بقلم: علي مغازي لا أتذكر من سبتمبر 1977 سوى أنني ارتديت أول حذاء في حياتي، باستعمال ذراع ملعقة. فقد اشتراه لي والدي قبل أسبوع من اليوم الذي نحن بصدد الحديث عنه، وأمرني أن أغسل قدمي قبل أن أقيسه، ثم انصرف. شعرت بفرح شديد حتى دمعت عيناي. أخذت الحذاء من العلبة، شممت رائحته وربتّ عليه بكل حنان ورقة وكأنني أشكره على قبوله النزول من علياء رفه إلى هذا الشيء القبيح المسمى قدميّ، اللتين شعرت ساعتها بالشفقة المزرية نحوهما مستكثرا عليهما نعمة هذا الحذاء الرفيع المقام. فارتباطه بهما يعدّ إهابة لا تُغتفر. بدأت بوضع قدمي اليمنى في فردة الحذاء لكنني لم أفلح بسبب حجمها غير المناسب. حاولت مع اليسرى فكان الأمر أكثر سوءا. تبا لهما، إنهما تنكلان بفرحتي. خارت قواي فشعرت بحقد عارم نحوهما. دخلت أمي وسألتني إذا ما كنت قد قست الحذاء. فأجبتُ بالنفي وكأني غير مهتم بالموضوع. قالت لي: - هيا افعل حالا، فإذا لم يناسبك سيستبدله لك والدك. شعرت بأن قلبي يغادر مكانه وأنا أخرجُ الحذاء من العلبة ثانية. شمّرت على ساعدي مستجمعا كامل قوتي.. أخذت نفسا عميقا ووضعت قدمي في فردة الحذاء متأهبا، وبحركة خارقة دفعتها فحشوتها بالكامل داخله. كان حذاء سحريا، أسود وذا لمعان مبهج وبه رائحة لا أزال أتذكرها حتى الآن. فعلت الأمر ذاته مع الفردة الثانية متجرعا إحساسي بالألم لضيقه أو بالأحرى لكبر قدمي على حجمه: - حسنا إن الحذاء مناسب تماما. قلت هذا لأمي وكنت خائفا أن تتدخل وتقول: "إن الحذاء ضيق على قدمك ومن المستحسن تغييره". هذه العبارة كانت تخيفني جدا، فأنا لا آمن مكر القدر إذ قد يحدث شيء في الدنيا وأخسر الحذاء. وعليه فإن احتمال الألم أهون من المغامرة. قالت لي أمي: - "هيا قف وتمشّ قليلا لنرى إنّ كان الحذاء جيدا للمشي". شعرت بحنق شديد على أمي وأقسمت بأغلظ الأيمان أن الحذاء جيد للمشي وحتى للنوم. لكن أمي أصرت على أن أقوم بخطوات لتتأكد من صحة ما أقول. فقمت على الفور لأخطو أولى الخطوات بهذا الحذاء التاريخي. صاحت بي أمي: - "ويلك... لا تتمشّ على الأرض، ضعْ قدمك هنا على الحصيرة وتمشّ حتى لا يتّسخ الحذاء، فقد نضطر لاستبداله". وكانت عبارة "نضطر لاستبداله" تصيبني بالدوار كلما سمعتها، فما كان عليّ إلا أن أقيم الحجة على أمي فوقفتُ، وعدلت من وضع جسمي وأرسلت بواسطة دماغي ذلك الأمر اللاإرادي لقدمي اليمنى بأن ترتكز لتسمح لأختها اليسرى بالتقدم خطوة إلى الأمام. لكن ما حدث أنني تجمدت في مكاني ووجدت نفسي عاجزا عن السير. إن المشي في موقف كهذا ليس فعلا عاديا، إنه امتحان صعب يترتب عليه فوزي بالحذاء أو خسارتي له. يا إلهي ماذا يحدث، أيمكن أن أفشل في نقل قدمي خطوة إلى الأمام؟.. انتظرتْ أمي أن أتحرك لكنني بقيت متصلبا وشديد البلادة. احمر وجهي وتسارعت نبضات قلبي وبدأ العرق يتصبب مني وكأني مصاب بحمى. - امشي، واش بيك وليدي امشي... الصّباط يوجعك؟ حاولت أن أتكلم فلم يطاوعني لساني، هل أصبتُ بالخرس يا تُرى.. ؟؟.. حاولت أن أستعيد اتزاني وأتشجع لأربح التحدي، لكن بلا فائدة، أنا مسلوب الإرادة الآن...وانفلت في نوبة بكاء شديدة... بكيت بحرقة... ليس بسبب خوفي على الحذاء ولا بسبب الألم، إنها رهبة اللحظة الأولى كما يحدث لشاب قروي ليلة الدخلة. احتضنتني أمي بحنان غامر وتركتني أبكي للحظات حتى هدأ روعي ونسيت أنني في امتحان. وهكذا مشيت فيما بعد دون انتباه مني فأطلقت أمي زغردة حارة تلقيتها كعريس موفق. الوقت هو خريف عام 1977 من شهر سبتمبر. الحركة دؤوبة في دارنا القديمة بقرية "المالحة" بالدوسن حيث تجري الترتيبات ليوم غد المشهود. والدتي تجتهد في إعطاء الانطباع بأن كل المتطلبات جاهزة؛ المحافظ جاهزة، القمصان البيضاء التي تغطي ياقاتُها الأكتافَ جاهزة.. الأحذية السوداء والسراويل التي بلون التراب جاهزة أيضا.. المناديل المخططة والأحزمة الجلدية.. كل شيء على ما يرام لدخول مدرسي ناجح.. خصوصا الأحزمة فهي تعني الكثير بالنسبة للأولاد اليافعين، وهذا ما يجعل أخي محمود يلفت انتباهنا إلى اختراع مبهر يخص حزامه إذ يقول لأمي: "ليس هكذا دعيني.. أنا سأهتم بالأمر". ثم يشعل سامر عافية (نار) ويقوم بتسخين مسمار إلى أن يحمرّ لونه ويضيف به ثقبا في حزامه حتى يكون على مقاسه، ويقول في آخر الأمر: "كما ترون... إن باقي الثقوب التي وضعتها الحكومة في الحزام لا لزوم لها الآن". في طفولتنا كنا نعتقد أن الحكومة هي التي تصنع الأحزمة والسراويل والشاشيات والمقرونة وحلوة القوفريط والبراغي... أما بقية الناس على غرار أخي وحتى والدي، فهم يقومون بتقليد الحكومة فقط ولا يفلحون عادة. أمي تقول ضاحكة لمحمود الذي نجح في صنع ثقب أصلي في حزامه: "يبرّدْ وجهك... ما الجديد في هذا...". فيرد بثقة عالية: - أنظري هنا... إن ثقبا يُصنع بهذه الطريقة الذكية لا يمكن أن يكون عرضة للاتساع". وقد يضيف بلغة (الفتى المخ): - "هذا ما تفعله تلك الماكينة الضخمة الخاصة بصنع الثقوب". - وأين رأيت هذه الماكينة؟. - لا أحد بوسعه أن يراها فهي لدى الحكومة فقط. و لا تجد أمي في قاموسها ما تقوله ردا على أخي وقد أفحمها بحجته، إلا تلك العبارة المعتادة: "يبرّدْ وجهك". مرة سألت أمي: "ماذا تعنين عندما تقولين هذا"؟.. فأجابت: "لا أعني شيئا سوى أنني لا أريد الكلام". لطالما فكرت أن لأمي رد فعل مختلف تماما إذا ما تعلق الأمر بوالدي الذي عادة ما يتسبب في تكسير وإتلاف أشياء كثيرة في البيت ويعيد إصلاحها ثانية مدعيا أنها صارت جيدة وتؤدي الغرض أكثر مما كانت عليه في السابق، وهذا ما حدث عندما دخل والدي ذات مساء ووضع دراجته قرب الموقد وخرج للعب (الخربقة) مع عمي «المداني» فسقطت الدراجة على الموقد واحترق مقعدها. عندما عاد أبي أخبرته أمي بذلك وكانت خائفة أن يعاقبها لأنها لم تنبهْ، لكنه لم يفعل لأن القدر قد تحالف مع أمي وألهم والدي قدرا كبيرا من الذكاء فهزم عمي «المداني» على غير العادة في لعبة (الخربقة)، وهذا ما جعل مزاجه جيدا ذلك اليوم. فقال لها: - لا عليك.. أنا