هذا النص مأخوذ من مذكرات الراحل غابرييل غارسيا ماركيز "عشت لأروي " ترجمة صالح علماني، الصادر عام 2005 عن دار المدى. كانت رياح الصابيات الشمالية قوية جدا في تلك الليلة، فتكلفت جهدا كبيرا في المرسى النهري لإقناع أمي بالصعود إلى المركب. وقد كانت على حق. فتلك المراكب هي تقليد مصغر لسفن نيو أورليانز البخارية، ولكن بمحركات تعمل بالبنزين، تبعث رجفة حمى خبيثة في كل من هو على متنها. وكانت في المركب قاعة صغيرة فيها حلقات من الحبال على مستويات متعددة، لتعليق أراجيح النوم، ومقاعد خشبية يمكن لكل واحد أن يرتاح عليها، مزاحما بالمناكب، كيفما يستطيع مع أمتعته المفرطة، وحزم البضائع، وأقفاص الدجاج، وحتى الخنازير الحية. وكان هناك عدد ضئيل من القمرات الخانقة، في كل واحدة منها سريران عكسريان، وتشغل تلك القمرات، على الدوام تقريبا، عاهرات بائسات يرثى لهن، يقدمن خدمات مستعجلة خلال الرحلة. وبما أننا لم نجد في نهاية الأمر أي قمرة فارغة، ولم نكن نحمل كذلك أراجيح نوم، فقد هجمنا، أنا وأمي، على كرسيين معدنيين في الممر الأوسط، وتهيأنا لقضاء الليل هناك. ومثلما حدست أمي، فقد ضربت العاصفة المركب المتهور بينما نحن نعبر نهر مجدلينا، الذي يتحول إلى مزاج محيطي عند مصبه. كنت قد اشتريت في المرفأ مؤونة جيدة من أرخص أصناف السجائر، مصنوعة من تبغ أسود، وبورق ينقصه القليل ليصبح أسمر. وبدأت أدخن على طريقتي آنذاك، بإشعال سيجارة من عقب أخرى، بينما أنا أعيد قراءة رواية ويليم فوكنر "نور في آب". وكان فوكنر آنذاك أوفى شياطيني الأوصياء. تشبثت أمي بمسبحتها، وكأنها تتمسك بملفاف رافعة رحوية يمكنها أن تسحب جرارا أو أن تحمل طائرة في الجو. وكما هي عادتها، لم تطلب شيئا لنفسها، وإنما الازدهار والحياة المديدة لأيتامها الأحد عشر. ولابد أن صلاتها قد وصلت إلى حيث يجب أن تصل، لأن المطر تحول إلى الوداعة، عندما دخلنا القنال. وتحرك الهواء بخفة تكفي فقط لإبعاد البعوض. خبأت أمي عندئذ المسبحة وراحت تراقب، مطولا وبصمت، جلبة الحياة التي تدور في ما حولنا. كانت قد ولدت في بيت متواضع، ولكنها ترعرعت في الازدهار العابر الذي وفرته شركة الموز. وقد بقي لها من كل ذلك، على الأقل، التربية الجيدة التي تلقتها كطفلة غنية في مدرسة تقدمة العذراء المقدسة، في سانتا مارنا. وكانت، خلال عطلات عيد الميلاد، تطرز على الطارة مع صديقاتها، وتعزف على الكلافيكورديو في الأسواق الخيرية، وتحضر مع عمة مرافقة، أشد حفلات الرقص انتقائية من تلك التي تقيمها الارستقراطية المحلية الورعة. ولكن أحدا لم يكن يعرف لها أي خطيب عندما تزوجت، رعم إرادة أبويها، من عامل التلغراف في القرية. وكانت أبرز مزاياها منذ ذلك الحين هي حسن السخرية والصحة الحديدية التي لم تستطع مكايد الرزايا والشدائد أن تهزمها خلال حياتها المديدة. أما أكثر مزاياها مفاجأة، وأقلها منذ ذلك الحين إثارة للشبهة أيضا، فهي موهبة رقتها التي أتاحت لها إخفاء قوة طبعها الرهيب: إنها برج أسد مكتمل. وقد وفر لها ذلك فرض سلطة أمومية تصل سيطرتها إلى أبعد الأقارب المقيمين في أماكن لا تخطر على بال، مثل نظام كوكبي تتحكم به من مطبخها، بصوت خافت، ودون أن يرف لها جفن تقريبا، بينما هي تسلق قدر فاصولياء. لدى رؤيتها تتحمل تلك الرحلة القاسية، دون أن يطرأ عليها أي تبدل، تساءلت كيف استطاعت الإذعان لمظالم الفقر بكل تلك السرعة، وكل ذلك التحكم بالنفس. ولم يكن هناك مثل تلك