يعتبر التراث لبنة أساسية في هوية الأمم، ويعمل على توحيد انتماءاتهم وتقاربهم النفسي والثقافي والاجتماعي، لأنه يعبّر عن روح الأمة وقيمها، عاداتها وأسلوب معيشتها بإعطاء صورة دقيقة عن طبيعة الحياة الأصيلة والعريقة في تاريخها، وأسلافنا انجزوا تراثا في جميع النشاطات وتركوا وثيقة حيّة صادقة تزخر بالعديد من الموروثات الشعبية لكل منها طابع مميز ومعانٍ خاصة، تربط حاضرنا المعاصر بماضينا الأصيل وتعكس بذلك الصور المضيئة التي يزخر بها تراثنا. الألعاب الشعبية في المجتمع الجلفاوي تشكل جزء من الذاكرة والوجدان الجماعي، فهي نتاج للتكوين الثقافي والحضاري وانعكاس للبيئة الطبيعية والجو الاجتماعي السائد، فالألعاب الجماعية والفردية نشاطات تستهوي الصغار وحتى الكبار، فهي تساعد على توحيد المشاعر والاتجاهات كما أنها وسيلة للتسلية والترفيه، مشكّلة بذلك مناسبة للالتقاء بين السكان، ما يعمّق مظاهر التضامن ويحمي الرسالة الاجتماعية التي ترمز الى الجوانب الغائبة الحاضرة من حياة الأجداد. حاولت "الجلفة إنفو" جمع بعض الألعاب الشعبية التي كان يمارسها الآباء والاجداد، وحتى تلك الخاصة بالأطفال لنستعرض بذلك جانبا ضئيلا من هذا التراث الذي خلّفه أسلافنا، فاعتمدنا على الروايات من أفواه بعض العجائز والشيوخ، وكذا ما عاصرناه ومارسناه شخصيا. ونأمل أن يُستكمل هذا الجانب ويضاف إليه من قبل كل من يجد نقصا فيه. ألعاب الكبار لذّة للممارس ومُتعة للمشاهد ... اشتهرت الكثير من الألعاب الشعبية قديماً وذاع صيتها، كانت تمارس في الأحياء في أوقات الفراغ فلا يخلو شارع من جمع من الرجال مجتمعين حول لعبة ما، مما يخلق فضاءات حميمية يستقى منها الفرح والتسلية وتُنمى العلاقات التواصلية وتزيد من تدعيم التعارف وتعميق أواصر المحبة والألفة بين اللاعبين والمشجعين، هذه الألعاب قد تكون جماعية تحتوي على أسس وقوانين، أو فردية تخضع للشخص ذاته. وتمارس اللعبة بأسلوب وطريقة معينة تعكس الجو النفسي لمحيط اللعب. ومن بين الألعاب المتداولة نجد كل من لعبة "الخربقة" هذه اللعبة الشعبية القديمة التي تعود إلى خمسة قرون مضت، وحسب الروايات هي مشتقة من خطة حربية، (مناورات ومساومات) تشتهر اكثر في البوادي والقرى وتحتاج قدرا كبيرا من الذكاء تلعب بين شخصين إلى أربع، بالإضافة إلى المشجعين، وترسم خاناتها التسعة والأربعون متجاورة متقابلة، سبعة أسطر على سبعة أعمدة في رقعة مربعة من التراب، وتسمى الخانة في لعبة الخربقة ب"الدار". يكون لكل واحد من اللاعبين المتنافسين أربعة وعشرين قطعة يتم نقلها، وتكون عادة من الحصى، أو النوى، وكل قطعة تسمى "الكلب" وكل نقلة تسمى "الرّحلة"، يبدأ اللعب بمرحلة التمركز، وهو وضع قطع اللعب بالتداول، وذلك بأن يقوم اللاعب الأول بملء خانتين اثنتين ويعقبه الثاني بمثل ما فعل، وهكذا حتى تمتلئ كل الخانات بقطع اللعب باستثناء الخانة الوسطى التي تبقى فارغة، وبنهاية مرحلة "الحطة" يبدأ اللعب بنقل القطعة الأولى بتطبيق قاعدة من يحط أولا يرحل أولا. فيقوم اللاعب الأول بنقل قطعة إلى الخانة الوسطى من خانة مجاورة، ثم يعقبه اللاعب الثاني ويستمر اللعب، فكلما أوقع أحد المتنافسين كلبَ خصمه بين اثنين من كلابه، وجب على الثاني إخراج قطعته المحاصرة، ويمكن الإيقاع بأكثر من قطعة. ومن لديه أفضلية الحطة والرّحلة يفقد أفضلية "الترقاد"، وعلى هذا تبنى إستراتيجية وضع القطع التي سيكون لها تأثير واضح في مسار اللعبة، فالرّحلة تمكن من اختراق الخصم مع النقلات الأولى والبدء بالهجوم المستمر، ويكون على الثاني اللجوء إلى خطة غلق اللعب بالاستفادة