تعتبر المسألة الوطنية من العوامل التي تجعل الفرد يقترب من الحالة الجغراسياسية بوسائط الحفر في التاريخ الوطني والتعالق مع مختلف انعطافاته وتوتراته لأجل الحسم في الانتماء وكافّة العلاقات التي يمكن أن تنجز الوطن كمخيال يتلبس الذات، يصاحبها ويساهم في نسج رؤيتها للواقع والعالم والذات، هذا كله بعيدا عمّا يمكن أن يفهم منه الحسم في وطنية الأفراد، لأنّ ذلك يرتبط ابتداء بالوجود في الدائرة الجغراسياسية التي تشكل ما يدعى وطنا، والكل حسب هذا المقياس يمتلك وطنيته. ما نريد تحريكه هو إعادة الإقبال على التاريخ الوطني ورمي حجر في ماء المعرفي الراكد، وترتيب إواليات العلاقة الحفرية فيه بما يؤسّس لوطنية ابستمولوجية قابلة لأن توسّع مجال إدراك الوطن وخلخلة صورته النّمطية. ابتداء عند استعراض التاريخ الوطني بكل زخمه الثوري، تتعدّد أمام تلقينا المشهدية القرائية، وتستعد الجيلية كي تفرض بعضا من توسّماتها، لأنّ ليس كل الفصائل اندرجت في تمحيص الظاهرة التاريخية المرتبطة بالوطنية في شقّها الثقافي، ولهذا عندما يجمع ويختار ويقدّم "جون ديجو" jean déjeux، بعض النصوص المرتبطة بالشأن الوطني لعديد من المفكرين والكتاب الجزائريين، ويجعل لها عنوانا "الثقافة الجزائرية من خلال النصوص"، فهو يحيل بمعنى من المعاني على ما ندّعي أننا فهمناه في قصديته، أي البحث عن وطنية معيّنة داخل النص، أو ما أستطيع تسميته "الوطنية الإبستيمولوجية". ليس غريبا أن نلحظ ذلك التوجّه الفرنكوفوني في الجزائر لمقاربة التاريخ الوطني معرفيا ونقديا، لأنّ التيار الفرنكوفوني كان مرتبطا باليسار، الذي يشهد له بالحفر في النص والقراءة النقدية في الواقع النصي أو الحركي، لأنّ مشكلة اليسار مع العدالة الاجتماعية في شقها النّضالي المبتعث داخل أوساط الشغّيلة والمستويات المحرومة من المجتمع، أو ما أصبح يصطلح عليه "مجتمع العشوائيات"، كونه "مجتمع الهامش"، أي يختزن الدّلالة الرّمزية على عنف التخلي والتّهميش لفئات واسعة من المجتمع لصالح فئة قليلة تستحوذ على المقدرات الطبيعية والاقتصادية للوطن، وهو القصد الرّمزي الذي يلتصق بقوة بالاستعماري الذي أقصى الهوية الوطنية كلية ورام إحلال هوية بديلة، أو حتى بالقائم بأمر السلطة الوطني في بعض الحالات، وكان مدعاة لنشوء الحركات الاحتجاجية والمطليبة، وهو ما مثل عنفا رمزيا يُستشهد به كلما وصلت الظاهرة الوطنية في مسلكها المعرفي والوجودي والنّضالي، حالة من حالات التأزيم والمأزقية النّاجمة عن تخلي السلطة في القيام بدورها في إدارة الشأن العام عن طريق التسيير السياسي الراشد، والعدالة في توزيع الثروة وتوفير التوازن المعقول بين المداخيل والمصاريف، أي رواتب معقولة، فمحمد الصديق بن يحيى يرى في معنى أن أكون اشتراكيا، هو وسيلة تقنية لاستدراك التأخير الاقتصادي، طبعا، لكن أيضا ترقية الفكرة عن الإنسان، وما يجب أن تكون عليه العلاقات الاجتماعية، فالاقتصاد والإنسان والعلاقات الاجتماعية هي محور اهتمام اليسار. عن طريق تلك العناصر الثلاثة تتجلى مهمة اليسار وطبيعة تواجده الوجودية، والتي تتمثل أساسا في التغلغل داخل الأوساط الشعبية، ومراقبة تطوّر الحركة الاجتماعية، ومواكبة