لم تكن المحاضرة التي ألقاها الكاتبان الصحفيان "شويحة حكيم" و"بن سالم المسعود" تفكيكا للغز مذبحة الدراويش بقصر الشارف بقدر ما كانت مناسبة للتعرف على جرائم ضد الإنسانية اقترفتها قوات الاحتلال الفرنسي و"تلذّد" ضباطها في ممارستها. المحاضرة التي احتضنها المركز الثقافي الاسلامي ونشّطها السيد "علاء الدين بوشنافة"، بحضور نوعي من مختلف بلديات الجلفة وأطياف مجتمعها، كانت فرصة لتسليط الضوء على مذبحة شهدها قصر الشارف في القرن التاسع عشر وبقيت حبيسة الرواية الشفوية بين من ينسبها إلى القوات الفرنسية وقلة ممن يعزون هذا العمل الى جيش الأمير عبد القادر الذي كانت له مواجهة مع الدراويش (أتباع الطريقة الصوفية الشاذلية الدرقاوية بقيادة موسى بن الحسن المصري) في آفريل 1835. وأكد الباحث شويحة حكيم أن ماهو متداول حول هذه المذبحة تنقصه الدقة من حيث تاريخ ارتكابها وهوية مرتكبها والسبب وراء ذلك وكذلك العدد الدقيق لشهداء المذبحة الذي يُقال أنه 40 أو 80 شهيدا. حيث أشار في هذا الصدد إلى المقال الذي كتبه الصحفي جمال مكاوي بجريدة "اليوم" نقلا عن رئيس جمعية تراث وتاريخ السيد "كمال الشولي"، وكذا المقال الذي كتبته "الجلفة إنفو" بخصوص اكتشاف عظام وجماجم الشهداء أثناء أشغال مد شبكات الصرف الصحي بحي المصلى بمدينة الشارف في فيفري 2016. وفي ظل هذه المعلومات الشحيحة، يقول الأستاذ شويحة، تم الشروع في منهجية بحث تعتمد على مسح تاريخي لأهم الحملات التي شهدها قصر الشارف وكذا ظروفها بالاعتماد على ما توفر من كتب مؤرخين فرنسيين ومذكرات الضباط والوثائق التي توفرت أثناء مجريات البحث فضلا عن التنقل الميداني إلى عين المكان لجمع المعلومات. كما حرص ذات المتحدث على توضيح معنى "الدراويش" الذي يُقصد به أتباع الطريقة الدرقاوية الذين تفرض عليهم الطريقة الابتعاد عن مفاخر الدنيا والزهد والافتقار ومحاربة المحتل الأجنبي. وقد توصل الباحثان الى نتيجة مفادها أن الأمير عبد القادر بريء من هذه التهمة لعدة أسباب مجتمعة منها أنه لم يدخل في نزاع مع قائد الدراويش موسى بن الحسن الدرقاي إضافة إلى أن كل المؤرخين الفرنسيين المهتمين بتاريخ المنطقة لم يتطرقوا إلى تصفية أو حملة تأديبية قادها الأمير في بلاد أولاد نايل أو إحدى قصورها رُغم أن هذا الطرح يخدم السياسة الفرنسية "فرّق تسُد". أما الباحث الأستاذ "بن سالم المسعود"، فقد تطرق في التفاصيل الى عشرية الأربعينات ثم الخمسينات وبعدها الستينات من القرن التاسع عشر والحملات العسكرية الفرنسية التي شهدها قصر الشارف خصوصا وسائر المنطقة عموما. فذكر أن عشرية الخمسينات شهدت حملات في نوفمبر 1852 في اطار مقاومة "شريف ورقلة محمد بن عبد الله" الدي تحصّن أتباعه بالأغواط رفقة أولاد نايل مما أدى الى ارتكاب مذبحة ديسمبر 1852. ولم يستبعد ذات المحاضر أن تكون مذبحة قصر الشارف قد ارتكبت في تلك الفترة ولكن يبقى الاحتمال ضئيلا الى غاية توفر تقارير من الأرشيف الفرنسي. وفيما يتعلق بفترة الستينات، فقد اعتبر المتحدث أن قصر الشارف كان تحت 04 حملات من ماي 1864 الى أوت 1865، وخلال هذه الفترة وقعت عدة معارك وحملات ضد عروش المنطقة من أولاد سيدي عيسى الأحداب وسحاري أولاد ابراهيم وعروش أولاد نايل وأولاد رحمان والزناخرة ومعارك في نواحي عين وسارة والزعفران وتعظميت وحاسي بحبح وقلتة السطل وغيرها. غير ان التقارير شحيحة بشأن هذه الفترة التي تعكس عدم توقف المنطقة عن الجهاد وليس ارتباطه بمقاومة أولاد سيدي الشيخ التي اندلعت في آفريل 1864 ، بيد أن أولاد نايل قد قادوا مقاومة ضد الفرنسيين في سنة 1861 قادها بوشندوقة بمعية السحاري وأولاد سي أحمد وجاء بعد تلك الانتفاضة