الليلة للتأكد من ذلك. فالبعوض الضاري، والحر الكثيف المقزز، بسبب وحل القنوات الذي كان المركب يحركه في مروره، وجلبة المسافرين المؤرقين الذين لا يجدون راحة ضمن جلودهم. كان كل شيء يبدو وكأنه معد عمدا لزعزعة أشد الطباع فولذة، كانت أمي تتحمل كل ذلك، وهي ثابتة في كرسيها. بينما فتيات الاستئجار يحنين حصاد كرنفال في القمرات القريبة، متنكرات كرجال أو "مانولات" (1). كانت إحداهن قد دخلت وخرجت من قمرتها عدة مرات، وفي كل مرة مع زبون مختلف، بجوار مقعد أمي بالضبط. وقد ظننت أنها لم تلحظ ذلك. ولكنها بعد المرة الرابعة أو الخامسة لدخول الفتاة وخروجها، لاحقتها بنظرة رثاء حتى نهاية الممر، وتنهدت قائلة: - يا للفتيات البائسات! ما عليهن عمله لكي يعشن أسوأ من الشغل. بقيت أمي على تلك الحال حتى منتصف الليل، عندما تعبت من القراءة مع الاهتزاز الذي لا يطاق وشح أنوار الممر، فجلست أدخن بجانبها، محاولا الخروج من ورطة رمال كونتية يوكناباتافا (1). كنت قد هجرت الجامعة في السنة السابقة، معللا النفس بالوهم الجريء في العيش من الصحافة والأدب دون حاجة إلى تعلمهما، متحمسا لعبارة أظن أنني قرأتها لبرنارد شو: "منذ طفولتي المبكرة اضطررت إلى قطع تعلمي لكي أذهب إلى المدرسة". ولم أجرؤ على مناقشة الأمر مع أحد، لأنني كنت أشعر، دون أن أتمكن من تفسير ذلك، بأن مسوغاتي لن تكون نافعة إلا لي أنا بالذات. محاولة إقناع أبوي بمثل هذا التصرف الجنوني، بعد أن عقدا علي آمالا كبيرة وأنفقا نقودا كثيرة لم يكونا يملكانها، هو إضاعة للوقت. ولا سيما أبي الذي يمكن له أن يغفر لي أي شيء، باستثناء عدم تعليق شهادة جامعية، لم يستطع هو الحصول عليها، على الجدار. انقطع الاتصال بيننا. وبعد مرور سنة تقريبا، كنت ما أزال أفكر في زيارته لأقدم له مبرراتي، عندما ظهرت أمي لتطلب مني مرافقتها لبيع البيت. ومع ذلك، لم تأت هي على أي ذكر للمسألة إلى ما عدا منتصف الليل، في المركب، عندما أحست، كوحي خارق، بأنها وجدت أخيرا الفرصة المناسبة لتقول لي ما كان، دون ريب، السبب الحقيقي لرحلتها. وبدأت بالطريقة والنبرة والكلمات الموزونة بدقة، والتي لا بد أنها قد أنضجتها في وحدة أرقها، قبل وقت طويل من بدئها الرحلة. - أبوك حزين جدا - قالت. ها هو ذا إذا الجحيم المرهوب. بدأت كعادتهاو في وقت لا يخطر على بال، وبصوت هادىء لا يمكن لأي شيء أن يبدله، لمجرد أن تستكنل الطقوس، لأنها كانت تعرف جوابي جيدا، فسألتها: - ولماذا هو حزين؟ - لأنك تركت الدراسة. - لم أتركها - قلت لها - وإنما غيرت الدراسة فقط. - أبوك يقول إنه الشيء نفسه. - فقلت لها، وأنا أعرف أن ما أقوله زائف: - وهو نفسه ترك الدراسة أيضا ليعزف الكمان. - الأمر ليس مماثلا - ردت بحدة كبيرة - لقد كان يعزف الكمان في الحفلات والسيرانادات فقط. وإذا كان قد ترك دراسته، فلأنه لم يكن يملك ما يأكله. ولكنه في أقل من شهر، تعلم مهنة التلغراف، وهي مهنة جيدة آنذاك، ولا سيما في آاراكاتاكا. - وأنا أيضا أعيش من الكتابة للصحف - قلت لها. - أنت تقول هذا كي لا تعذبني. ولكن سوء حالك يظهر عليك من بعيد. وإلا كيف لم أتعرف عليك عندما رأيتك في المكتبة. - وأنا أيضا لم أتعرف عليك. - ولكن ليس للسبب نفسه. لقد ظننت أنك متسول صدقات - ونظرت إلى صندلي، وأضافت: - ودون جورب. فقلت لها: - هذا مريح أكثر. قميصان وسروالان داخليان: واحد أرتديه وآخر يجف. ما الذي أحتاجه أكثر من هذا؟ - قليل من الكرامة - قالت هي. ولكنها لطفت على الفور بنبرة أخرى: - أقول لك هذا لأننا نحبك كثيرا. - أعرف ذلك. ولكن أخبريني، لو أنك مكاني، أما كنت ستفعلين الشيء نفسه؟ - ما كنت لأفعله - قالت - إذا كنت سأخالف أبوي بذلك. تذكرت عنادها الذي تمكنت به من كسر معارضة أسرتها للزواج، فقلت لها ضاحكا: - تجرئي على النظر في عيني. ولكنها تحاشتني بجدية، لأنها كانت تعرف تماما ما الذي أقكر فيه. وقالت: - لم أتزوج إلا بعد أن حصلت على مباركة أبوي. بالقوة، أجل، ولكنني حصلت عليها. قطعت النقاش، ليس لأن حججي أقنعتها، وإنما لأنها أرادت الذهاب إلى المرحاض وهي لا تثق بظروفه الصحية. فتحدثت إلى معاون الربان، لأسأله إذا كان هناك مكان أكثر نظافة، لكنه أوضح لي أنه هو نفسه يستخدم المرحاض العمومي. ثم قال، كما لو أنه قد انتهى توا من قراءة كونراد: "جميعنا متساوون في البحر". وهكذا خضعت أمي إلى قانون الجميع. وعندما خرجت، وعلى عكس ما كنت أخشاه، لم تستطع منع نفسها من الضحك إلا بصعوبة وهي تقول لي: - تصور، ما الذي سيظنه أبوك بي إذا ما رجعت إليه مصابة بأحد أمراض الحياة الخبيثة؟ بعد انقضاء منتصف الليل، تعرضنا لتأخير دام ثلاث ساعات، ذلك أن تشابك الزنبقيات والأعشاب المائية في القنال عطل مراوح الدفع، فحاد المركب إلى منبت أشجار مانغي وكان على مسافرين كثيرين أن يسحبوه من الضفاف، بحبال أراجيح النوم. صار الحر والبعوض لا يطاقان. ولكن أمي تخلصت منهما، بوميض إغفاءات آنية ومتقطعة. وهي حالة مشهورة في الأسرة، أتاحت لها الاستراحة دون أن تفقد خيط المحادثة. وعندما استؤنفت الرحلة وهبت النسمة الباردة، استعادت صحوها كاملا. وتنهدت: -لابد لي، على كل حال، من أن أحمل جوابا إلى أبيك. فقلت لها بالبراءة نفسها: - من الأفضل ألا تقلقي. في شهر كانون الأول سأذهب بنفسي، وعندئذ سأوضح له كل شيء. - ما زالت هناك عشرة شهور. - لا يمك في نهاية المطاف إصلاح أي شيء بشأن الجامعة هذه السنة - قلت لها. - هل تعني حقا أنك ستذهب؟ - أعدك - قلت لها، ولمحت لأول مرة، شيئا من الجزع في صوتها: - هل يمكنني أن أقول لأبيك إنك ستقول له نعم؟ فأجبتها: بحزم: - لا، هذا لا بدا جليا أنها تبحث عن مخرج آخر، ولكنتي لم أمنحها إياه. - من الأفضل إذا أن أقول له الحقيقة كلها منذ الآن، وهكذا لن يبدو أن هناك خدعة. فقلت لها براحة: - حسنا، أخبريه. اتفقنا على ذلك. ويمكن لمن لا يعرفها أن يفكر في أن كل شيء قد انتهى عند ذلك الحد، ولكنني كنت أعرف أنها مجرد هدنة لاستعادة الأنفاس. بعد قليل نامت بعمق، هبت نسمة خفيفة أبعدت البعوض وأفعمت الهواء الجديد برائحة أزهار. وعندئذ اكتسبت المركب رشاقة سفينة شراعية. كنا في ثيناغا غراندي (1) (المستنقع الكبير)، وهو أسطورة أخرى من أساطير طفولتي. فقد أبحرت فيه عدة مرات، عندما كان جدي الكولونيل نيكولاس ريكاردو ماركيز ميخيا - الذي كنا، نحن أحفاده، نسميه باباليلو - يأخذني من أراكاتاكا إلى بارانكيا لزيارة أبوي. «يجب عدم الخوف من الثيناغا (المستنقع)، وإنما احترامه"، كان قد قال لي، متحدثا عن نزوات مياهه غير المتوقعة، فهي قد تتصرف مثل مستنقع راكد أو مثل محيط هائج. في فصل الأمطار يكون تحت رحمة عواصف سلسلة الجبال. ومنذ كانون الأول حتى نيسان، عندما يفترض أن يكون الطقس هادئا، تفسده الروائح الكريهة وريح الشمال بهبات قوية، تجعل كل ليلة فيه مغامرة. لم تكن جدتي لأمي، ترانكيلينا إغواران - مينا - تتجرأ على اجتيازه، إلا