الحجر المنزلي يطرح مبدئيا مفارقة عجيبة تتمثل في استنفار جماعي للناس عبر الكرة الأرضية للاختباء في بيوتهم هروبا من فيروس ميكرو فيزيائي متناهي في الصغر، وهو في الحقيقة هروب من بعضهم البعض أو في أفضل الحالات التباعد بينهم بمسافات آمنة حددتها منظمة الصحة العالمية وتناقلتها كل الوسائل والوسائط بلغات مختلفة ولكنها بمضمون واحد. فالدقة اللامتناهية للفيروس وعدم القدرة على رؤيته تزيد من أسباب الهلع والخوف منه، بخلاف المخاطر المرئية التي تشكل تهديدا واضحا يمكن التعامل معه بالشكل المناسب، فالعجز عن رؤية الخطر يجعل الخوف من المجهول هستيريا جماعية بين بعض الأفراد ولكنه مع الأسف يبعث على اللامبالاة إلى حد التهور من أفراد آخرين، وذلك إما لقصور في مستوى وعيهم أو لفهم خاطئ لمدلول القضاء والقدر. وللخروج من هذه الوضعية المبهمة تقر الحكومات الحجر المنزلي وبالتالي يتم فرض (الإقامة الجبرية) على المواطنين في منازلهم كحل توارثته الشعوب والأمم منذ القدم كما ثبت عن الرسول الكريم في حديث اشتهر في هذه الأيام وتداولته الألسن حتى أصبح شعارا في عواصم الشرق والغرب. وفي هذه الحالة ينتقل المكوث في البيت من اختيار طوعي إلى إلزام رسمي، مما يؤدي إلى تغير العلاقة بين المرء ومسكنه الذي يعتبر في تقاليدنا فضاء (نسويا) بامتياز. وعلى هذا الأساس تقتضي هذه الظروف الاستثنائية إعادة النظر في طبيعة العلاقات وتنظيم الأولويات واستغلال الفضاءات داخل المحيط العائلي الذي يغلب عليه طابع (الشقة) ذات الغرف المحدودة. ضف إلى ذلك التواجد المكثف للأبناء أطفالا ومراهقين إثر غلق الجامعات والمدارس وحتى دور الحضانة. وانطلاقا من المثل الشعبي القائل "ضيق المراح يعلمك النزاع" فإنني أترك لكم تصور الوضع الذي آلت إليه العوائل في هذه الفترة غير المسبوقة من حياة المجتمعات. ولكن أمام النزوع الفطري للحياة فإن كل الصعوبات تهون للحفاظ على البقاء، الأمر الذي أدى إلى تكيّف سريع مع الوضع وضمان (التعايش السلمي) داخل الأسر. ومما ساعد على ذلك القدرة على الهروب (الافتراضي) من الحجر عبر منصات التواصل الاجتماعي وغيرها من البرمجيات على الهواتف والحواسيب. ولم تتردد السلطة في تسهيل كل الشروط التي تضمن البقاء (السباتي) في المنازل المكتظة لتلطيف الأجواء والتخفيف من حدة (الاحتكاك). وفي المقابل استرجع البيت العائلي بعضا من عاداته التي فقدها وخاصة بسبب غلق المقاهي التي كانت تستهلك السواد الأعظم من وقت (الذكور) فتوطدت أواسر القرابة بين الأقارب، وأصبحت فرصة للعديد من ربات البيوت لاستغلال التواجد القسري لأصحاب العضلات المفتولة لإنجاز الكثير من مهام التصليح والصيانة التي طالما بقية معلقة لآجال غير مسماة. كما أعادت العديد من الآليات التي تراجعت في عصر ما قبل الكورونا لأسباب وجيهة وأخرى واهية، كإنجاز الواجبات المنزلية ومراجعة الدروس المتراكمة وإنجاز البحوث المؤجلة وغيرها من (المعلقات السبع) التي تراكم عليها غبار النسيان والتسويف. ولعل المسكوت عنه في هذه المرحلة يتمثل في مدة هذا الحجر الصحي المنزلي، والذي لا تستطيع حتى الهيئات الرسمية التي فرضته أن تحدد نهايته ليس عندنا فحسب ولكن حتى في أكثر الدول تطورا علميا وتكنولوجيا وطبيا، وهذه من حسنات الكورونا على الأقل بالنسبة لنا نحن الشعوب الضعيفة التي أصبحت تشعر بتكافؤها مع غيرها من الدول العظمى وبالندية لها (ولو بالخسارة). الأمر الذي يُعرّض المحجورين في المنازل إلى خطر الإدمان على البيوت حيث قد يضرب على آذانهم فيها شهورا عددا لا قدر الله. علما أن التقارير الطبية متضاربة فيما يتعلق بالتخلص (النهائي) من الكورونا، وهل رفع الحجر هو حل مناسب ومضمون أم أن التريّث مطلوب للحفاظ على سلامة الجميع، علما أن البحوث العلمية تطالعنا من حين لآخر بحقائق جديدة حول طريقة (عمل) هذا الفيروس (المستجد) الذي مازال مع الأسف يتوفر على كم كبير من (المادة الاستهلاكية) التي تجوب الشوارع بشكل فوضوي وتتحايل على الحجر الصحي بشكل متهور، وبهذا تُطيل من عمر هذا الفيروس و من مدة الحجر الصحي بالنسبة للوقاية منه ولكنه ليس بالضرورة صحيا لما قد يترتب عن طول المدة من انعكاسات نفسية وعصبية لا تقل خطورة عن الوباء نفسه. وفي كل الحالات والاحتمالات يبقى الحجر المنزلي أضمن الحلول وأقلها تكلفة وأسهلها تجسيدا لمواجهة هذه (الجائحة) التي اجتاحت عالمنا المعاصر والذي لم يكن نعيما قبلها ولن يصبح فردوسا بعدها، فترامب رئيس أثرياء أمريكا بعدما تنكر لفقرائها ومهمشيها وفي خرجته الصحفية الأخيرة أعلن بشكل ارتجالي بأنه هو الذي يقرر نهاية الحجر الصحي بهدف حماية البورصة الأمريكية ودولاراتها، ثم تراجع عن هرائه بعدما أخبره أحد المقربين أن رفع الحجر مسألة تتجاوز قدراته العقلية قبل السياسية لأنه قرار يتخذه (جنرالات) المرحلة وهم الأطباء والعلماء وليس السياسيين المتهورين أمثاله. ومن هنا يتضح بأن شعار (ابقوا في بيوتكم) ما هو إلا صدى لحديث رسولنا الكريم (أمسك عليكَ لسانكَ وليَسعْكَ بَيتُك وابكِ على خطيئتكَ) فلنجعل من بيوتنا مساجدا بعد غلق المساجد ومدارسا بعد غلق المدارس ومساحات حب ومودة نجدد العهد مع الله الذي له الأمر من قبل ومن بعد.