بالأمس انطفأت شمعة كانت تشع على الأدبي العالمي من مدينة الجلفة، هذه المدينة عرفت العالمية من خلال احتضانها لأديبنا الراحل (حميد ناصر خوجة) الذي عاش بيننا وتماهى مع ثقافة أولاد نايل بكل أطيافها واختار أن يعيش بكل جوارحه وفكره وأدبه ونسبه طوال هذه السنين التي بدأت عندما كان فقيدنا يتقلد مسؤوليات إدارية في مقر ولاية الجلفة ومناصب عديدة فشلت في أبعاده عن طموحه الأدبي الذي بقي وفيا له طوال حياته، مما جعله ينتسب لجامعة الجلفة ويستلم مهمة الإشراف الإداري على معهد الأدب واللغات بها، ثم تفرغ للتدريس بقسم اللغة الفرنسية حيث أشرف على العديد من رسائل التخرج بالإضافة إلى المساهمة الفعالة في الملتقيات المحلية والوطنية والدولية... وقد كان "ناصر خوجة" مستشارا في إعداد نسخ قاموس لاروس العالمي Larousse باعتباره خبيرا في علوم اللغة الفرنسية وقواعدها، إلا أن مساره الأدبي اقترن بالأديب الفرنسي (جون سيناك) Jean Sénac الذي كان رفيق رحلته الأدبية وموضوع اهتمامه، لأنه كان بكل بساطة من أصدقائه المقربين الذين كانوا يشكلون (حلقة سيناك) cénacle sénaquien ، ومن بينهم رشيد بوجدرة ، جمال الدين بن الشيخ ، ومالك علولة وذلك بعد الاستقلال، نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي بالعاصمة. وما يفسر هذه العلاقة الوطيدة بين ناصر خوجة وسيناك الأديب أنه كان يصنف نفسه كأديب جزائري ويجتهد في التنصل من الأقدام السود ويقترب بشكل اجتماعي وأدبي من الجزائريين الذين قاسمهم مشاعر البؤس والفقر متهما الكنيسة والنظام الفرنسيين في الجزائر بالوقوف وراءه. وهنا ندرك أن الفقيد ناصر خوجة لم يختر هذه الشخصية اعتباطا ولكن لما لمسه في سيناك من ميول صريحة واعتزاز واضح بجزائريته التي جعلته يحرص على البقاء في الجزائر بعد الاستقلال ليساهم في بعث الأدب الجزائري باللغة الفرنسية والتعريف بالعديد من الأقلام التي لولاه لبقيت مغمورة ومن بينها (محمد ديب، مولود فرعون، وكاتب ياسين والرسامة العالمية الشهيرة (بايا)BAYA التي عملت مع بيكاسو الفنان الشهير)، فناصر خوجة حمل على عاتقه مهمة الحفاظ على هذه الشخصية التي تشكل رابطا أدبيا وفنيا رائعا بين أدباء الجزائر وأدباء فرنسا الذين جعلوا من خيالهم وإبداعاتهم الرفع من شأن الثقافة الجزائرية وخصوصياتها على الرغم من سعي المحتل الفرنسي على طمسها بكل الوسائل. إن فقيدنا ناصر خوجة كان أديبا جزائريا بكل عمقه وإبداعه على الرغم من كتابته بالفرنسية، لأنه كان غيورا على وطنه وشعبه ودينه وهذا ما لمسته شخصيا من خلال احتكاكي به لمدة طويلة حيث كنت حريصا على التنقل إلى مسكنه القديم بالقرب من (الخطوط الجوية) بالجلفة لأجده يتأبط قائمة من الجرائد التي كان حريصا على تتبع ما تنشره من أخبار الأدب والشعر يقتنيها من مكتبة (اللهب المقدس) العريقة على الرصيف المقابل لعمارته التي كان يقطن بها قبل أن يرحل عنها لحي بعيد عن وسط المدينة، وكان يتناول الخبر الصحفي بالكثير من النزعة النقدية التي تعكس حنكة كبيرة في الاطلاع على دواليب الحكم في الجزائر ودور الإدارة وقوتها على حسب رأيه في تسيير الشأن العام ، كما كان شديد الاطلاع بكل ما ينشر على الجريدة الرسمية ويزن ذلك بميزانه الشخصي، حيث كنت مهتما بكل ما يصدر من تعليقات على الأخبار وخاصة ما يتعلق بالشأن الجامعي الذي عايش أحداث تدهوره بكل أسف وتألم خاصة بعد (كارثة) نظام (الألم – دي) LMD الذي كان تحولا مؤلما للجامعة الجزائرية عموما وجامعة الجلفة على وجه الخصوص، مما جعله ينسحب من التسيير الإداري مفضلا التدريس والإشراف العلمي على الطلبة الذين كان يتحسر على تدني مستواهم خاصة في مجال اللغات التي تعرف مأساة حقيقية في ولايتنا لأسباب تتجاوز مسؤوليات الجامعة وصلاحياتها. لقد كان الفقيد على الرغم من قصور واضح في الجوانب الصحية، كان حريصا على صيام (الإثنين والخميس) مما يعكس تشبعا عميقا بقيم ديننا الحنيف الذي كان مرجعية أساسية له في كل حديثه ومواقفه، وعلى الرغم من ثقافته الفرنسية لم يكن فرنكوفونيا ولا علمانيا ولا تغريبيا بل حافظ على أصوله العربية الإسلامية نقية من كل الشوائب حتى لقي الله. لقد غبت عنا وفي نفوسنا حرقة وأسى وحزن لفراقك بعد مرض نسأل الله أن يكون مكفرا للذنوب ماحيا للسيئات مثبتا للحسنات، ولكن ابتسامتك المرتسمة على محياك ووداعة طبعك وسهولة معاشرتك وإقبالك على الناس بعفويتك الطبيعية وبشاشتك التلقائية ستبقى دائما أمام أعين من عرفوك وأحبوك. ذهبت وتركت وراءك مكتبة غنية بأعمالك كشاهد على حياة زاخرة بالعطاء والتميز ولكن تركت حقولا من الرداءة والتراجع العلمي والأدبي كانت تثقل كاهل شعورك وتحاول خنق خيالك المبدع، رحلت لأنه حان وقت الرحيل طالما أنه لم يبق لأمثالك من المبدعين ذوي الشعور المرهف والضمائر الشفافة مكانا في هذه الزحمة والفوضى والغثيان، فوادعا أيها الأديب.