في الحالات المستعجلة والطارئة الكبرى، بعدما حدث، إثر رحلة مرعبة اضطروا خلالها إلى البحث عن ملجأ حتى الفجر في مصب نهر ريوفريو. لحسن الحظ أن المستنقع كان هادئا في تلك الليلة. فمن نوافذ مقدمة المركبة، حيث خرجت للتنفس، قبل الفجر بقليل، كنت أرى أنوار مراكب الصيد التي لا يحصى عددها، تطفو مثل نجوم على سطح الماء. وكان الصيادون غير المرئيين يتبادلون الحديث كما في الزيارات، إذ كان للأصوات وقع خاص في جو الثيناغا. وبينما أنا متكىء على الحاجز، أحاول أن أتبين شبح سلسلة الجبال، فاجأتني، على حين غرة، ضربة مخلب الحنين الأولى. في فجر يوم آخر مثل هذا، بينما كنت أجتاز ثيناغا غراندي، تركني باباليلو نائما في القمرة، وذهب إلى حانة المركب. لست أدري كم كانت الساعة، عندما أيقظتني جلبة أناس كثر من خلال أزيز المروحة الصدئة واهتزاز صفائح القمرة. لم أكن، على ما أظن، قد تجاوزت الخامسة من عمري. وأحسست برعب شديد، ولكن الهدوء ما لبث أن ساد من جديد. وفكرت في أنه قد يكون حلما وفي الصباح، وكنا قد وصلنا إلى مرسى ثيناغا، كان جدي يحلق ذقنه بموس حلاقة، والباب مفتوح والمرآة معلقة في إطاره. الذكرى دقيقة: لم يكن قد ارتدى قميصه بعد، ولكنه كان يضع فوق قميصه الداخلي حمالتي بنطاله المطاطيتين الأبديتين، العريضيتين الموشاويتين بخطوط خضراء. وبينما هو يحلق، كان يواصل الحديث مع رجل، ما زال بإمكاني، حتى اليوم، التعرف عليه من النظرة الأولى، كان له بروفيل غراب، لا يمكن الخطأ فيه، ووشم بحار على اليد اليمنى، ويعلق حول عنقه عدة سلاسل ذهبية ثقيلة، وأساور وسلاسل أخرى، من الذهب أيضا، في معصميه كليهما. كنت قد انتهيت من ارتداء ملابسي، وجلست على السرير لأنتعل حذائي. عندما قال الرجل لجدي: - لا تشك في ذلك أيها الكولونيل. ما كانوا يريدون فعله بك، هو إلقاؤك إلى الماء. فابتسم جدي دون أن يتوقف عن الحلاقة، ورد بترفع هو من خصاله الخاصة جدا: - لحسن حظهم أنهم لم يتجرؤوا. عندئذ فهمت فضيحة الليلة السابقة، وأحسست بالتأثر لفكرة أن هناك من كان يمكن له أن يلقي بجدي إلى البحيرة. ذكرى هذه الحادثة التي لم تتضح أبدا، فاجأتني في ذلك الصباح الذي ذهبت فيه مع أمي لبيع البيت، بينما أنا أتأمل ثلوج سلسلة الجبال التي تبدو، في الفجر، زرقاء مع أول خيوط الشمس. التأخير في القنوات، أتاح لنا أن نرى في وضح النهار، حاجز الرمال المشعة التي تفصل البحر عن البحيرة، حيث توجد قرى صيادين، الشباك فيها معلقة لتجف على الشاطىء، والأطفال المتسخون والضامرون يلعبون كرة القدم، بكرة من الخرق، كان من المؤثر رؤية صيادين كثيرين في الشوارع، مبتوري الأذرع، لأنهم لم يلقوا قطع الديناميت في الوقت المناسب. ولدى مرور المركب، راح الأطفال يغوصون في الماء، بحثا عن القطع النقدية التي يلقي بها المسافرون. كانت الساعة توشك على بلوغ السابعة، عندما بدأنا الرسو في مستنقع منتن على مقربة من بلدة ثيناغا. تلقفتنا جماعات من الحمالين الغائصين في الوحل حتى ركبهم، وحملونا حتى رصيف المرسى، وسط زحام نسور رخمة تتنازع قذرات المستنقع الموحل. كنا نجلس إلى إحدى موائد المرفأ، نتناول بتمهل، فطورا من أسماك البحيرة اللذيذة وشرائح موز أخضر مقلية، عندما جددت أمي هجوم حربها الشخصية. فقالت دون أن ترفع بصرها: - قل إذن مرة واحدة، ما الذي سأقوله لأبيك؟ حاولت كسب وقت للتفكير. - حول أي شيء؟ فقالت بشيء من النزق: - حول الشيء الوحيد الذي يهمه، دراستك. وقد حالفني الحظ بوحود زبون فضولي، مشدود إلى حدة الحوار، أراد أن يعرف مبرراتي. وجواب أمي الفوري لم يخفني قليلا فقط، وإنما فاجأني إقدامها عليه، وهي الغيورة جدا على حياتها الخاصة. قالت: - المسألة أنه يريد أن يصير كاتبا. فرد الرجل بجدية: - يمكن للكاتب الجيد أن يكسب مالا وفيرا، ولاسيما إذا كان يعمل مع الحكومة. ولا أدري إذا ما كانت أمي قد تحاشت الموضوع بدافع الحذر والتحفظ، أم خوفا من حجج محاورها الطارىء. ولكنهما انتهيا إلى التأسي لحالة التردد التي يعيشها أبناء جيلي، وتبادل الحنين إلى الماضي. وأخيرا، جرجرا أسماء معارف مشتركين، وانتهى بها الأمر إلى اكتشاف أننا أقرباء من ناحيتين، من ناحية آل كوتيس، وناحية آلي اغواران. وكان ذلك يحدث لنا في تلك الحقبة، مع كل شخصين من كل ثلاثة أشخاص نلتقي بهم في منطقة ساحل الكاريبي. وكانت أمي تحتفل بذلك في كل مرة، كحدث فريد. ذهبنا إلى محطة القطار، في عربة من طراز فيكتوريا، يجرها حصان واحد، ربما هو الأخير من سلالة منقرضة في بقية العالم. كانت أمي تمضي ساهمي؟؟؟؟، تنظر إلى السهب القاحل والمتكلس بملح البارود الذي يبدأ من موحلة المرفأ ويضيع في المدى. لقد كان المكان تاريخيا بالنسبة إلي: ففي الثالثة أو الرابعة من عمري، في أثناء رحلتي الأولى إلى بارانكيا، أخذني الجد من يدي، عبر ذلك القفر الملتهب، سائرا بسرعة ودون أن يقول لماذا. وفجأة وجدنا نفسينا قبالة امتداد شاسع من الماء الأخضر فيه تجشؤات زبد، ويطفو فيه عالم كامل من الدجاج الغارق. وقال لي: - هذا هو البحر. فسألته، وقد خاب أملي، عما يوجد في الضفة الأخرى، فأجابني دون أن يتردد في الأمر: - في الجانب الآخر، لا توجد ضفة. اليوم، بعد رؤيتي لبحار كثيرة من الوجه والقفا، مازلت أفكر بأن ذلك الجواب هو إحدى إجاباته العظيمة، وعلى أي حال، لم يكن أي من تخيلاتي المسبقة، يتفق مع ذلك البحر الوسخ، الذي يستحيل المشي على شاطئه النيتراتي، ما بين أغضان أشجار المانغلي المتعفنة وشطايا فتات الأصداف: لقد كان رهيبا. لابد أن أمي كانت تحمل الفكرة نفسها عن بحر ثيناغا، لأنها، ما إن رأته يظهر إلى يسار العربة، حتى تنهدت: - ليس هناك بحر مثل بحر ريوهاتشا! رويت لها، في تلك المناسبة، ذكرايات عن الدجاجات الغارقة، فبدا لها ذلك، مثل جميع الكبار، أنه من تهيؤات الطفولة. ثم واصلت بعد ذلك، تأمل كل مكان نصادفه في طريقنا، وكنت أعرف، من تبدلات صمتها، ما الذي تفكر فيه، وهي ترى كل مكان، مررنا قبالة "حي التسامح" على الجهة الأخرى من خط القطار، ببيوته الصغيرة الملونة ذات السقوف الصدئة، وببغاواته الهرمة من بارامايبو التي تدعو الزبائن بالبرتغالية، من الحلقات المعلقة بأفاريز الأسطح. مررنا بمنهل القاطرات، ذي القبة الحديدية الهائلة التي تأوي إلى النوم فيها الطيور المهاجرة والنوارس التائهة. مررنا بمحاذاة المدينة، دون أن ندخل إليها، ولكننا رأينا الشوارع الفسيحة والكئيبة، وبيوت الازدهار الغابر، المؤلفة من طابق واحد ذات النوافذ الكبيرة، حيث كانت التمارين على البيانو، تتوالى دون توقف منذ الفجر. وفجأة أشارت أمي بإصبعها. وقال لي: - انظر هناك انتهى العالم. تابعت الاتجاه الذي أشارت إليه، ورأيت المحطة: بناء من أخشاب متهالكة، بسقف من التوتياء المموج، وشرفات ناتئة، وأمامها ساحة صغيرة مقفرة لا يمكن لها أن تتسع لأكثر من مئتي شخص. لقد قتل الجيش هناك في سنة 1928، كما أكدت لي أمي في ذلك، عددا لم