من قاعدة الترقاد أثناء الحطة، وغلق اللعب بالنسبة للاعب الثاني الذي يقوم بتحصين كلابه، فيوفر عددا من قطعه التي بإمكانه أن يخرجها دون أن يختل وضعه على الرقعة، أي أنه يستطيع القيام بلعب مضاد مستفيدا من أفضلية الترقاد سلفا بجعل قطعه متجاورة، وهكذا يطلب من منافسه مقابلا لكل قطعة واحدة إخراج قطعتين اثنتين ليخفف الهجوم وينهك خصمه بتقليل عدد قطعه، ويكون الفوز للاعب الذي يتبقى له أكبر عدد من القطع وينسحب من بقي له اقل القطع. هناك لعبة شبيهة لها تسمى " الفلجة" وهي عبارة عن مخططات مرسومة متوازية ومتوازنة، فيها خداع وتفكير، وتستخدم الذكاء. ومن الألعاب أيضا اشتهرت لعبة "السيڨ" وهي عبارة عن عصيات "سيڨات" مصنوعة من جريد النخل أو القصب، تمارس من طرف الجنسين بلاعبين أو ثلاثة لكل فريق، عدد العصيات هو 06 ذات وجهين مختلفين في اللون، تنطلق اللعبة بإجراء القرعة على من يبدأ اللعب أولا حيث يقوم بجمع الأجزاء الستة وضمّها إلى بعضها ثم ينثرها على الأرض، فإذا وقعت العصيات واحدة ملونة و5 بيضاء يسمح للفريق بالتقدم بخانة واحدة، وفي هذه الحالة يواصل اللاعب اللعب، وإذا وقعوا 4 عصيات ملونة و2 بيضاء يسمح للفريق بالتقدم بخانتين ويمرر اللعب إلى الذي يليه، وفي حالة 3 ملونة و3 بيضاء تسمى هذه الحالة " سيق" ويسمح للفريق بالتقدم ثلاثة خانات ويمرر اللعب، اما إذا وقعوا 6 عصيات بيضاء يسمح للفريق بالتقدم ستة خانات مع مواصلة اللعب، وفي حالة 6 عصيات ملونة أو ما يسمى "ستة" يسمح للفريق بالتقدم ب 12 خانة وله الحق في اللعب مرة أخرى. وتستند لعبة "السيق" إلى ما يسمى ب "الدارة"، حيث توضع مجموعة من الحفر في الرمل لتوضع فيها الحجارة أو الاعواد الصغيرة أو النوى على حسب اختيار كل فريق، ولا تقل الخانات عن 64 خانة، وحسب اللعب يتم ملء الصفوف ومن يتخلف عن ملء الدارة من الفريقين يكون قد خسر اللعبة. " التلّومة" أيضا لعبة من تراثنا وهي عبارة عن كرة صغيرة مصنوعة يدويا باستعمال القماش، يتم دفعها بواسطة عصا تسمى "القوس" هذه اللعبة كانت تلعب كثيرا في فصل الربيع للابتهاج بالمحصول الزراعي، وكذلك لاستجلاب المطر، كما كان الفرسان يلعبونها وهم يمتطون الخيول. ولعبة "الرشايقة" يتم فيها رسم مربع ويقسّم بالتساوي على اللاعبين، يجلس كل واحد في الجزء المخصص له، يمسك كل لاعب أداة حادة تسهل عملية رشقها في الأرض، ويبدا الاول بضرب الأداة على الأرض فإذا رشقت يرسم خطا على قدر استطاعته متغلغلا به في جزء الخصم ليأخذ بذلك ما تمّ رسمه من جزء خصمه وهكذا، يستمر الحال إلى أن ينتهي جزء المنافس كليا، وعندما يصبح الخصم غير قادر على الوقوف في جزأه يكون قد انهزم ، ويتم تبادل الأدوار إذا لم تنغرس الرشايقة في الأرض. ألعاب الصغار .. ترفيه وتنمية ذكاء لا يمكن أن تستمر حياة الطفل طبيعية ومنسجمة إلا بالقيام باختراع ألعاب تناسبه وتناسب نموه، تنمي قدراته وتنشط ذهنه، وتثير مخيلته وفكره وزيادة النمو العقلي لديه بالتركيز على اتقان ما يقوم به، على غرار ما تحمله من قيم فكرية واجتماعية تسهم في تنمية المهارات البدنية والابتكارية والنفسية والوجدانية لديه في سبيل المرح والمنافسة بين الصبيان والفتيات، ومن بين الالعاب التي تستهوي الكثير من الفتيات لعبة "القُرّيتة" وهي عبارة عن خمسة حصوات يتم انتقاءها، تجتمعن حولها الفتيات وتبدأ اللاعبة الأولى بضم الحصوات وترمي بها في الهواء وتشرع في التقاطها الواحدة تلو الأخرى، تترك في كل مرة حصوة واحدة بيدها لتضم إليها ما يلتقط ، وفي الدورة الثانية من اللعبة ترمى حصوة ليلتقط حصوتين حصوتين، وتنتقل إلى الدور