؤيتها في بناء الشخصية المجتمعية، ليصل زيادة إلى القول إن الغرب الذي أخذ بما أتت به الحضارة العربية الإسلامية في العصر الوسيط، هو ذاته الذي أصبح ملهماً لكل المفكرين، ليس للعرب منهم فقط، لكن لغيرهم من الشعوب.. هذا الغرب الأوروبي الذي يعتقد زيادة بأنه أصبح عاجزاً عن أن يؤثر ويجدد في علاقاته الداخلية، وفي القيم التي أسس لها، تلك التي كانت مرشداً لحركة فكرية عالمية. ** في المجاورة بين أوروبا والوطن العربي، يرى زيادة أن علي مبارك، هو من شعر بأهمية هذه المجاورة، وهو من سبق الأمير شكيب أرسلان في طرحه لهذا الموضوع. في كتابه: "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم". يلحظ زيادة أن قضية التقدم والتأخر هي مسائل ذات طابع معرفي، ويسأل: "هل يكون تحديد الذات من خلال المقارنة مع الآخر، وهل ثمة معايير لقياس التقدم والتأخر؟"، ويضيف: "إن أوروبا منذ نشوء دولة الإسلام ودخولهم إلى شبه الجزيرة الأيبرية، وتأسيس دولة الأندلس إلى يومنا هذا، ما تزال محاطة بالإسلام وليس ثمة شعب من شعوب العالم يملك هذا التاريخ". إن هذا التاريخ المشترك مع أوروبا، العرب والبربر والأتراك من المسلمين، قد أدى إلى تشكل الهوية الذاتية للعرب، كما أثر في تشكيل الهوية للأوروبيين. لقد تأثر المسلمون في النهضة الأوروبية، في المقابل لا يمكن التنكر لتأثير الفكر الأوروبي في تطور العالم العربي والإسلامي، القديم والمعاصر أيضاً. إن حضور الإسلام في الوعي الأوروبي، كان أكبر بكثير من حضور الوعي الأوروبي لدى المسلمين. يقول مونتغمري واط: "إن التهديد الإسلامي الأندلسي المبكر قد أيقظ الهوية الأوروبية وربطها بالمسيحية"، لقد شكلت الحروب الصليبية وعيا مسيحيا أوروبيا موحدا ضد الإسلام، كما أنها أثارت لدى اللاهوتيين الكاثوليك الرغبة في دراسة الإسلام. ومع بداية القرن الثاني عشر جرى التعرف إلى الإسلام باعتباره منظومة عقائدية. لم يكن تاريخ الحوار الإسلامي - الأوروبي سوى حلقات من الفعل وردّ الفعل. إن أوروبا التي كانت تزيل الأسطوري والغيبي من ثقافاتها، كانت بما تقوم به تثير اعتراض الفئات الإسلامية المحافظة والأكثر تمسكاً بتراثها ومعتقداتها التي اهتزت اهتزازاً مخيفاً لا رجعة عنه. لقد أصبح لفولتير وروسو وأوغست كونت وماركس، أنصار في كل أنحاء المعمورة، وفي كل اللغات المكتوبة. كما أن جنود فرنسا وانكلترا وغيرهم رفعوا سلاحهم في وجه الإمبراطوريات والدول والقبائل والسكان الأصليين في كل قارات العالم. وإذا كان جيل من أبناء كل ثقافة إنسانية قد تأثر بأوروبا مبدياً إعجابه بالتنوير، فإن جيلاً آخر قد رفع السلاح لمقارعة العدوان والتسلط الاستعماريين. إن أوروبا هذه، وبرغم تعددية المواقف منها، استطاعت تعيين الحدود النهائية لجغرافيا العالم واستطاعت اكتشاف آخر بقاعه وجزره وقبائله. ولن ننسى أن المفكرين المسلمين والعرب كانوا قد تعرفوا على تاريخهم من خلال الأساتذة الأوروبيين الذين جعلوا دأبهم اكتشاف حضارة الإسلام، مثال الطهطاوي