توهم كثير من الناس أن العنصرية قد انتهت للأبد بانهيار نظام الميزالعنصري الذي كان قائما تحت سلطة البيض في جنوب إفريقيا قبل 1994. فقد كان اعتلاء مانديلا الذي أصبح لاحقا يحمل لقب أيقونة الحرية و السلام لرئاسة جنوب إفريقيا قد حمل معه الكثير من الآمال لكل المناهضين للعنصريةو خصوصا للأفارقة المضطهدين من العنصرية المقيتة في جنوب إفريقيا . و لكن هؤلاء مع ذلك ظلوا مشدودين إلى عدة نقاط أخرى من العالم كانتلعنصرية ما تزال تعشش فيها و من بينها الولاياتالمتحدةالأمريكية ينتظرون زوال هذا الكابوس المرعب في التاريخ الإنساني. و بنجاح باراك حسين أوباما ذو الأصول الكينية الإفريقية في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في الرابع نوفمبر 2008 و تنصيبه في العشرين يناير 2009 الرئيس الرابع والأربعين لأمريكا هلَّل العالم كله للحدث ، حالما أنظاهرة العنصرية قد انتهت إلى غير رجعة و خصوصا أن ذلك الوافد الجديد إلى البيت الأبيض كان يشعر قبل ذلك بأنه كان يعاني من عنصرية مسلطة عليه وعلى بني جلدته، و أنه كان متأثرا ببعض الكتابات و الأفكار المناهضةلعنصرية و خاصة أفكار فرانز فانون مثلما ورد في السيرة الذاتية التي تضمنها كتابه : باراك أوباما أحلامٌ مِنْ أَبِي قِصَّةُ عِرْق و إرث.. و لكن أمريكا التي أعادت انتخاب الرجل الأسمر باراك حسين أوباما من جديد للمرة الثانية ضد رجل أبيض هو ميت رومني في الرابع نوفمبر 2012 كانت ما تزال تُصَنَّف في ذلك العام بالضبط البلد العنصري الأول إلى جانب إسرائيل و إسبانيا و ألمانيا و النمسا و غيرها ضمن قائمة الدول العشرة الممارسة للعنصرية في العالم . و الراجح أن معظم الدراسات و البحوث تؤكد أن التوجه العنصري الحالي لمعظم الدول العشرة المصنفة بممارسة العنصرية باستثناء رواندا و الأرجنتين اللتين تعانيان من عنصرية عرقية محلية موجه ضد الإسلام و الجاليات المسلمة . و قد أحيا العمل الإرهابي الذي تعرض له طاقم مجلة شارلي ايبدو الفرنسية الساخرة مطلع جانفي الجاري ظاهرة العداء الغربي للمسلمين وحرَّك مَوْجةَ العنصرية ضد الإسلام و المسلمين، إذ راحت كثير من الأحزاب و الشخصيات والأقلام المتطرفة في الغرب عموما تُحْيِ بقوة ظاهرة الإسلامو فوبيا ،وهي ظاهرة بدأت تتمدد و تستفحل خصوصا بعد أحداث سبتمبر 2001 في الولاياتالمتحدة ،و إن كان الواقع يُرْجِعُ بروز هذه الظاهرة إلى عام و قد عرَّف مركز الدراسات البريطاني راني ميد تروست Runnymede trust مصطلح الإسلاموفوبيا بالخوف و كراهية الإسلام . و يعمل أنصار هذا النهج الذين يصفون المسلمين كما جاء ذلك في تعليق لصحيفة دير شبيغل الألمانية ب الجرذان و رعاة الإبل على تنقية الغرب من الإسلام و إرغام المهاجرين المسلمين عموما و العرب خصوصا من مغادرة الأراضي الأوروبية و غرس ثقافة حاقدة لنبذهم اجتماعيا و اقتصاديا و ثقافيا قصد تقليص رقعة الإسلام في أوروبا . و يبدو أن هذا القلق