يتم تحديده قط من عمال مزارع الموز المياومين. وكنت أعرف ذلك الحدث، كما لو أني قد عشته، بعد أن سمعت جدي يحكيه ويكرره ألف مرة، منذ أن صار لي ذاكرة: الضابط يقرأ القرار الذي اعتبر فيه العمال المضربين عصبة من الأشرار، والثلاثة آلاف رجل وامرأة وطفل ظلوا ثابتين في أماكنهم، تحت الشمس الرهيبة، بعد أن منحهم الضابط مهلة خمس دقائق لإخلاء الساحة، أمر إطلاق النار، أزيز زخات الرصاص المتأججة، أصيب الحشد المحاصر بالهلع، بينما هم يقلصونه شبرا فشبرا، بمقص الرشاشات المنهجي والنهم. يصل القطار، عادة إلى ثيناغا في التاسعة صباحا، فيحمل ركاب المركب ومن ينزلون من سلسلة الجبال، ويواصل طريقه، متوغلا داخل منطقة مزارع الموز، بعد ربع ساعة من ذلك، وصلنا أنا وأمي إلى المحطة، بعد الساعة الثامنة، لكن القطار تأخر، ومع ذلك، فقد كنا الراكبين الوحيدين، وقد انتبهت هي إلى ذلك، منذ دخلنا العربة الخاوية، فهتفت بمزاج احتفالي: - يا للترف! القطار بكامله لنا وحدنا! لقد فكرت على الدوام في أنه كان ابتهاجا متكلفا تواري به خيبة أملها، فصروف الزمن كانت بادية للعيان بكل وضوح في حالة العربات. إنها عربات الدرجة الثانية القديمة، ولكن دون مقاعد الخيزران، ودون الزجاج الذي يمكن رفعه وإنزاله في النوافذ، وإنما بمقاعد خشبية دبغتها مؤخرات الفقراء الملساء الدافئة. وقد بدا القطار بكامله، وليس تلك العربة وحدها، شبحا لنفسه بالمقارنة مع ما كان عليه في الماضي. لقد كانت فيه من قبل ثلاث درجات. الدرجة الثالثة التي يسافر فيها أفقر الناس، وعرباتها هي الأقفاص نفسها، المصنوعة من ألواح خشبية، لنقل الموز أو مواشي الذبح، وقد كيفت للمسافرين بمقاعد طولانية من الخشب الخام. والدرجة الثانية، فيها مقاعد من الخيزران وإطارات برونزية. أما الدرجة الأولى التي يسافر فيها أناس الحكومة وكبار موظفي شركة الموز، فهناك سجاد في ممرها ومقاعد فارهة مغلقة بقطيفة حمراء، يمكن تبديل أماكنها. وعندما يسافر مراقب الشركة الأعلى أو أسرته، أو ضيوفه البارزون، تشبك في آخر القطار، عربة فاخرة ذات نوافذ من البلور الشمسي وأفاريز مذهبة، وشرفة مكشوفة فيها مناضد صغيرة من أجل تناول الشاي، السفر. ولم أتعرف على كائن فإن رأى عربة الأحلام تلك من الداخل. لقد كان جدي عمدة مرتين، ولديه فوق ذلك مفهوم سعيد عن النقود. ولكنه لم يكن يسافر في الدرجة الثانية، إلا إذا كان برفقته إحدى نساء الأسرة. وعندما يسألونه لماذا يسافر في الدرجة الثالثة، بحيث: "لأنه لا وجود لرابعة". مع ذلك، فإن أهم ما يذكر في القطار، في أزمنة أخرى، هو دقة مواعيده، فساعات القرى كانت تضبط على صفيره. في ذلك اليوم، لسبب أو لآخر، انطلق القطار متأخرا ساعة ونصف الساعة. وعندما بدأ انطلاقه، ببطء شديد وصرير كئيب، رسمت أمي إشارة الصليب. ولكنها عادت على الفور إلى الواقع، وقالت: - هذا القطار بحاجة إلى زيت في نوابضه. كنا المسافرين الوحيدين، ربما في القطار كله، ولم يكن هناك حتى تلك اللحظة، أي شيء يثير في اهتماما حقيقيا. غرقت في سبات "نور في آب"، مدخنا دون توقف، مع نظرات سريعة ألقيها بين حين وآخر للتعرف على الأماكن التي نخلفها وراءنا. اجتاز القطار، بصفير طويل، مستنقعات ثيناغا، ودخل بسرعة قصوى في ممر مترجرج من صخور مائلة إلى الحمرة. فصارت قرقعة العربات لا تطاق. ولكن السرعة خفت بعد نحو خمس عشرة دقيقة، ودخل في لهاث مكتوم، إلى ظلال برودة المزارع، وصار الطقس أشد