وخير الدين التونسي ومحمد عبده والأفغاني وعلي عبد الرازق وطه حسين ورشيد رضا ومحمد حسين هيكل وشبلي الشميل وبطرس البستاني وفرح أنطون وجرجي زيدان ونجيب عازوري وغيرهم، هؤلاء الطلاب الذين كانوا قد عادوا من أوروبا، وقد تشبعوا بأفكار متنوعة، وخصوصا بالأفكار الماركسية والليبرالية والقومية. إن هذا الرعيل، يقول زيادة: "الذي كان يذهب إلى أوروبا للدراسة، كان يعود إلى البلدان التي أتى منها وقد اكتشف إسلامه". وبهذه المؤثرات التي بلغت سطوتها في التغيير الفكري وبالتالي الثقافي، فإن التهديد الإسلامي الذي كان يأتي من الحدود، ها هو قد أتى من بعض الأوساط التي جاءت من أوروبا وهي تحمل فكراً جديداً ومغايراً عما هو سائد في بيئتها من أفكار قديمة وتقليدية. إن ما كنا نراه في الأمس، قد تبدل كثيراً. فالمسلمون اليوم في الغرب يواجهون الدعوات الرافضة لبناء المساجد، كذلك الضجة المثارة حول ارتداء الحجاب باعتباره يشكل تهديداً لمبادئ الجمهورية. من الناحية العملية فإن المسلمين الذين لا يتبعون مرجعية موحدة، تسهل على الحكومات التفاوض أو التفاهم معهم، يطرحون مشكلات تتعلق بمسائل التعليم والإرث والزواج بما في ذلك تعدد الزوجات ودفن موتاهم، إنها مشكلات عملية وواقعية تتعلق بأقليات عددية تتراوح بين مئات الآلاف والملايين في كل بلد من بلدان أوروبا. «في طبقة من طبقات الوعي الأوروبي الذي يشعر بافتقار الدور الذي سبق لأوروبا أن اضطلعت به، يحيل ضعف أوروبا السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي إلى الآخر، تماماً كما حدث في الضفة الأخرى، حيث تيارات قومية وإسلامية أحالت وما زالت ضعف العرب والمسلمين إلى المؤامرة الغربية". *** في الفصل الثاني من كتابه يسلط المؤلف الضوء على المؤثرات الغربية في الفكر النهضوي العربي، فيرى أن أفكار عصر التنوير أو النهضة التي طرحت في القرنين الثامن والتاسع عشر قد ساهمت في مغادرة العصور الوسطى المظلمة، وكانت في نظر مؤرخيها وليس صانعيها، تشير إلى مغادرة فترة طويلة من الركود الفكري والانحطاط السياسي، كما تشير إلى انطلاق الأفكار الجديدة، وخصوصاً تلك التي عبرت عنها الثورة الفرنسية. إن كل نهضة هي في آن معاً، عودة إلى الماضي وتطلع إلى المستقبل، فالنهضة الفكرية أعطت معنى للتمدن العائد إلى الفكر والعمل، وإلى التربية التي لا تعني اكتساب العلوم فحسب، بل اكتساب الفضائل أيضاً. إن الأفكار التي أطلقها مفكرو عصر النهضة حول المسألة الوطنية، بما هي الرابطة المعنوية لجماعة معينة، هذه الأفكار التي أعطتها الثقافة التاريخية روحها، كانت قد دعت إلى النهوض واستعادة عظمة الماضي. يقول زيادة "إن العرب الذين كانوا رواداً في تقدم العلوم، عنهم أخذت أوروبا الحساب والطب والكيمياء والرياضيات والفلسفة. وإذ نأخذ العلم عن أوروبا فإنما نعيد ما كان قد أخذ منا من قبل. يضاف إلى منجزات عصر النهضة ما طرحه بعض المفكرين لتحرير الشعوب التي عانت من القهر والاستبداد. إن حرية التعبير والعمل