ليس مرده العمليات الإرهابية التي يتبناها بعض المتطرفين المحسوبين ظلما على الإسلام ،و لكن خلفياته عنصرية أساسا يُغذِّيها رجالُ دين و متطرفون خصوصا في ظل تزايد إقبال آلاف الغربيين على الإسلام . لقد كان الاعتقاد السائد أن أحداث سبتمبر 2001 ستؤدي إلى تراجع أعداد المقبلين على الإسلام و لكن الإحصائيات بيَّنت أن عدد المقبلين على الإسلام تضاعف منذ تلك الأحداث في أمريكا وحدها أربع مرات ، بحيث تذكر الإحصائيات أن 25000 أمريكي يقبلون على الإسلام سنويا منذ أحداث الحادي عشر سبتمبر 2001 . و اعتنق 4000 مواطن ألماني الدين الإسلامي في الفترة الممتدة ما بينجويلية 2004 و جوان 2005 ، أي أربع مرات زيادة عن العام الذي سبقه في2003 . و يبلغ عدد المسلمين في أوروبا حاليا 30 مليون نسمة من بين 700 مليون ساكن في القارة الأوروبية. و تعد فرنسا البلد الأول من حيث عدد المسلمين الذين يبلغون بها ستة ملايين مسلم، إذ يعتبر الإسلام الديانة الثانية في هذا البلد بعد المسيحية الكاثوليكية. لقد ازداد قلق اليمين الأوروبي من هذه الكثافة الإسلامية ، حتى أن صحيفة ,)فرانكفورت الماينن تسايتونغ( وصفت ما يحدث بأنه منحى معركة حضارات. و تقود تنظيمات متطرفة موجة من العنصرية تجاه تجاه الجالية المسلمة ، حيث باتت ظاهرة العنصرية هذه تشكل لونا جديدا من أشكال الصليبية الجديدة ضد المسلمين و الإسلام، و تشكلت لهذا الغرض حركات عنصرية في مقدمتها ما يُعْرَف ب )حركة أوروبيون وطنيون ضد أَسْلَمَةِ الغرب( . و لكن ليس معنى هذا أن جميع الغربيين يؤيدون هذه الظاهرة العنصرية المقيتة ، فهناك جمعيات و سياسيون و مثقفون و شخصيات مرموقة و رجال قانون و اقتصاد يقفون بالمرصاد لهذه الظاهرة التي تتنافي مع أبسط المبادئ والشعارات التي قامت عليها بعض الديمقراطيات الغربية و من بينها الثورة الفرنسية صاحبة شعار : الحرية ، الإخاء ، المساواة . و يصف )جاك لانغ(أحد السياسيين البارزين ووزير الثقافة الفرنسي الأسبقهذه الظاهرة التي تغذيها في فرنسا خصوصا الجبهة الوطنية بقيادة ماري لوبان و قبلها والدها ذو السجل الإرهابي الأسود في الجزائر بقوله : )إنها نبتة سامة تترسخ في المجتمع ( . ناهيكم عن النازية الجديدة في ألمانيا و موجة العنصرية الضاغطة في العديد من البلدان الأوروبية و التي مكنت اليمين من إحراز نتائج باهرة في الانتخابات المحلية و التشريعية في سبع دول من بينها السويد التي فاز فيها 20نائبا ينتمون لليمين ،و هو أول انتصار لهذا التيار في هذا البلد. و بذلك يبلغ عدد البلدان الأوروبية التي بدأ اليمين يكتسح فيها الساحة السياسية و يتبوأ مراكز حساسة 13 بلدا . و يَبْني هؤلاء فلسفتهم على ضرورة بلورة ما يصطلحون عليه بت )تطهير أوروبا من الإسلام( باعتباره الخطر القادم حسب زعمهم. لقد كان من نتائج هذه السياسة أن العنصرية ضد المسلمين لم تعد تقتصر على اللحية و الحجاب و الصلاة في المساجد التي