كثافة، وتلاشى الإحساس بنسيم البحر. لم أكن مضطرا إلى قطع القراءة، لأعرف أننا قد دخلنا مملكة مناطق الموز الكتمية والغامضة. تبدل العالم. فعلى جانبي سكة الحديد، راحت تمتد دروب المزارع المتناسقة وغير المتناهية، حيث كانت تمضي عربات تجرها الجواميس، محملة بقطوف الموز الخضراء، وفجأة، وفي فراغات مباغتة خالية من الزرع، تظهر هناك معكسرات من الآجر الأحمر، ومكاتب لنوافذها زوائد ملحقة، فيها مراوح ذات أذرع معلقة في السقوف، ومستشفى متوحد في حقل شقائق نعمان. كل نهر وله قريته وجسره الحديدي، حيث يمر القطار مطلقا ولولاته، فتقفز الفتيات اللواتي يستحممن في المياه الجيليدية، مثل أسماك شابل، لدى مروره، ليشوشن المسافرين بنهودهن العابرة. في قرية ريوفريو، صعدت عدة أسر من هنود أورهاكو، محملين بحقائق ظهر مترعة بثمار الأغواكاني الجبلية، وهي الأشهى مذاقا في البلاد. ذرعوا العربة متقافزين في كلا الاتجاهين، باحثين عن مكان يجلسون فيه. ولكن لم يبق في العربة، عندما استأنف القطار سيره، سوى امرأتين بيضاوين، معهما طفل حديث الولادة، وخوري شاب. لم يتوقف الطفل عن البكاء طوال بقية الرحلة. أما الخوري فكان ينتعل جزمة ويعتمر قبعة كشاف، مثل شراع، وكان يتكلم، في الوقت الذي كان فيه الطفل يبكي، ودائما، كما لو أنه على منبر الكنيسة، وموضوع موعظته هو احتمال عودة شركة الموز. منذ غادرت هذه الشركة لم يكن هناك حديث آخر في المنطقة، وكانت وجهات النظر منقسمة بين من يريدون أن تعود، ومن لا يريدون، ولكن الجميع يعتبرون عودتها أمرا مؤكدا. الخوري كان ضد عودتها، وقد فسر ذلك بسبب شخصي جدا، إلى حد بدا معه جنونيا للمرأتين: - الشركة تخلف الخراب أينما مرت. كان هذا هو الشيء الأصيل الوحيد الذي قاله. ولكنه لم يتمكن من شرحه. وقد انتهى الأمر بالمرأة التي تحمل الطفل إلى تخطئته، بحجة أنه لا يمكن للرب أن يكون متفقا معه. لقد محا الحنين، كالعادة، الذكريات السيئة، وضخم الطيبة. ليس هناك من ينجو من آثاره المخربة. كان الرجال الجالسون عند أبواب بيوتهم، يظهرون من نافذة العربة، وكانت رؤية وجوههم كافية لمعرفة ما ينتظرونه. والغسالات على الشواطىء النيتراتية ينظرون إلى مرور القطار بالأمل نفسه. فهم جميعهم يرون في كل غريب يأتي حاملا حقيبة رجل أعمال، رجل اليونايتد فروت كومباني العائد لإعادة إقرار الماضي. في كل لقاء، وفي كل زيارة، وفي كل رسالة، تطل عاجلا أو آجلا، الجملة القدسية: "يقولون إن الشركة راجعة" ليس هناك من يعرف من قال ذلك، ولا متى، ولا لماذا قاله، إنما لم يكن هناك من يشك فيه. كانت أمي تظن أنها قد شفيت من كل ذعر مفاجىء، فبعد موت أبويها قطعت كل علاقها بها بآاراكاتاك. ومع ذلك، كانت أحلامها تخونها. فعلى الأقل، عندما يكون لديها حلم، يهمها كثيرا أن ترويه أثناء الفطور، يكون مرتبطا دوما بحنينها إلى منطقة الموز، كانت قد تجاوزت بمشقة أقسى فترات حياتها، دون أن تبيع البيت، بوهم الحصول، مقابله، على مبلغ يزيد أربعة أضعاف عندما ترجع الشركة. وأخيرا هزمها ضغط الواقع الذي لا يطاق. ولكنها حين سمعت الخوري يقول في القطار إن الشركة على وشك الرجوع، أومأت بحركة مكروبة، وقال لي في أذني: - من المؤسف أننا لا نستطيع الانتظار لوقت آخر قصير، كي نبيع البيت بسعر أعلى. بينما الخوري يتكلم، مررنا، عرضا، بقرية يجتمع في ساحتها حشد من الناس، وفرقة موسيقية تعزف لحنا مرحا، تحت الشمس الملتهبة. جميع تلك القرى كانت تبدو لي