الموالي فتلتقط ثلاث حصوات معا وواحدة وحدها، ثم أربع حصوات، ثم تجمع الحصوات على ظهر كفها وتقذفها محاولة جمعها بيدها بنفس القذفة، و تنتهي اللعبة الأولى وتتحوّل إلى إعادة اللّعب بالترتيب كما تقدم، ومن شروطها عدم سقوط الحصوة المقذوفة عاليا على الأرض، وحرص اللاعبة على عدم لمس الحصوة التي سقطت ملتصقة بأخرى، وإذا وقعت هفوة في اللعبة تحوّل اللعب إلى زميلتها وهكذا... وهناك لعبة أخرى تسمى ب "البيّ" التي هي عبارة عن كرة بلاستيكية صغيرة مختلفة الألوان يفضلها الاولاد وتستلزم لاعبين فأكثر، حيث يتمّ حفر حفرة صغيرة، وتوضع أمامها بيّة لأحد المتنافسين ويمسك كل لاعب مجموعة من البيّات ويبدأ اللاعب الأول بقذف إحدى البيّات بإبهامه محاولا أن تصيب البية على الأرض، فإذا أصابتها ووقع الإثنان في حفرة اللعب تكون من حق الفائز، وتستمر اللعبة، ويكون الفائز قد حاز على أكبر عدد من " البيّ" ويحرص كل صبي على عرض ما كسب متفاخراً ببراعته في اللعب. " الغُميضة" أيضا من بين الالعاب التي تستهوي الصغار ويتم لعبها بوضع عصابة محكمة على عيني أحدهم في حين يختبىء الباقون وتكون مهمة معصوب العينين البحث عن الآخرين. فإذا استطاع أن يعثر ويمسك بواحد منهم نزعت العصابة على عينيه، وجعل الشخص الممسوك يحل محله، وإذا لم يتمكن من الإمساك بأحدهم يظل معصوب العينين ويجري في كافة الاتجاهات إلى أن يوفق في الإمساك بأحد أقرانه ليحل محله، وهكذا تستمر اللعبة. وكذا لعبة " الآمارين" تقوم الفتيات باختيار مساحة من الأرض ويرسمن مستطيل مقسّم إلى مربعات، ويتم اختيار من تلعب أولا بواسطة القرعة، حيث تضع الفتاة حجرة في أول مربع وتقوم بدفعها بقدمها إلى الأمام بينما تكون القدم الثانية مرفوعة على الأرض، محاولة جعلها تستقر في المربع التالي، ثم الذي يليه، ولا يجب أن تضعها في الخط الفاصل بين مربع وآخر، أو أن تلامس قدمها المرفوعة على الأرض أو تدوس فوق الحجرة وإلا تكون قد خسرت اللعبة ويحق لزميلتها أن تحل محلها. ومن ألعاب الأطفال أيضا لعبة "الحبيلة" التي تجمع البنات ومعهن حبل للقفز عليه، ويخترن بطريقة القرعة 4 بنات ويقسمن إلى مجموعات رباعية وكل فريق يقوم باللعب بنفسه، حيث تمسك فتاتان بالحبل للتلويح به وتقوم الأخريات بالقفز عليه بشكل فردي أو ثنائي، ومن يلامس الحبل قدميها تخرج من اللعبة. بالإضافة إلى ألعاب كثيرة اخرى، على غرار الألعاب التي كان يصنعها الأطفال مستغلين بذلك بعض المواد البلاستيكية والخشبية لصنع عجلات وطائرات وغيرها ... إرث جدير بالبقاء ... الألعاب الشعبية أخذت تتعرض للاندثار شيئا فشيئا بحكم وجود الألعاب الحديثة التي حلت محلها، بالإضافة الى تطور الحياة الاجتماعية وتغير ملامح البيئة المبدعة لتلك الألعاب، لذا فإن إعادة احياء الألعاب القديمة والاهتمام بها وجمعها وتدوين ما تبقى منها وحمايتها من الضياع والزوال سمة من سمات الشعوب الحية بالبقاء ليحدث التوازن المنشود بين التطور الحضاري وبين المحافظة على الاصالة وتوثيق الثقافة التراثية والتراث المادي باعتباره مرآة تعكس البناء الاجتماعي والعادات والتقاليد والأعراف. إنّنا احوج ما نكون اليوم للمّ شمل ما تبقى من هذا التراث ونقله إلى أجيالنا اللاحقة بصورة مشرقة جلية، لتتعرف على ما كانت عليه حياة اباءهم وأجدادهم وما حققوه من ابداعات فكرية نحو صياغة ورسم هوية الوطن الثقافية، وتوثيق الصلة من خلال التعرف على الألعاب الحديثة المستنبطة من الألعاب الشعبية القديمة وإعادة إحياء وبعث الكثير منها في أوساط الشباب، لأجل المحافظة عليها وإبرازها كرصيد ثقافي تزخر به هذه المنطقة.