والاحتكام إلى العقل، بما يعني ذلك من تجاوز خوارق العادات، والاختيار الأفضل لطريق العقل الذي يقود إلى التخلي عن الدين هو ما بشّر به ودعا إليه مفكرو عصر النهضة. لقد اقترح علي مبارك أن "نأخذ من الغرب ما ينقصنا دون ما ذهبت إليه أخلاقهم وعاداتهم". *** استلهم المفكرون العرب الكثير مما يمكن أن يعزز توجهاتهم في المجالات كافة، هذه الأفكار التي نقلتها الأيديولوجيات السياسية إلى العالم العربي، جعلت منها مفاهيم تقترب من العقائد أكثر مما هي شيء يمكن نقده وتغييره. إن مسار التحديث الذي تبنته الأيديولوجيات السياسية العربية، خصوصا منها ما يتعلق بفكرة الدولة، أكدت تأليه الحاكم وجعلت من موقعه مكاناً لا يمكن نقده أو التعرض لممارساته، وبالتالي لتوجهاته في ممارسة السلطة والالتزام بالقانون، مستعيداً وظائف الدولة في الفترة العثمانية، يرى الكاتب بأنها اقتصرت على جباية الضرائب وحماية الحدود والتوسع وفرض الأمن، أما العدالة فكانت منوطة بالمؤسسات الدينية. استمرت هذه الوظائف من دون تغييرات تذكر حتى الربع الأول من القرن التاسع عشر، حينها بدأت الدولة العثمانية تطبق إصلاحات كانت قد بدلت تدريجياً من مفهوم الدولة، ووسعت من وظائفها. لقد أخذت الدولة على عاتقها فرض ترتيبات إصلاحية جديدة، خصوصا في النظام القضائي، حيث تم انتزاعه التدريجي من المؤسسة الدينية، كذلك حصل في القطاع التربوي ليصبح التعليم أداة التوحد الوطني، والمدرسة ممرا للنشاط الاجتماعي والثقافي والسياسي، حيث أصبحت مرتعاً للمظاهرات وموقعاً لخلايا الأحزاب. لقد أصبح العلم قيمة اجتماعية، كما أصبح التحديث يتم عبر ضغط الدول الأوروبية وشروطها المباشرة، كما حدث عند إعلان خط "كولخانة" عام 1839 الذي نص على المساواة بين الرعايا بغض النظر عن انتمائهم الديني. كما أملت الإدارات الاستعمارية التحديث في مؤسسات الدولة وتم رسم الحدود، كذلك تدبير الاقتصاد، ومالية البلاد وصياغة برامج التعليم.. ساعدت هذه الإصلاحات على انتشار الأفكار الحديثة، كما ساهمت في تأسيس الصحافة، وبالتالي نشوء السياسة التي تُعنى بالشأن المجتمعي العام. إن شؤون الدولة ونظامها لم تعد تخص العاهل وحده، إنها تخص سائر الأمة، وأصبح هدف التعليم الاتصال بالمعارف المعاصرة وبرفد إدارات الدولة بالكفاءات الضرورية. أضف أن الدولة أخذت على عاتقها بناء المصانع وشق الترع والسدود ومد سكك الحديد، كذلك العناية بالتفاصيل المتعلقة بحياة المدن من النظافة إلى الإنارة إلى ما يتعلق بتنظيم العمران. ساهمت مجالس الإدارة المحلية في تعزيز الجناح المدني من الوجهاء خصوصاً التجار، وكان كل ذلك يحصل على حساب الجناح الديني الذي أبدى تحفظاته على الطابع التحديثي الذي أدى إلى تقلص نفوذه ودوره، لاسيما في مجالي القضاء والتعليم. كما أصبحت المؤسسة العسكرية أداة للتحديث، وأداة للانصهار الوطني على كافة أطياف المواطنين، إذ كانت الأكثر تنظيماً وانضباطاً وحداثة، وكانت قد شكلت وما زالت عماد الدولة الحديثة التكوين. لقد