التاريخ نهر فياض تستمدّ الأمم من روحه قوة الدفع والاستمرار في مسيرتها، ومن أجل أن يبقى ذلك النهر متدفقا قادراً على العطاء لابدّ أن يرفد بكل أسباب القوة التي تمنحه استمرارية أبدية وحيوية خالدة، وتاريخ ثورة الجزائر لن يكتمل دون نفض الغبار عن تاريخ الثورات الشعبية في كل ربوع الوطن، والتي عبّدت الطريق لثورة التحرير الكبرى وكان لها دور كبير في معركة الكفاح المرير. ها نحن اليوم نقف عند شخصية عظيمة ثارت ضد الاستعمار الغاشم، شخصية لم تهدأ ولم تستكن والمستعمر على أرض الوطن، إنها شخصية مقاوم بطل لم ينزل من على حصانه حتى وافته المنية وهو يقارع الاستعمار في نواحي الجلفة، الاغواط، ورقلة و تقرت، هذا الرجل الذي لم يسجل التاريخ له إلا القليل في قصائد قديمة تحمل في طياتها مواقفه التاريخية، كأحد أبطال أولاد نايل، شاع خبره وكثر الحديث حوله عبر الذاكرة الشعبية والمذكرة الفرنسية والمقررات العسكرية، عن مسيرة خاضها برفقة الغيورين على هذا الوطن من صانعي ملحمة تاريخ أبطال الجزائر. من يكون هذا البطل؟ إنه "التلي بن بلكحل بن قريدة" ينتمي الى عرش أولاد سي أحمد من سلالة أولاد نايل ولد بالتقريب عام 1790 في عائلة علم وتقوى، والده "الأكحل" كان شيخا على عرش أولاد سي أحمد، وبعد وفاة والده تولى التلي رئاسة العرش، عايش الأتراك ودخل قصورهم وصارت تربطه ب "يحي آغا " قائد الجيش العثماني بالجزائر صداقة متينة لذا اكتسب حنكة كبيرة ساعدته على قيادة الرجال وتسيير المعارك فيما بعد، وإثر الاحتلال الفرنسي على الجزائر سنة 1830 تغيرت الأوضاع وبرزت إلى الوجود المقاومات الشعبية وفي مقدمتها مقاومة "الأمير عبد القادر الجزائري"، أين تم تعيين الشيخ عبد السلام بن القندوز شيخ أولاد لقويني قائداً على أولاد نايل في بداية الأمر قبل أن يُسلم المهام إلى ابن اخيه " الشريف بلحرش" كما عين لكلّ قبيلة شيخا وكان من بينهم "التلي بن بلكحل" شيخا على أولاد سي أحمد وكان ذلك في حدود سنة 1836م. ومما تداول عن مآثره أنه كان متفوقا في الأدب والفقه والتوحيد والحكمة، يشهد لعائلته بعلو المكانة حيث كانوا يجوبون المدن والزوايا ويدرِّسون القرآن الكريم وأصول الدين، عُرف بالنبوغ في العلم الصحيح والتقوى والشجاعة لا تحركه الأهواء وردود الأفعال، ذو وعي سياسي لا يستهان به وحنكة في تسيير المعارك له شهرة كبيرة بين عروش الارباع وأولاد سيدي نايل، وشاعر يضرب به المثل، كان يشرف بنفسه على تنظيم الصفوف وتوزيع المهام على الفصائل الدفاعية والهجومية للمجاهدين من أتباعه. عقده الذي إشتهر به بين عروش التل والصحراء من بين التنظيمات التي إشتهر بها البطل بين عروش التل والصحراء ما كان يُعرف ب " عقد التلي بن بلكحل" ، وكانت تضرب به الأمثال خاصة عند سكان الجنوب نظراً لتشكيلاته البديعة في ذلك الزمان، والتي توحي بحسن التنظيم، ويتمثل العقد في موكب الإبل المحملة بالنساء والمؤونة والخيم وتتبعه قطعان المواشي، أما فصائل الفرسان فقد كانت تبدو على شكل أجنحة