النّضالات الفئوية، ومن ثمّ محاولة الرّصد المعرفي/السّسيولوجي لما هو قائم على الواقع، ولهذا اتّسم الطرح اليساري بالواقعية والسّرديات اليسيرة، والمكثفة بالهم الاجتماعي المتاخم للمعرفي والتنقيبي، ومن هذه العلاقة ما بين النّضالية داخل الكيان التّنظيمي والحركة الجماهيرية على الأرض، نشأت النصية اليسارية مكتظة بالأنين الجماهيري والوطنية الإبستيمولوجية، أي المقاربة المعرفية لنبض الحركة المجتمعية المعرّفة داخل الجغراسياسية الوطنية، وهو ما يعيبه اليسار وطنيا على الفصائل السياسية المختلفة، فالقراءة تمثل الباب الأوسع لفهل حركة الذات داخل الوطن والعالم، وفي هذا يختلف مصطفى لشرف مع محمد ديب والذي يقول رغم أنه يعتبره من أكبر روائيينا، إلا أنّه يختلف معه في تأكيده على أنّ: "ذاكرة الشعب الجزائري هي مكتبتنا الوطنية"، ذلك أن الذاكرة الوطنية غير قادرة على تسجيل أو الاحتفاظ بتذكارات الأحداث البعيدة في التاريخ، ويرى بأنّ حتى المتعلمين في الحقبة الاستعمارية وخصوصا منذ الثلاثينيات أو ما قبلها بقليل أو معلّميهم لم يكونوا على دراية بابن خلدون، وهو يشك في أن الأمير عبد القادر نفسه اطلع عليه، بالرّغم من سعة معرفته، ولا شك في أن مصطفى لشرف يصدر في هذه الرّؤية عن نقدية للاتجاه المعرّب في الجزائر وعدم قدرته على ارتياد آفاق البحث والاطلاع المختلف والمتعدّد لمصادر المعرفة، كما أتيح ذلك للفرنكفوني الذي انفتح على الثقافة الفرنسية التي تتأسّس متنوعة ومتعدّدة وناقدة، وهو ما قد يناقش فيه مصطفى لشرف، حيث يعتبر اليسار أن الحركة الإصلاحية لم يكن لها زخم المشاركة في إثراء الحركة الثقافية الوطنية، وهو حينما يقول هذا فلا شك أنّه يتكئ على أرضية من الوقائع الدالة، ليس أقلها السّبق الأدبي الفركفوني في ريادة الرّواية، ذلك أنّ التواصل مع المنجز الأدبي الفرنسي أدّى إلى تطوّرها وتملكها رصن المبادرة، فكاتب ياسين ومحمد ديب ومولود فرعون ومعمري وغيرهم، منحوا النص الرّوائي الوطني مكانته المحلية والعالمية، وكذلك يمكن مقاربة الفكر، وخصوصا من الناحية التحليلية للموقف الوطني إزاء إشكالياته الداخلية وعلاقاته الخارجية، من حيث البحث في التراث السياسي والاجتماعي والثقافي للذاكرة الوطنية، وهو ما لم نلمس عمقه لدى النخبة المعرّبة، لكن هذا لا يمنع من أن الاتجاه المعرّب كان له الموقف الذي ينفلت من الحكم التّعميمي الذي أطلقه مصطفى لشرف في انعدام تواصل الفكر المعرّب مع ابن خلدون. يمكن أن نتفق مع مصطفى لشرف وبتحفظ حول الثقافة العربوفونية التي هيمنت عليها النصوصية التراثية، وظلت حبيسة التّعامل مع الواقع بمباشرة ووفق أدوات لم تستطع أن تصل بالرّؤية العربوفونية إلى مستويات التواصل مع المنجز العالمي، وحتى الرّؤية للمسألة الوطنية كانت تتم وفق النص الماقبل نهضوي المنسجن داخل تزيينات السّجع والسياق اللغوي الحافل بالبلاغة، مما جعله لا يلمس عمق الدراية التحليلية والتفكيكية التي تحاور مناطق الإنكسار وترمم رتقها عن طريق تفتيت عناصر الاستعصاء إلى معطياتها الواقعية التي تجعل الذات الوطنية في محل موقع من المعادلة العالمية، وهو ما سينعكس على النص الذي سوف يؤسّس