بينت بعض التجارب أن العسكريين أقدر على تحقيق الإنجازات من السياسيين. كما أفضت الدولة الدستورية، ومن خلال الإصلاحات المتتالية، إلى بلورة مفهوم للوطن، إن مبدأ الهيئات الناخبة قد أرسى المساواة بين هذه الهيئات، كما تم تعيين المدى الذي تتوقف عنده الحدود الإقليمية للدولة والولاية. أصبحت الدولة الدستورية مطلباً أساسياً للنخب المتعلمة، فالمؤسسات التقليدية التي لم تمسها الحداثة، ساهمت في تفريغ الدولة ومؤسساتها من أدائها ووظائفها الحديثة والمستجدة. إن الحركات الصوفية والإباضية والزيدية والوهابية والسنوسية والمهدية وغيرها، بقيت منعزلة عما هو من تحديث كان يمس قيم وعادات المجتمع. لذا فإن ما حصل من تطورات في مفهوم الدولة قد أتاح للنخب الوطنية التحديثية الدمج بين مشاريعها والنظام الدولي الرأسمالي، الذي استوعبها ودجن معطيات وظائفها لخدمته. لقد نشأت الليبرالية السياسية والاقتصادية في حضن المشاريع الغربية، ولم تكن وليدة مشاريع تحديثية عربية. فالمسيحيون في العراق وسورية ومصر استقبلوا هذه التحولات، وأخذوا بها قبل غيرهم من أطياف المجتمع، كان ذلك قد ساعد بعض رموزهم الوطنية في الوصول إلى السلطة، ففارس الخوري المسيحي أصبح رئيساً للوزراء في سوريا، كما أصبح القبطي مكرم عبيد رئيساً للوفد وهو أكبر الأحزاب السياسية المصرية. كما شارك المواطنون العرب من المسيحيين واليهود في المجالس الوزارية، وفي إدارات الدولة في معظم البلدان الغربية. *** الأصولية والثورات العربية يشير الكاتب إلى ما آلت إليه الأوضاع السياسية بعد ما تم إلغاء الخلافة على يد كمال أتاتورك العام 1924. فيرصد زيادة ردود الأفعال المتفاوتة من قبل الأوساط العربية، تلك الردود التي لم تترك مجالاً للتبصر في مصير المؤسسة الدينية التي كان يقع مركزها في اسطنبول. فالخلافة كانت مرجعية للإفتاء وللقضاء، وإلغاؤها كان قد أدى إلى تصدع في الرابطة المعنوية بين المؤسسات الدينية التي كانت تخضع للخلافة. ترك إلغاء الخلافة، على ما يلحظ زيادة، في طبقة من طبقات الوعي الإسلامي، شعوراً بالهزيمة، سرعان ما تفاقم نتيجة إخفاق مشروع إقامة الدولة العربية، وقد أرجعت الحركات الإسلامية ذلك إلى مؤامرة التقسيم الاستعماري. وسرعان ما تحول هذا الحدث لدى الفئات الأصولية إلى مؤامرة غربية. ومما ضاعف هذا الشعور، هو أن جل بلدان العرب والمسلمين كانت خاضعة للسيطرة الاستعمارية المباشرة. في هذه الأجواء ولدت جماعة الإخوان، التي أنشأها أحمد السكري في المحمودية، وليس في الإسماعيلية كما يذكر المؤلف، وحيث كانت الإسماعيلية مركزاً للفرع الثاني، يليها القاهرة التي كانت فرعاً ومركزاً أساسياً وقد امتد إلى مناطق أخرى. وفيما إذا كان السكري هو الأب الروحي للفكرة، فإن حسن البنا (1906 - 1949) هو الذي ساهم في تحويلها إلى تنظيم، يقول عن البنا العالم الأزهري طنطاوي جوهري: "إن حسن البنا مزيج من التقوى والدهاء السياسي، إنه قلب علي وعقل معاوية، وإنه أضفى على دعوته دعوة "اليقظة" عنصر الجندية، ورد إلى الحركة الوطنية عنصر الإسلام". والجوهري هنا يشير إلى أن الإصلاحية الإسلامية "اليقظة" التي فشلت في إيجاد إطار تنظيمي للمسلمين هذا الإطار (التنظيمي) (الجندية). وإن الحركة الوطنية التي انساقت في العشرينيات والثلاثينيات إلى الأفكار الليبرالية قد ردها البنا إلى الإسلام. لقد أثر البنا في الحياة السياسية المصرية، فانجذب رشيد رضا إلى هذا التنظيم، ولكنه مال في أخريات أيامه إلى الوهابية. لقد ولدت جماعة الإخوان ردّ فعل على واقع تمثل باجتياح الغرب للعالم الإسلامي. وتأثر البنا برضا، الذي تأثر في دوره، بالمرسلين الغربيين وخصوصاً البروتستانت. كما تأثر البنا أيضاً بالطريقة الشاذلية التي انضم إليها وحفظ سرية تعاليمها، كما احتفظ بعلاقة متينة مع النظام السعودي وتلقى الدعم منه طوال حياته. في تلك الفترة من تأسيس الجماعة كانت الأحزاب تتأسس وتعرف في مصر. لقد انتشرت نماذج الأحزاب الغربية في التنظيم والقيادة، وبعضها يستلهم النماذج القومية والاشتراكية. أما اسم الإخوان فيعتقد بأنه أخذ عن الإخوان السعوديين، وكان الذين ينتمون للمذهب الوهابي يتم التعامل معهم على أنهم يعملون للدفاع عن العقيدة. أما شرط الانتساب إلى الجماعة هو الولاء عبر مبدأ السمع والطاعة، وفي ذلك تخلت الجماعة عن جوهر الإصلاحية القائم على التفكير وأعمال العقل في مسائل الدين والدنيا. لقد تحولت المنظمة إلى ما يمكن أن نسميه المجتمع البديل، حيث يقيم أعضاؤها فيما بينهم صلات تتجاوز الولاء السياسي أو الحزبي إلى العلاقات المجتمعية والاقتصادية. والواقع أن الجماعة أرادت أن تكون نموذجاً مصغراً للمجتمع الإسلامي الموعود. وفي الخمسينيات مثّلت الشيوعية التحدي للإخوان وللحركات الإسلامية بما تنطوي عليه من نزعة إلحادية وبإيعاز من هنري كيسنجر الذي طلب من السادات التعاون مع الإخوان للتخلص من اليسار والناصريين، كان الإخوان يتجاوزون المحنة التي أدت إلى حظر نشاطاتهم خلال الفترة الناصرية. ففي الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن المنصرم، برز السيد قطب الذي عرف في بداية حياته كناقد أدبي وهو الذي صاغ برنامجاً للاستيلاء على الحكم (معالم في الطريق) فأعاده الرئيس جمال عبد الناصر إلى السجن وحكم عليه بالإعدام ونفذ الحكم العام 1966. لقد أضحى "الإخوان" جماعة محظورة ومطاردة خلال الفترة الناصرية. يقول البنا معرفاً الجماعة: "لسنا حزباً ولسنا جمعية ولسنا فرقة رياضية، ولكننا فكرة وعقيدة ونظام ومنهج لا يحدده موضع ولا يقتدى بجنس". وبرغم احتضان أنور السادات لهم، إلا أن فترة السبعينيات كانت قد عرفت ولادة العديد من التيارات السياسية التي انفصلت عن الإخوان منها ما هو داخل مصر، ومنها ما هو خارجها، مثال الرفاه التركي وجبهة الإنقاذ الجزائرية والنهضة التونسية. ترافق كل ذلك، مع إخفاق التيارات السياسية القومية، إلى استمرار الاحتلال الصهيوني لفلسطين، كما ترافق مع تصاعد دعوات نقد الاستشراق والتغريب