ميمنة وميسرة ومقدمة ومؤخرة بينما كان القائد " التلي بن بلكحل" يتقدم الركب في كوكبة من الفرسان حاملا راية الجهاد. مسيرته وكفاحه مع الأمير عبد القادر الجزائري والعروش الثائرة عندما قدم الأمير إلى المنطقة وأعلن الجهاد ضد المحتلين، كان التلي في مقدمة المقاتلين، وكان يوفر الحماية والدعم لجيش الأمير، ومن بين أهم الحوادث في شهر أوت 1845 مداهمة القوات الفرنسية لعرش أولاد سي أحمد والسكان المجاورين لهم، أين استولت القوات الغاشمة على المواشي ونهبت الحبوب، وعلى إثر هذه الحادثة ثارت العروش المجاورة من اولاد أم هاني، وأولاد سعد بن سالم، ونادوا بالجهاد تحت قيادة "التلي بن بلحكل"، والمعروفة تاريخياً بإنتفاصة "التلي بن بلكحل" وداهموا معسكر العدو بالزعفران، وقتلوا منهم الكثير، ثم اتجهوا نواحي مسعد، وفي طريقهم تشابكوا مع دورية للعدو، هزموها وقتلوا الكثير واستولوا على السلاح والذخيرة. ويمكن القول أنّ أول ما انتظم في منطقة الجلفة هو دولة الأمير عبد القادر - في أرقى شكل- فقد قسّم دولته إلى 8 مقاطعات، حيث اعتبرت منطقة الجلفة المقاطعة الثامنة والتي ترأسها كأحد نواب الأمير "سي عبد السلام بن القندوز" ثم تولاها فيما بعد ابن أخيه " سي شريف بن لحرش"، ونظم الامير منطقة الجلفة إلى 06 مناطق فرعية قام عليها اشخاص هم زعماء القوم، ابطال محاربون وشيوخ زوايا، ومن بين العوامل التي شكلت القوة والعلاقة بين الامير والمنطقة هي الانتماء الثقافي الديني الى الطريقة الرحمانية المساندة للطريقة القادرية بالإضافة إلى الإمكانيات المادية، خيول ليس لها مثيل وثروة ورجال وشجاعة بكل تركيباتهم كوحدة متحدة ذات اخلاق وأهداف موحدة وجهد مشترك خاضوا معارك مع الأمير في الشمال وداخل الولاية. تجول البطل " التلي بن بلكحل" مع جيش الأمير أو العاصمة المتنقلة "الزمالة" شرقا وغربا وكان يوفر الحماية والدعم لجيش الأمير في حلّه و ترحاله ففي سنة 1845 رافق الأمير عبد القادر إلى سيدي بوزيد ومن ثمّ إلى قعدة القمامتة، مخلدا كلمته الشهيرة التي ترددها الأجيال الى يومنا هذا " العرب قع خالفة" وفي طريقهم مروا بقصر زنينة أين تلقاهم أهلها بحفاوة الترحاب وزودوه بالمؤونة والذخيرة، وصلى بهم الأمير وطلبوا منه الدعاء، و قد دعا لهم بدعائه الذي تناقلته الروايات " اللهم أعطي لهذا البلد بركة جبلين" ... انتفاضة "التلي بن بلكحل" .. كان للبطل برفقة الأمير عبد القادر عدة معارك نذكر من بينها معركة "واد يسر" في 05 فيفري 1846 والتي تكبد فيها العدو خسائر جسيمة في الأرواح والعتاد. ومعركة "واد السبع" في 07 فيفري 1846 ، تليها في 13 مارس من نفس السنة معركة "عين الكحلة" وفي 22 مارس اشتباك قرب مدينة زنينة، ثم إلى نواحي بوكحيل اين التحق بالأمير والتحقت بهم جموع من أبطال الأرباع بقيادة "أحمد بن سالم بن دهقان" وفي 6 أفريل 1846 وبعد اشتباك مع قوات فرنسية كانت تتابع أثر الأمير انسحبت على إثره مهزومة، انقسمت قوات المجاهدين على قسمين فرقة بقيت مع الأمير