سأهتم بالأمر. أخذ والدي قطعا من أكياس الدقيق المصنوعة من الخيش ولفها بإتقان واستعمل "إبرة السروج" في خياطة أجزائها ثم ثبتها على بقايا المقعد المحترق. وقال لأمي: هذا هو مقعد الدراجة الجديد.. شهادتك لله.. أليس أفضل من الدوريجين (الأصلي)؟. انتظرت يومها أن تقول له أمي عبارتها المشهورة تلك: "يبردْ وجهك"، خصوصا أن المقعد الذي صنعه أبي لا يشبه أبدا المقعد الذي صنعته الحكومة بآلتها الضخمة، تلك التي أخبرنا بها أخي. بل إنه مقعد يدعو للسخرية حقا، لكن أمي فاجأتني أنا على الأقل بأن قالت له: - يا الهي... كيف فعلت هذا.. والله إنه لأفضل شيء فعلته!!!.. رد عليها أبي وهو يمرر كفه على شاربه ويمسّح على لحيته: نعم... هه.. كما ترين.. والأكثر من ذلك أنني هزمت «المداني» شرّ هزيمة... لقد جعلته يشتهي شربة ماء. يقالُ هنا كما في كثير من مناطق البلاد، "نشهّيك شربة ماء"؛ إنه مثل يجري على ألسنة الناس خلال أحاديثهم سواء الجادة منها أو تلك التي فيها قليل أو كثير من المزح. وهو يُضرب للدلالة على التّهديد أو التّشفي بحسب سياق الكلام. وأحيانا يقوله المرءُ عن نفسه تعبيرا عن جلد فكاهي للذات. وقد يقوله بجدية وحزم ليصف وضعه المزري إذا تعرّض لتنكيل مهما كان نوعه من لدن شخص أو جماعة أو شيء ما. وعندما يقول أبي: "شهّيتْ اليوم «المداني» شربة ماء" فهو لا يعني أكثر من كونه غلبه بطريقة ماكرة في لعبة (الخربقة) حيث أُتيحت له الفرصة فأغلق أمامه كل إمكانات الحلول وجعله يلهث ويلهث بحثا عن مخرج من ورطة ليس من المعتاد أن يقع فيها. فهو لاعب "خربقة" محترف، لهذا فمن المؤكد أنه لم يستسلم بسهولة، بل نَاورَ إلى آخر المطاف محاولا مغالطة والدي بصنْع فرص تكون قد فَتحتْ أمامه بصيصا من الأمل لقلب الموازين في أية لحظة تتاح له ردا لاعْتباره. لكن حسابات والدي بالتأكيد كانت جيدة، إذ يُفترض أنه بسلسلة من نقلات إستراتيجية، تفتّق عليها ذهنُه، أو بسبب غفلة وقع فيها «المداني»، وجدَ والدي نفسه في وضع المسيطر على مسار اللعبة، فما كان عليه إلا أن يستغلّ الفرصة جيدا وقد واتَتْه على غير العادة، لينقضّ ويطبق عليه في كل مرة مبطلا حيله وخططه المحسوبة سلفا، إلى أن يعلن «المداني» هزيمته بقوله عبارة "هاذ الطرح ما منّوش". هذا ما وقع بالفعل وإلا لما كان والدي الذي انتصر بكل ذكاء ونزاهة، قد تعامل بسلوك فيه قدْر كبير من التسامح مع أمي، ذلك أن والدي قد تسامح مع نفسه ووثق بها بعد لحظة انتصار أرضتْ كبرياءه، الشيء الذي جعله يسعى لإرضاء من حوله. لقد فعل ما بوسعه في لعبة (الخربقة) فهزم «المداني» هزيمة لا مجال للشك فيها، وهزم شعوره بالحنق على أمي التي تركت "الكانون" دون أن تصبّ عليه قليلا من الماء لتتأكّد أن "الجمْر تحت الرّماد قد انطفأ" وخمدت ناره. وهذا ما تفعله نساء الريف عادة، حرصا على سلامة بيوتهن من خطر النار؛ وصية من ضمن لائحة وصايا تُلقيها كل أمّ صالحة على مسامع ابنتها بين الحين والآخر معدّة إياها لزواج ناجح