الثقافي، ومع الدعوة لأسلمة الاشتراكية والعودة إلى التراث، كما كان لإيران بعد نجاح الثورة العام 1979، دور في دعم الحركات الإسلامية، كذلك لباكستان وللعربية السعودية. بدأت منذ ذلك التاريخ تبرز المظاهر الإسلامية كالحجاب للنساء واللحى للرجال، كذلك العباءات السود كتلك التي ترتديها النساء في لبنان، وترافقت مع بروز دور الأزياء المخصصة باللباس الشرعي. كما نشأت سوق إسلامية من دور النشر المتخصصة بالتراث الإسلامي، وانتشار تجارة الطب الإسلامي إلى ازدياد المصلين، فضلاً عن المعاهد والجامعات الإسلامية. شكك الإسلام الأصولي بأولئك الذين يعتبرون الإيمان شأناً خاصاً بالفرد في علاقته مع الله، وأولئك الذين احتكموا إلى تشريعات الغرب وقوانينه، واعتبروا الشريعة تعبيرا عن هوية ثقافية، ونظاما للدنيا، وبديلاً من أنظمة الشرق والغرب. ساد خطاب الجماعات الإسلامية المعادي للحداثة، وانتشرت هذه الثقافة بين الطبقات الأكثر فقراً، التي لم تجن من التحديث شيئاً. لقد أصبح الانتماء إلى جماعة الإخوان، هو ذاته اندماج في نمط عيش، وفي مجتمع بديل من القائم الذي تسوده قيم الغرب. يختم زيادة ذلك بأن ثورة يناير 2011 قد أتاحت للحركات الإسلامية فرصة للبروز في مصر وتونس وليبيا واليمن، فضلاً عن حزب البناء والتنمية في المغرب. إن الإخوان المسلمين في مصر، وبعد نجاحهم في الانتخابات ووصولهم إلى السلطة، قد أخفقوا إخفاقاً مدوياً، إذ لم يكن عندهم رؤية للمشاكل المتفاقمة وخصوصاً المشاكل الاقتصادية والاجتماعية. وفي اختصار كانوا يفتقدون إلى برنامج للحكم. لقد ساهموا بما قدموه لإعادة الاعتبار للنظام السابق بأن يستمر، ولكن بآليات وحشود إخوانية. وهذه الوضعية ساهمت سريعاً بانفكاك حلفائهم عنهم، وخسرانهم تعاطف ودعم بقية شرائح المجتمع الإسلامي. تشكل عملية إزاحة الإخوان من الحكم منعطفاً في حاضر ومستقبل الحركات الإسلامية، وستترك أثاراً على التنظيمات الإسلامية في المنطقة والعالم. إن تجارب الحركات الإسلامية ستؤذن برؤية المنعطف الذي سيدفعهم إلى الاختيار بين العزلة أو الاندراج في سياسة شرطها الأساسي الأول القبول بالتعددية. *** دخل العالم العربي بعد ثورات 2011 في حقبة جديدة من تاريخه، فالحروب التي شنتها الأنظمة الأحادية على مواطنيها وصلت إلى لحظة الانفجار الذي عجزت فيه السلطة عن استيعاب انتفاضة الشارع. هذه اللحظة أطلقت حرية التعبير وممارسة السياسة، وهي بمثابة الإعلان عن بداية حقبة طويلة لن تستقر قبل سنوات عديدة. ويبين لنا تاريخ الثورات ومساراتها اثارتها للصراعات الأهلية والإثنية والدينية، كذلك تعاقب السلطات تعبيراً عن صراعات بين الأطراف الثائرة، فضلاً عن استدعاء التدخلات الخارجية. إن ما شهده العام 2011، يبين لنا وكأننا إزاء ثورة واحدة في عدد من البلدان التي تتشابه أنظمتها الأحادية. ويمكن القول إنها ثورات تتجاوز كل الشعارات والأيديولوجيات والمتظاهرون في الميادين والساحات، شغلتهم الحرية المفقودة والكرامة المهدورة قبل أي