منذ ظهور مصطلح العولمة وما ارتبط به من بحوث ودراسات، لم يتجاوز كل هذا الزخم المعرفي المستوى النظري الذي لم يستقطب إلا فئة محدودة من المهتمين المنتمين للطبقة المثقفة، أما السواد الأعظم من الناس فكانوا غير مكترثين بهذا الجدل الذي أعتبر العالم (قرية صغيرة). فالعولمة باعتبارها تجاوزا لكل ما هو محلي كانت في المخيال العام مجرد ظاهرة إعلامية يستشعرها الإنسان البسيط من خلال ما تتيحه له القنوات والوسائط الإلكترونية عبر الصوت والصورة، إلى أن جاءت هذه (الجائحة) الخطيرة ليتمكن هذا المخلوق المتناهي في الصغر من تجسيد العولمة بشكل محسوس في أبشع صورها عندما تحول المشهد المرئي والمسموع من التنوع والاختلاف الذي يعكس تفاوتا فضيعا بين الشعوب والمجتمعات إلى مشهد نمطي واحد ومتجانس تجانس البشرية على امتداد المعمورة. فالعالم بأغنيائه وفقرائه وبتصنيفاته المختلفة من شعوب متحضرة إلى شعوب محتضرة في العالم الثالث، كلها و(بفضل) هذا الفيروس أصبحت محطاتها التلفزية المختلفة تبث مسلسلا واحدا بحلقات متفاوتة بتفاوت الإصابة بهذا الوباء بطله يدعى (كوفيد 19) وهو الشخصية الرئيسية في فيلم رُعب يتميز عن غيره من الممثلين بتاج دون رأس أي أنه من الفيروسات التاجية ومنه استحق تسمية (الكورونا فيروس) أي الفيروس المتوّج. ومما زاد في شعبية هذا الفيروس ما يفرضه على العالم أجمع من حجر إجباري يكون فرصة للبقاء في البيوت كاستراتيجية وقائية من جهة وكفرصة لعدم تفويت أي حلقة من حلقات هذا المسلسل العالمي المرعب من خلال نشر آخر الأرقام المتعلقة بالحصيلة اليومية لمخلفات هذا الداء. لقد استطاع هذا المخلوق الذي لا يمكن رؤيته إلا بعد تكبيره 20 ألف مرة أن يُحطّم منظومة أوليغارشية عالمية انتهت من وضع اللمسات الأخيرة على مشروعها الاستكباري القائم على فلسفة (الانتخاب العنصري) والمتمثل في تصنيف المجتمع البشري إلى فئات اجتماعية منتجة ومتطورة تستحق البقاء والاستمرار والتمتع بخيرات الأرض وفئات اجتماعية هشة تشكل عبئا على نفسها وغيرها يجب التخلص منها باعتماد أدوات مختلفة كتطوير فيروسات مخبرية بشكل دوري وإنتاج لقاحات العقم بإشراف شركات صيدلانية يملكها (المحافظون الجدد) وعلى رأسهم سفاح بغداد (ديك تشيني) و(بيل غيتس) صاحب مايكروسوفت، والتي اقترن اسمها ببرنامج ويندوز Windows(نوافذ) التي يبدو أنها أغلقت في وجه كل من يحاول منافسة العربدة الأمريكية، والتي كانت ضحيتها الأولى شركة (هواوي) الصينية. يتضح إذا أن هذا الفيروس العولمي قد عبث بهذه الفوارق الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية، ودمّرها في العمق عندما بث الرعب ووزّع الخوف بشكل عادل مراعيا مستوى المقاومة الاستشفائية للدول فكان فتاكا بالدول ذات المنعة الاقتصادية وجاء رحيما بإفريقيا ومن على شاكلتها من الدول الضعيفة والإحصائيات اليومية تثبت ذلك. لقد جاء الوباء والبشرية قد أوغلت في ماديتها وتحدّيها لفطرتها التي جيشت ضدها منظوماتها السياسية ودساتيرها البرلمانية ومناهجها التربوية وبرامجها التعليمية، لخدمة أهدافها التي ترفع شعار الحرية المطلقة والمثلية الساقطة، ولا أعتقد بأن السياسات المسطرة لمجابهة هذه الأزمة تنطلق من شعور بالذنب في حق القيم الإنسانية المستباحة والمبادئ الأخلاقية المشردة وخاصة من أصحاب القرار، ولا أعتقد بأنهم في سعيهم للخروج من هذه المرحلة يعقدون العزم على (التوبة) بعدها بمراجعة منظوماتهم السياسية وأيديولوجياتهم الحزبية. ولعل معارك القرصنة الجوية للضفر بالكمامات وما ترتب عنه من تدابير مفرطة في الأنانية ستكون لها عواقب وخيمة على مستقبل الاتحاد الأوروبي. كل هذا يدل على أن العواصم الكبرى قد وقفت بنفسها على خرابها الروحي الذي جعلها تتشبّث في هذه الساعات الصعبة بالأذان عبر مساجد أوروبا التي طالما كانت مستهدفة من أحزاب اليمين المتطرف والأحزاب اليسارية المنافقة. ولكن ماهي العبر التي يمكن لنا نحن أصحاب آخر رسالة سماوية أن نخرج بها من هذه التجربة القوية؟ وما هي الرؤى المستقبلية التي يجب على أصحاب القرار السياسي أن يعتمدوها مستلهمين العبر والدروس من هذه (الفرصة) التي أعادت بعث كم كبير من الطاقة الروحية في نفوس الناس حتى أكثرهم عنادا للتأويلات الدينية وترددا في قبول القراءات العقائدية؟ لقد وقفنا على حقيقتنا واكتشفنا بشكل واضح عيوبنا وقدراتنا، بدأت من جهة بعبارات سامجة (الحراك والكورونا خاوة خاوة) لتنتهي بسلسلة من الإشاعات المغرضة لضرب استقرار الوطن والتشكيك في قدرة الحكومة على تسيير الوضعية، بالإضافة إلى صعوبة إقناع العديد من المتهوّرين بالحجر الصحي والتبليغ الفوري على الحالات المصابة وعدم التكتم عنها، ولكن من جهة أخرى اكتشفنا بأن حكم العصابة لم يتمكن من الإجهاز على كل الثمار الطيبة و عاجله الحراك قبل أن يسمم كل التربة الخصبة التي أثمرت طاقات للخير كامنة في الجينات الجزائرية الأصيلة، فظهرت على شكل تضامن رائع وابتكارات علمية لمواجهة الكورونا ساهم فيها الجامعيون والمهندسون والشباب نساء ورجالا في تصنيع ما يساعد على مواجهة ندرة أدوات التعقيم وأجهزة الحماية لأبطال المرحلة على جبهات المعركة في المستشفيات، كما شدت من عزيمتها دعوات الصالحين مجسدين بذلك مقولة (الأزمة تلد الهمة)، وإن موعدنا الصبح ، أليس الصبح بقريب؟