حتى لا يقول عنها أهل عريسها وهم من الأغراب: بنت فلانة "ترقد وما تطفيش البوق". إنه لعارٌ ما بعده عار، به تقيم المرأة الحجة على نفسها وتهدر حقها في دفع عقاب زوجها لها، إذا ما هي اقترفته. وهكذا لا يكون لها الحق في الاحتجاج. والواقع أن والدي عندما وضع الدراجة قرب الكانون، وسقطت لسبب ما فاحترق سرجُها، كان يمكنه أن يسلّط عقابا على أمي لكنه لم يفعل بفضل نشوة النصر الذي حققه في منازلته للمداني بلعبة (الخربقة)، فكان ردّ فعل أمي أن أقسمت أنّ هذا أفضل شيء صنعه أبي!!!.. (الخربقة) من أشهر الألعاب الذهنية شعبية، تحتاج قدرا كبيرا من الذكاء والحنكة فهي تبدو للوهلة الأولى كالشطرنج، لكنها في الواقع مختلفة تماما. تلعب بين اثنين على رقعة مربعة من التراب، وترسم خاناتها التسعة والأربعون متجاورة متقابلة؛ سبعة أسطر على سبعة أعمدة. وتسمى الخانة في لعبة (الخربقة) ب"الدار". يكون لكل واحد من اللاعبين المتنافسين أربعة وعشرين حجرا متماثلا. وهي القطع التي يتم نقلها، وتكون عادة من الحصى، الطوب الأبيض، النوى، الحشف . وكل قطعة تسمى ال"كلب" وكل نقلة تسمى ال"رّحله". يبدأ البرطي partie بمرحلة التمركز؛ وهو وضع قطع اللعب بالتداول، وذلك بأن يقوم اللاعب الأول بملء خانتين اثنتين ويعقبه الثاني بمثل ما فعل. وهكذا دواليك حتى تمتلئ كل الخانات بقطع اللعب باستثناء الخانة الوسطى التي تبقى فارغة ويتم تمييزها سلفا ُتاء رسم الرقعة. بنهاية مرحلة "الحطة" يبدأ اللعب بنقل القطعة الأولى وتسمى "الرّحله"، (اللي يحط أولا يرحل أولا). وهذه قاعدة مهمة يبنى عليها اللعب لاحقا. يقوم اللاعب الأول بنقل قطعة إلى الخانة الوسطى من خانة مجاورة. ثم يعقبه اللاعب الثاني ويستمر اللعب؛ فكلما أوقع أحد المتنافسين كلب خصمه بين اثنين من كلابه، وجب على الثاني إخراج قطعته المحاصرة. فيقال "كلبك مات"، ويمكن الإيقاع بأكثر من قطعة. كما أن اللاعب الذي يجد نفسه قادرا على قتل قطعة من قطع خصمه في النقلة الموالية يحذره بعبارة "أش كلبك مات". هناك مبادئ هامة في اللعبة، فمن لديه أفضلية الحطة والرّحله يفقد أفضلية "الترقاد". وعلى هذا تبنى إستراتيجية وضع القطع التي سيكون لها تأثير واضح في مسار اللعبة. فالرّحله تمكن من اختراق الخصم مع النقلات الأولى والبدء بالهجوم المستمر، ويكون على الثاني اللجوء إلى خطة غلق اللعب بالاستفادة من قاعدة الترقاد أثناء الحطة، وغلق اللعب بالنسبة للاعب الثاني يتم بتحصين كلابه؛ فيوفر عددا من قطعه التي بإمكانه أن يخرجها دون أن يختل وضعه على الرقعة، أي أنه يستطيع القيام بلعب سلبي مستفيدا من أفضلية الترقاد سلفا بجعل قطعه متجاورة. وهكذا يطلب من منافسه مقابلا لكل قطعة واحدة إخراج قطعتين اثنتين ليخفف الهجوم وينهك خصمه بتقليل عدد قطعه. ويكون الفوز للاعب الذي يتبقى له أكبر عدد من القطع وينسحب اللاعب الذي لم يبق له إلا عدد قليل جدا بحيث أن استمراره في اللعب يكون مجرد مضيعة للوقت ودليلا على قلة احترافيته.