شيء آخر. إن مشهد العالم العربي بعد ثورات 2011 أقرب إلى المشهد التأسيسي الذي يستدعي فيها حضور الدولة بعد انهيارها، لكن بشروط وآليات جديدة، لكن الأحداث والظروف لا تتكرر. إذا كانت ثورات مطلع القرن العشرين قد أرست أسس الدولة وأطلقت حريات المرأة والشباب والرأي، كما أطلقت النزعات الوطنية والقومية، فإن أموراً متشابهة حدثت بعد 2011، فقد شهدت حضور المرأة والشباب في المظاهرات وكسر حواجز الخوف. كذلك عودة السياسة بما تعنيه حق "الشعب" الانتظام في الأحزاب والتعبير عن الرأي، وخوض الانتخابات. إلا أن عودة السياسية تصطدم بتعثر إنشاء كيانات سياسية ذات برامج واضحة، تلك الوقائع التي يعوقها انتشار الأمية السياسية والأمية المرتفعة، والفقر والتأخر الثقافي. إن أوروبا المستعمرة لم تعد مصدراً للأفكار الكبرى، فالتحرر اليوم ليس من الاستعمار وإنما من الأنظمة الأحادية. إن ثورات العالم العربي لا تدفعها الأفكار الكبرى، وإنما تدفعها قضايا العيش والعدالة الاجتماعية. فالحركات الإسلامية التي تصدرت المرحلة الانتقالية عرقلت المسعى الذي من أجله قامت الثورات والمتمثل بإزالة الأحادية، وتداول الحكم. لذا فإن حضور حركات الإسلام السياسي، والتي أثارت برامجه، ردود فعل لدى القوى المدنية والأحزاب اليسارية، لم يكن سوى التعبير عن الصراع بين الحركات الدينية وبين الرافضين للأنظمة ذات المرجعية الدينية. إن القوى المعارضة لحركات الإسلام السياسي تتمثل بفئات المواطنين التي تدافع عن المكتسبات التي أحرزتها خلال مئة سنة، من خلال حريات المرأة والتنوع الثقافي والحرية الفردية فضلاً عن استقلال القضاء ومبدأ الدولة المدنية.لقد كان للأفكار دورها الحاسم في ثورات بداية القرن العشرين، "حيث لعب المثقفون أدواراً بارزة في صياغة بنى الدولة ومؤسساتها، فضلاً عن تأثيرهم في إنشاء الأحزاب، وكانوا صلة الوصل بين مجتمعاتهم والثقافة المعاصرة. أما اليوم فلا دور مؤثر للمثقفين في ثورات 2011 ولا دور لمؤسسات الثقافة، ولا لأحزاب سوى تلك التي تمثل بقايا أحزاب خمسينيات القرن الماضي. إن تراجع دور المثقف يعزى إلى ما مارسته الدولة الأحادية التي لا تحتاج إلى دور للثقافة، ويعزى إلى تضاؤل دور الأفكار التي تسعى إلى صياغة مستقبل المجتمعات، الأمر الذي أدى إلى شغل الأفكار الدينية للفراغ الذي حققه غروب عصر الأيديولوجيات والأفكار".إننا إزاء حلقة "مثلثة الزوايا، الدولة الأحادية تطارد الأفكار وتلغي دور المثقفين، وغياب الأفكار يمهد السبيل أمام انتشار التدين والإسلام السياسي، وتبرز الأنظمة التسلطية سياساتها بأنها تحارب التطرف الديني والإرهاب".لقد كسرت الثورات هذه الحلقة، "لذا يحتاج العرب إلى أفكار تتناسب مع روح العصر الذي يعيشه العالم والمستقبل الذي ينتظرنا. ولا يتحقق ذلك إلا بنشوء جيل ثقافي يتمتع بالاستقلال في الرأي، ويعيد النظر بكل الأسس الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والسياسية التي تحكم الحاضر"، ينهي زيادة كتابه بذلك.