لأدبيات الجيل الصّحوي، أو ما عرف بالصّحوة الإسلامية، التي تجلت مراسيم تدشينها للمشاركة في ترميم المشهد الوطني من خلال العموميات النصية التي تمتح من النّفس التراثي البعيد عن واقع الميكانزمات التحليلية والتفكيكية لمختلف المسأليات المطروحة والمؤسَّسة كإشكالات مواجِهة ومتحدية للعقل والفكر الوطنيين، ولعل ذلك، طبعا في حدودٍ ودون تعميمٍ، يمثل أزمة الخطاب المعرّب، ولا أدل على ذلك من استعراض المقال الصحفي في الجرائد الوطنية، ففي شقه الفرنكوفوني، يلمس القارئ التناول في الجوهر، من حيث ثراء اللغة ورصانتها المتأتيتين من امتلاك ناصية تأويلاتها ومضامينها المسايرة لحركة التفعيل سوسيولوجيا وفلسفيا ومنطقيا ونفسيا أيضا، وبالمقابل مازال الخطاب الصحفي المعرّب سجين السطحية والتعامل اليومي مع اللغة، وكأنّ المقال ما هو إلا ترديد لحديث المقهى في ملفوظيته المخفّفة، والخالية من جماليات التحليل والثقل البلاغي المتوافق مع مرحلية التفاعل اللغوي مع منجز العلوم الإنسانية. إنّ ما نطمح إليه من خلال هذه الرّؤية ليس ترسيما لحدود قد تؤسس لقطيعة ما أو مجموعة من القطائع، بل لعل هذا يؤدي إلى خلق مساحات جديدة من التواصل، انطلاقا من قراءة مختلفة لطرق الترميم وليس شد مناطق الإنكسار وتعميق الشروخ التاريخية بين النخب المختلفة، إن ما يمكن أن نسمه بأزمة الفكر الوطني، يمكن أن يُشخص في حالة الجدران القائمة بين النّخب المعرّبة والمفرنسة، وهو الألم التاريخي الذي بدأ منذ أن تفجر الصراع حول الهوية واعتبر كلا الاتجاهين الإصلاحي والعلماني ذاته كرد فعل بالنسبة للآخر، واستبعدت كافة الطرق التقريبية بينهما وامتدّت الشروخ إلى الرّاهن، وهو ما حرم كلاهما من فرص استلهام روح وعمق ما لديهما من قيم ورؤية لكتابة الذات الوطنية الجديدة، وانسجن كل منهما داخل أسواره الذاتية حماية له من خطر الآخر الوطني. إن ما ورد لدى المفكر والسياسي عباس فرحات من رؤية حول "ليل الإستعمار" تنطرح كاستمرار وإضاءة في سياق ما طرحه الشيخ عبد الحميد بن باديس في رؤيته حول طموح النشء، حين قال: "يا نشء أنت رجاؤنا/ وبك الصباح قد اقترب"، ونلمس هنا "صباح الاستقلال"، ولا ينجلي ليل الاستعمار، كما أنه لا يطلع صباح الاستقلال دون ضريبة الثورة والوعي الجديد المتمثل في النشئية القادمة وتحققاتها الحلمية في منظورات الجيل المؤسس. حين مقاربة نتاجات القراءة الإسلاموية للمسألة الوطنية، نجد تقريبا خلو تراثها الفكري من المقاربة التحليلية للمعطى الحدثي الذي شكل ذخيرة الحركة الوطنية، مقارنة مع ما أنجزته النّخبة العلمانية في المجال ذاته، وهذا لا يمس الوطنية في شكل كينونتها كانتماء لجغراسياسية معيّنة، ولكن معنى الوطنية هنا هو التعامل مع الحدث الوطني في شقّه التاريخي وتحليل فحواه كمحاولة لتحديد الموقف من الحركة الوطنية وترسيم حدود الفهم لسيرورتها وحركتها الاجتماعية، وأيضا حركتها في التاريخ، ويبدو أنّ التراثية التي تبرز في فكر الحركات الإسلاموية ككينونة حمائية للذات والهوية من الانصهار داخل المحضن المتعدّد والمختلف، هي ما ساهم في عدم امتلاكها تلك المقاربات، فالأهمّية القصوى للفكر الحركي الإسلاموي تتجلى