طالها الحرق و الاعتداء ، بل أصبح الأطفال و التلاميذ و هم رمز البراءة في المدارس، و كذا الطلاب في الثانويات و الجامعات لكل أشكال العنصرية المطبقة عليهم من قبل بعض المربين و المعلمين و الأساتذة ،و صاروا يعانون من ضغوط نفسية كبيرة تمتد حتى إلى الامتحانات ، ناهيكم عن الحرمان من العمل و من الترقية للعمال المسلمين مثلما تؤكده العديد من الشهادات و المقالات في هذا الشأن . إنه بإمكان المرء أن يتساءل عن سرِّ هذه الموجة الجديدة من العنصرية الغربية تجاه المسلمين . هل سببها فقط الأعمال الإرهابية المنسوبة إلى متأسلمين، و لا أقول مسلمين حتى لا نظلم الإسلام ، أم أن أسبابها ترجع لعوامل أخرى في مقدمتها الخوف المتزايد من قبل المتطرفين انتشار الإسلام ؟. لقد نَبَّه بعض المفكرين الغربيين و من بينهم مفكرون أمريكيون مباشرة بعد اندحار الشيوعية وانهيار الاتحاد السوفييتي و سقوط حائط برلين إلى الخطر القادم المتمثل في الإسلام حسبهم. و لذلك راحوا يُنظرون لفكر جديد قائم على مواجهة الإسلام و محاربة المسلمين بعد الانتهاء من محاربة الخطر الشيوعي. و لذلك فبغض النظر عمَّن كان وراء أحداث سبتمبر 2001 و تأسيس القاعدة و ظهور بن لادن الذي استُخْدِمَ قبل ذلك ك )مجاهد( لمحاربة النظام الشيوعي في أفغانستان و من ورائه القوة السوفياتية ، ثم اختفاء بن لادن في عملية مسرحية أدى فيها بدايةً دور البطل ثم دور المجرم و الإرهابي لاحقا بعد رَمْيِ جثته في البحر ليبتلعه الحوت و يدفن معه سره !!. و بغض النظر عن مزاعم أسلحة الدمار الشامل التي كانت الشماعة وراء العدوان على العراق و تدميره في 2003 و ما قبلها في مسلسل جرَّه إليه الطعم الذي نصبته السفيرة الأمريكية السابقة ببغداد آنذاك للرئيس العراقي الراحل صدام حسين، و بغض النظر عن مجريات ما وُصِفَ ب الربيع العربي الذي كان وراء تدمير عدد من البلدان العربية برعاية غربية صهيونية كان بطلها بامتياز برنار ليفي ، و بغض النظر عن هذه )الداعش( التي تُقَدِّم صورة مسيئة للإسلام و المسلمين بتبنيها للقتل الجماعي للأبرياء و السبي والاغتصاب لفتيات في عمر الزهور، و بغض النظر عمن أنشأ داعش هذه، أهي السي أي أمريكا أو موساد تل أبيب ، أم كليهما معا بالتفكير و المال و الدعم اللوجيستي؟ بغض النظر عن كل هذا و غيره ، فإنني أود أن اسأل بكل براءة هؤلاء الغربيين الغارقين الآن في هذه الموجة العنصرية الحاقدة و المدمرة ضد الإسلام و المسلمين عن الهدف من حملتهم هذه ؟ و في نفس الوقت أود أُذَكِّرهم هل سمعوا صوتا جزائريا واحدا لسياسي أو لمفكر أو مسؤول جزائري في أي موقع كان في ظل الأزمة التي عشناها في تسعينيات القرن و هو يهاجم المسيحية كدين و المسيحيين رغم أننا كنا نعرف أن هناك مَنْ كانوا يغذون جزائريين من بني جلدتنا بالمال و الأفكار ليقوموا بما قاموا به ضد شعبهم باسم الإسلام ..