عصيان عام لدفع الضرائب مما حذا بفرنسا الى ارسال حملة عسكرية في تلك السنة. مذبحة الدراويش ... ربيع 1846 في حديثه عن ارتكاب المذبحة والرأي الراجح بشأنها، استبعد المحاضران إمكانية ارتكابها من طرف الجنرال ماري مونج الذي دخل قصر الشارف سنة 1844 وتوغل في المنطقة بمساعدة جيش خليفة فرنسا على الأغواط "أحمد بن سالم"، ولكنهما ترك المجال مفتوحا إلى غاية توفر الوثائق التاريخية الخاصة بهذه الحملة. أما أهم فترة رجّح فيها الكاتبان ارتكاب مذبحة الدراويش، فهي سنة 1846 التي اعتبراها حبلى بالأحداث في إطار مطاردة الجنرال السفاح "جوزيف فانتيني" المعروف بالجنرال "يوسف". وفي هذا الصدد يقول الباحثان أن أحد قادة قصر الشارف المدعو "الزيتوني" قد نصب كمينا لقائد مكتب العرب بتيارت النقيب الفرنسي "لاكوست" وأسره وسلمه إلى الأمير عبد القادر مما حذا بالجنرال يوسف الى تنظيم حملة ضد تجمع لقبيلة "أولاد سيدي عبد العزيز الحاج" بنواحي "أرزيز" الواقعة بين الشارف والقديد وفي هذه الحملة تم قتل "الزيتوني" ثم قطع رأسه ونقله إلى تيارت لترويع سكانها بمصير من يتحالف مع الأمير. كما تم أيضا في هذه الحملة مصادرة مواشي القبيلة. وبخصوص الحادثة التي ضاعفت من نقمة الجنرال يوسف ضد أهل قصر الشارف فهي أنهم قد اعترضوا سبيل أحد مبعوثي الجنرال يوسف وعاقبوه بسبب كونه خادما للمسيحيين ومعاديا لإخوانه المجاهدين ضد المحتل. وعندما وصل هذا الخبر الى الجنرال يوسف قاد حملة ضد قصر الشارف فيها تم قطع رأس شيخ القصر وقطع الأذنين. ويصف أحد الضباط الفرنسيين أن الجنرال يوسف كان يأخذ معه آذان الرؤوس المقطوعة ويضعها في الماء والملح وقد أهدى الى الحاكم العام "الماريشال بيجو" علبتين من الآذان من هذه الحملة. بينما أرسل أحد ضباطه علبة فيها الآذان الى أهله في مدينة بوردو الفرنسية على سبيل السخرية أنها "محار". وقد ذكر الباحثان عدة أسباب جعلتهما يرجحان بشدة أن مرتكب هذه المذبحة هو الجنرال "يوسف" منها أن أهل قصر الشارف قد احتضنوا الأمير عبد القادر والحاج موسى بن الحسن وبومعزة ومولاي ابراهيم وغيرهما. كما أنهم كانوا السبب في القاء القبض على النقيب "لاكوست" ثم اعدامه من طرف الأمير في مارس 1846 اضافة الى أن الجنرال يوسف قد ارتكب حملات وجرائم ضد كل قبائل أولاد نايل من أولاد سعد بن سالم والمويعدات وأولاد سي أحمد وزنينة. أما أهم عبارة كانت مؤثرة فهي ما نقله الباحثان عن أحد ضباط فرنسا حول مشهد اعدام شيخ قصر الشارف وثباته وعدم توسله للصفح عنه وتفضيله الشهادة في سبيل الله ... حيث يقول الضابط الفرنسي "لقد كان مشهدا يرسم الشخصية العربية ويعكس الشجاعة والإصرار الذين يتحلى بهما المسلمون في مواجهة الموت ... شيخ القصر بقي صامتا أمام الأمر بإعدامه ... السيف لم يكن مشحوذا جيّدا ... واضطر السيّاف أن يضرب العنق سبع مرات إلى أن أسقط الرأس عن الجسد في المرة السابعة ... وخلال هذه المحاولات الفظيعة لم نر على الشيخ أيّ علامات تألّم أو إشارات تذمّر". جدير بالذكر أن الأستاذ حكيم شويحة هو موظف في السلك التقني للمحافظة السامية لتطوير السهوب وهو يحمل شهادة الليسانس في الحقوق وشهادة الكفاءة المهنية في المحاماة وشهادة الليسانس في التاريخ اضافة الى أنه كاتب مساهمات تاريخية في "الجلفة إنفو" وكان يكتب مساهمات في صحيفة "الوسط" منتصف التسعينات. أما الأستاذ بن سالم المسعود فهو كاتب وصحفي استقصائي عمل سابقا بوكالة الأنباء الجزائرية بالبليدة وعمل بجامعة تلمسان وحاليا بجامعة الجلفة وهو يحمل شهادة الليسانس في اللغة الانجليزية وشهادة الماجستير في اللسانيات التطبيقية وحاليا هو يحضر شهادة "الدكتوراه علوم" بجامعة مستغانم.