قوّته في ذلك الصّراع من أجل الانتصار أو ما يبدو كذلك للقيمة الذاتية التي تواجه عنف الآخر الطامح إلى إزالتها والقضاء عليها، وبالتالي انحصر جل النصوصية في إنتاج النصية الدفاعية وإبراز عالمية الفكرة الذاتية، وعالمية الإسلام مرتبطة بمدى حركة الفاعل الإسلامي على الواقع وقدرته على قيادة النص إلى مناطق التفاعل مع الواقع المحلي والكوني، وهو ما يستلزم التسلح بالميكانزم الكوني المنجز ضمن حقول الثقافة والمعرفة الكونيتين، وبالتالي يرتبط تخلي النّخبة الإسلاموية عن تفعيل التحليل التاريخي على غرار ما تمكنت منه النّخبة المفرنسة، كمصطفى لشرف ورضا مالك ومحمد الصديق بن يحيى، عبد المجيد مزيان، ادريس شابو، عبد الحميد بن الزين، بشير حاج علي، والمفكر السوسيولوجي مالك بن نبي..، وهذا مع الاحتفاظ بهامش الاختلاف الجزئي أو التام مع طروحاتهم، ولكن ما نرومه من التدليل بمسارهم هو رؤيتهم التحليلية للتاريخ الوطني واستلهامهم لفكرة التواصل معه لإنتاج راهن وجوديتهم في الجغرافيا والتاريخ، وهو ما ينعدم تقريبا في الرؤية الأخرى نتيجة الحنين الماضوي لبداية الفكرة الإسلامية ومحاولة إنتاج حدثيتها طبقا لظروف حدوثها الأوّل، والهاجس المؤرّق للفاعل الإسلامي المنبثق من الخوف المستمر على تدنيس نقاء الهوية، ويبدو لي أنّ المفصل الحسّاس في الإشكال المتعالق مع تحقيق الكيان النصي للتدليل على رصيد الإتّجاه الإسلاموي في قراءة الذات الوطنية بمدلولات التاريخ الوطني، يكمن في محاولة إعطاء الأولوية لما هو ذاتي حسب ما يفرضه المخيال العالمي الذي يؤسّس له الفكر الذاتي والإهمال في خضم ذلك لما هو تأسيس للمقاربات المقرّبة بين ما هو وطني وما هو إسلامي ضمن حتى السيري، في إفصاح الرسول (ص) عن وجدانياته تجاه مكة حين زاحمه الخروج منها نتيجة ضغط قريش وتضييقهم على العصبة المؤمنة. إنّ أزمة القراءة الوطنية للتراث التاريخي للحركة يندرج في إطار تفعيل الهوية ضمن أبعادها العربية والإسلامية والوطنية، كمحاولة لتقريب الذات من كينونتها المنتجة لواقعها بمعاول المعرفي والإبستيمولوجي، وتكثيف الميراث الفكري بتفريعات الرّؤية المهمومة بما هو تاريخي/جدلي لأنّه يمثل المشترك الذي لا يمكن الاجماع حول الرّؤية والفهم حوله، حيث أن الانتماء للعربي الإسلامي، يتحدّد كما يرى عبد الله شريط في الفهم للمصطلح، فكما يقول، "إن الثقافة الإسلامية تعكس حضارة. والشعوب التي أسلمت، دون أن تكون عربية، أثرت فيها الثقافة العربية بواسطة حضارة، والتي هي في حقيقة الأمر إسلامية". ما يمكن أن نستفيده من هذه الرؤية أن الثقافة تمر عبر الحضارة، وما يحفظ للثقافة العربية مكانتها هو الحضارة الأعم التي تداخلت عناصرها مع موضوعات الثقافة الأصيلة والتي أنتجت في الأخير ذلك المركب، حضارة/ثقافة، والذي تفيض تجلياته من خلال ميكانزمات تلقائية نتيجة للتواشج الوجداني والعقلي والقابلية بين معطيات الثقافة العربية والحضارة الإسلامية، وبالتالي ما ينتصب في المخيال الإسلاموي هاجسا يتحوّل إلى منظومة نتيجة لتفكيك العناصر التي تؤسّس للهاجس معرفيا، ومن خلال ذلك يتّسع الأفق لولوج مدارات الهم الوطني في شقه المعرفي المتعالق مع التاريخي.