متشابهة على الدوام. وعندما كان باباليلو يأذخذني إلى سينما أولمبيا التي يملكها دون أنطونيو داكونتي، كنت ألاحظ أن محطات القطارات، في أفلام رعاة البقر، تشبه محطات قطارنا، وفيما بعد، عندما بدأت بقراءة فوكنر، وجدت أيضا أن قرى رواياته تبدو مماثلة لقرانا. ولم يكن ذلك مفاجئا، لأن هذه الأخيرة بنيت تحت الإشراف المخلص لليونايتد فروت كومباني، وبأسلوبها المؤقت نفسه، في بناء معسكرات عابرة. إنني أتذكر تلك القرى جميعها، بكنيستها التي في الساحة، وبيوتها الصغيرة، كما في قصص الحوريات، المطلية بألوان أولية. أتذكر فرق المياومين السود، وهم يغنون عند الغروب، وغالبونات (1) المزارع، حيث يجلس العمال لرؤية مرور قطارات الشحن، والحدود بين المزارع، حيث كان يطلع الصباح على عمال القطاف بمناجل المتشيتي مقطوعي الرؤوس في عربات السكر، أيام السبت. أتذكر المدن الخاصة بالغرينغيين في آراكاتاكا، وفي سيبيا، على الجانب الآخر من سكة الحديد، مسيحة بشباك معدنية كأنها أقفاص دجاج هائلة مكهربة، يطلع عليها الصباح في أيام الصيف الباردة وقد اسودت بعصافير السنونو المحروقة. أتذكر مروجها البطيئة المزرقة بالطواوويس وطيور السماني، ومساكنها ذات السقوف الحمراء والنوافذ المشبكة، والمناضد المستديرة، مع كراس قابلة للطي من أجل تناول الطعام على الشرفة، بين أشجار نخيل، وشجيرات وردة معفرة، وأحيانا، تظهر من خلال سياج الأسلاك، نساء جميلات وضامرات، بفساتين من الموسلين وقبعات كبيرة من الشف، يقطفن أزهار حدائقهن بمقصات ذهبية. منذ طفولتي لم يكن سهلا تمييز بعض القرى عن غيرها. وبعد مرور عشرين سنة، كان الأمر أصعب، فقد سقطت، عن بوابات المحطات، اللوحات الخشبية التي تحمل الأسماء الشاعرية - توكورينكا - غاماتشيتو، نيرلانديا، غواكامايال - وجميعها كانت أكثر وحشة وخرابا مما هي عليه في الذاكرة. توقف القطار في سيبيا في حوالي الحادية عشرة والنصف صباحا، لاستبدال القاطرة والتزود بالماء، خلال خمس عشرة دقيقة بدت لا نهائية. وهناك بدأ الحر. وعندما تجدد المسير، كانت القاطرة الجديدة تقذفنا عند كل منعطف بدفقة من هباب الفحم، تدخل من النافذة التي لا زجاج لها، وتغطينا بثلج أسود. كان الخوري والمرأتان قد نزلوا في إحدى القرى، دون أن ننتبه إلى نزولهم، فزاد ذلك من إحساسي بأنني أنا وأمي نسافر وحيدين في قطار لا أحد. وبينما هي جالسة قبالتي، تنظر من النافذة، أزاحت عنها إغفاءتين أو ثلاثا، ولكنها تنشطت فجأة، وأفلتت مرة أخرى السؤال المرهوب: - والآن، ما الذي سأقوله لأبيك؟ كنت أفكر في أنها لن تستسلم أبدا، وستواصل البحث عن خاصرة ضعيفة تكسر من خلالها قراري، كانت قبل قليل من ذلك قد اقترحت بعض صيغ الالتزام التي استبعدتها دون تقديم حجج. ولكنني كنت أعرف أن تراجعها لن يكون طويلا. ومع ذلك فقد أخذتني على حين غرة في هذه المحاولة الجديدة. فأجبتها بهدوء أكبر من المرات السابقة، وأنا أعد نفسي لمعركة عقيمة أخرى: - قولي له إن الشيء الوحيد الذي أريده في الحياة، هو أن أكون كاتبا. وسوف أسير كذلك. فقالت: - هو لا يعترض على أن تكون ما تشاء، على أن تنال شهادة في أي شيء. كانت تتكلم دون أن تنظر إلي، متظاهرة بأنها مهتمة بمحادثتنا، أقل من اهتمامها بالحياة التي تمر من خلال النافذة. - لا أدري لماذا تلحين إلى هذا الحد، مع أنك تعرفين جيدا أنني لن أستسلم - قلت لها فنظرن إلى عيني على الفور وسألتني مبهورة: - ولماذا تظن أنني أعرف؟