وفرقة اتجهت إلى الغرب باتجاه جبل العمور بقيادة "التلي بن بلكحل" أين التقوا مع "محمد بن عبد الله" شريف ورقلة قرب القرارة ومن ثم اتجهوا الى نواحي بريان وفي طريقهم حدثت أكبر معركة تكبد فيها العدو خسائر جسيمة خاصة في الأرواح وفي شهر جانفي 1851 تشابك "أحمد بن سالم بن دهقان" ( شيخ الحجاج) مع قوات العدو في مدينة "بن داقين" قرب الأغواط وألتحق به "التلي" لنجدته وكان معه نفر من اولاد سي احمد، أولاد لعور، اولاد يحي بن سالم، و أولاد أم هاني، وفرق من الأرباع التابعة للمقاوم " بن ناصر بن شهرة" وكانت معركة كبيرة انتهت لصالح "أحمد بن سالم" وللمجاهدين معركة وصفها أحمد بن سالم في قصيدة وإثرها كتب " ليبراي" للحاكم العام الفرنسي أن أعيان الأغواط متواطئين مع المجاهدين، وفي شهر جوان 1852 كان التجمع الكبير لمقاومي اولاد نايل بقيادة التلي بن بلكحل بقصر الحيران قرب مدينة الاغواط، وكان هذا التجمع في انتظار قدوم شريف ورقلة "محمد بن عبد الله"، وفي جويلية 1852 التحق بالوفود "الشريف بن عبد الله" و"بوشوشة" و"شيخ الشعانبة"، و"سي الزوبير" قائد أولاد زكان من قرية سيدي الشيخ مع الكثير من المجاهدين وأبطال الأرباع بقيادة "أحمد بن سالم"، واتجهوا إلى منطقة الاغواط الثائرة ضد الاستعمار وكان في انتظارهم البطل "يحي بن معمر" مع شباب المدينة، وفي 4 ديسمبر 1852 كانت معركة الأغواط الشهيرة من أكبر المعارك الشعبية أبلى فيها " التلي بن بلكحل" مع جيشه البلاء الحسن حيث سموها أهل المنطقة ب"عام الخلية" لما شهدته من مجازر رهيبة ارتكبها العدو في حق الأطفال والشيوخ والنساء وحرق فيها الكثير في الأكياس "الشكاير" وبهذا الصدد قال العقيد الفرنسي "ثيودور بان Theodore Pein ".. لقد وجدنا من بين الأموات الكثير من أولاد نايل.." معاناته في آخر أيامه .. في شهر جانفي من عام 1854 ظهر البطل في معركة برفقة "أحمد بن سالم بن دهقان" قرب تقرت وحينها جرح وألقي عليه القبض من طرف "سليمان بن علي" قائد تقرت، كما ألقي القبض على رفيقه "أحمد بن سالم " الذي جاء لنجدته، مكثا إلى أن خلصتهم زوجة قائد تقرت والتي كانت من عرش الحجاج ولديها الروح القبلية، فراحت تغري الحراس بالمال ليسهلوا لهما الفرار من السجن، ولما سهل لهم الفرار كانت تنتظرهما كل من معركة "عين الناقة" برفقة أولاد ملخوه ، لتليها معركة "جبل كبرتين"، ثم معركة "حاسي الفتاح" ... وفي 15 جانفي 1854 شنّ "التلي بلكحل" مع أتباعه هجوما على جيش المستدمر الفرنسي بالقرب من "تماسين" وأصيب الشيخ البطل أثناء هذه العملية بإصابة بليغة أسر على إثرها، وبعد مدة من الاعتقال أصدر الحاكم العام عفوا في حقه نظراً لتقدمه في السن مع فرض الإقامة الجبرية، وفي تلك الفترة وصفه "لخضر بن حرفوش" (رفيقه وكاتبه ).. تخلى عليه رفاقه وتشتت أنصاره وبقي وحيدا لا حول ولا صبر يلجأ إليه.. وهكذا ضاقت السبل بشيخ المقاومين إلى أن وافته المنية غرقاً في "واد الحاجية" كما ورد في بعض الروايات.. (*) للموضوع مصادر