و كنا نعرف و كان هؤلاء يتساءلون معنا أو خلف ظهورنا بمختلف الوسائل المجندة ضدنا سؤالا غريبا لم يكن بريئا بالمرة : مَنْ يَقتُل مَنْ في الجزائر ؟ كنا نعرف من الذي يخطط لمن شرَّعوا آنذاك في القتل و الإرهاب ضد شعبهم و إخوانهم و محاولة تحطيم بلدهم باسم الجهاد و الإسلام المفترى عليه ، و مَن يدفع الأموال فوق الطاولة و تحتها و عبر وسطاء عرب و غير عرب ، و من يدرب ، و من يُنَظِّر عبر فتاوى مغلوطة ما َأنزل الله بها من سلطان .. كنا نعرف كل هذا و أكثر من هذا ،و لكننا صبرنا و قاومنا بل و ما نزال صابرين مقاومين ضد إرهاب لا لون و لا دين و لا أخلاق و لا إنسانية له، و لم نستخدم لا ورقة الإسلام و لا ورقة المسيحية و لا رائحة العنصرية في تحميل المسؤولية لأطراف خارجية لا نزعم أننا كنا نعرف قصدها لأننا نعرف أن استخدام مثل هذا الفعل أمر نتن ممجوج و مبغوض إنسانيا و دينيا، لأن القتل و التحريض على القتل و الإرهاب أمر مرفوض. فنحن انطلاقا من قيمنا و ديننا نكره الإساءة للآخرين و نكره الإرهاب و نمقته، و نكره قتل الأبرياء. و لذلك فإن هذه الصيحات الغربية المتصاعدة اليوم هنا و هناك في الغرب ضد المسلمين و الإسلام لا تسيء سوى لأصحابها ..لأنه حتى لو تعرض المسلمون اليوم للعنصرية و للاضطهاد مثلما تعرضوا له في إسبانيا قبل خمسة قرون خلت فإن الإسلام له رب يحميه انطلاقا من الآية الكريمة : يريدون ليُطْفئِوا نور الله بأفواههم و الله مُتِمٌّ نورَه و لو كره الكافرون . الأكيد أن انبعاث هذه العنصرية الجديدة المقيتة في الغرب اليوم لن يطفئ نور الإسلام حتى لو أوقفوا بناء المساجد و المآذن ، حتى لو أخرسوا أصوات المؤذنين ، حتى لو استخدموا عنصرية مقيتة ، حتى لو جندوا العملاء للقيام بعمليات إرهابية باسم الإسلام. ذلك أن الإسلام سيبقى رمزا لقيم التسامح و المحبة بين أمم الأرض جميعا.. و لن يكون وسيلة لعبث العابثين و لا وسيلة لزرع بذور الفتنة و العنصرية البغيضة التي يريدون إحياءها اليوم . و من الأكيد أن ما قام به هؤلاء الشبان الطائشون من عملية إجرامية شنيعة في قلب باريس ضد طاقم جريدة لم يَسلم منها لا المسيحيون و لا المسلمون و لا اليهود ى عمل إرهابي لا يمت للإسلام بصلة، بل هو عمل مدان لأن قتل الناس بسبب أفكارهم و معتقداتهم لا يقبله لا العقل و لا الدين. و يبقى أن هذا التحريض العنصري ضد المسلمين و الإسلام الذي صاحب هذا العمل الإرهابي الجبان مدان أيضا، و لا يجب أن يتحول إلى انبعاث عنصري جديد يغذي الكراهية و الحقد بين المسلمين و المسيحيين و غيرهم ،وهو يبعث على إحياء الصليبية من جديد بعد أن عشَّشَت في أوروبا لمدة عشرة قرون كاملة من القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر ميلادي. وإنه لحري بأحرار أوروبا سياسييها وجمعياتها و مثقفيها خصوصا أن يدينوه و ينددوا بأصحابه و متبنيه، مثلما علينا نحن في العالم الإسلامي أن ندين كل عمل إرهابي مهما كان شكله و طبيعته و مهما كان أصحابه و القائمون به .