كُنّا قد نشرنا سابقا لمحة عن سيرة القاضي "سي المصفى بن الطيب بن دلماجة" وهذه السيرة وجدناها في إطار استقصاء تاريخي عن قصة ابنه الشاعر "المسعود ابن القاضي سي المصفى بن الطيب" وقد أجلنا نشر هذا الإستقصاء عدة مرات الى حين استيفاء الروايات الشفوية والوثائق الأرشيفية والسياق التاريخي والمعطيات الجغرافية، واليوم نعتقد أنه قد نضج بالحد الأدنى الذي يسمح بنشره غير أننا نرفع نداء لكل من يملك رواية شفوية حول الموضوع بأن يراسلنا لتسليط الضوء أكثر على تاريخنا وماضينا وتوثيق تراثنا ... المسعود بن مصطفى هو معلم قرآن "طالب" وشاعر شعبي مولود سنة 1841 ... حكم عليه والدُه بالقصاص في حادثة قتل ولكن فرنسا كان لها رأي آخر بسجنه في معتقل غويانا بأمريكا الجنوبية أين توفي في 02 أوت 1873 ... وللأسف لم يبقَ لنا من شعر "المسعود بن المصفى" سوى 04 أبيات من قصيدة يروي فيها مأساته ... وتعتبر هذه القصة توثيقا لفترة تاريخية مهمة في منطقة الجلفة خصوصا من جانب القضاء الإسلامي بل ونعتبرها من أولى وأهم القضايا التطبيقية لمرسوم 08 جانفي 1870 الذي جاء للإلغاء التدريجي للقضاء الإسلامي ... ظلت هذه القصة حبيسة التوثيق الشفوي واليوم وبعد بحث مُضن في الأرشيف الفرنسي استطعنا أن نعثر على بعض الوثائق المهمة التي أعطتنا إجابات مهمة ولكنها فتحت الباب لأبحاث وأسئلة أخرى ... السياق التاريخي ... التضييق على القضاء الإسلامي بمنطقة الجلفة السياق التاريخي لقصة "المسعود ابن مصطفى" هو تسليط المحتل الفرنسي لرقابة أكثر صرامة على القضاة والتضييق بالقوانين على القضاء الإسلامي المرتبط ارتباطا وثيقا بالتعليم القرآني والفقهي حيث كانت هذه المظاهر تمثل جزءا واحدا لا يتجزّأ وتتقاطع فيه الأدوار والشخصيات. وفي تحقيقنا التاريخي حول الحرب الدينية ضد منطقة الجلفة كنا قد أشرنا إلى تقرير فرنسي صدر سنة 1869 ضد القاضي "سي آدم بن أحمد بن محمد بن دلماجة" وهو نجل ابن عم القاضي سي المصفى بن الطيب. ويتهم التقرير "سي آدم" بأنه لا ينصاع للأوامر الشفهية والكتابية الموجهة له منذ 03 سنوات مع اقتراح عزله في آفريل 1867 ولكن ذلك لم يُنفّذ. كما وُصف بأنه متشدد جدا وأنه هو يتجنب التواصل مع غير المسلمين. والتقرير المذكور ضد سي آدم له سياق تاريخي خاص فالمحتل الفرنسي قد قرر سنة 1868 إدخال النظام التعليمي الكولونيالي إلى مدينة الجلفة في مواجهة التعليم القرآني ممثلا بزاوية "سي الشريف بلحرش" ... ولا ننسى أيضا أن سي آدم يُعتبر أول معلم للقرآن ببلدية الجلفة بزاوية صديقه الحميم الخليفة سي الشريف بلحرش وهو أيضا صهره لأن "شهرة بنت سي الشريف بلحرش" تزوجها سي آدم. كما أنه صديق حميم للشيخ عبد الرحمان النعاس صاحب أول مُصلى داخل أسوار الجلفة. وهو أيضا صديق حميم للباشاغا سي بلقاسم بلحرش مؤسس أول مسجد ببلدية الجلفة وهو ما يفسر القول بأن سي آدم هو أول إمام لمسجد سي بلقاسم. أما القاضي سي المصفى فلم يطل به الحال إذ طلب الإعفاء من مهامه في مراسلة محررة بتاريخ 25 ديسمبر من سنة 1869 ليتفرّغ لتحقيق أمنيته في الحج. وتذكر المراسلة ضمنيا أن سي المصفى هو واحد من أغنياء أولاد نايل وأنه من قضاة العهد العثماني وعهد دولة الأمير عبد القادر ... وهذا معطى تاريخي مهم جدا لأنه قد حكم بالقصاص على ابنه ولم يستعمل ثروته لتغيير مجرى الأحداث لصالح فلذة كبده. وبين أيدينا التقرير المؤرخ في 24 نوفمبر من سنة 1870 ويتحدث عن تقليص مقاطعات القضاء الإسلامي بملحقة الجلفة من 09 إلى أربع "04" هي: الجلفة وزاغز وزنينة ومسعد مع إنشاء مجلس جديد بالجلفة كبديل لمجلس الأغواط. والمبرر وراء كل ذلك هو إقالة أكبر قدر ممكن من القضاة المسلمين لاسيما منهم المشبوهون ب "عزة النفس d'une honnêteté douteuse" وتسهيل الرقابة على العاملين منهم. أما المرسوم الجديد المؤرخ في 08 جانفي 1870 "المتعلق بتنظيم القضائي الإسلامي خارج منطقتي التل والقبايل" فقد منح المتقاضين في المادة الثانية منه إمكانية طرح قضاياهم أمام القضاء الفرنسي وليس القضاء الإسلامي ... وهنا يتضح لنا تعسّف السلطة الفرنسية حين تدخلت ورفضت أن تتم محاكمة "المسعود بن مصطفى" وفقا للشريعة الإسلامية بل وفقا للقوانين الفرنسية وهذا يعتبر إيذانا بالتضييق على القضاء الإسلامي ... كما نلاحظ أيضا أن المادة رقم 04 من المرسوم قد أجبرت القضاة الشرعيين والباش عدل، قبل ممارسة مهامهم، أن يُقسموا بصيغة فيها الحلف بالوفاء لامبراطور فرنسا !! الرواية المتواترة ... بداية الفضول نحو البحث كانت مع ما وثّقه الأستاذ "بلعدل محمد أبو علاء" عن عمه الأستاذ بلعدل أحمد بن محمد. فيُروى أن المسعود، نجل القاضي سي المصفى بن الطيب، قد قتل رجلا بسبب امرأة في منطقة المقسم، ولمّا علم الناس حضروا وحضر الحاكم الفرنسي وكان أبوه مصطفى في رحلة صيد فعاد على جناح السرعة لمّا وصله النبأ. فسأله الحاكم الفرنسي إذا كان سيحكم بالقانون الفرنسي أو الشريعة الإسلامية فردّ مصطفى "بل بالشريعة الإسلامية وعندنا من قتل مُتعمدا عقابه الإعدام". فحُمل إلى سجن بمدينة المدية. ووفقا للرواية الشفوية فإن "المسعود بن مصطفى" قد نظم قصيدة طويلة يرثي فيها حاله وواصفا جريمته ثم وصف كل المناطق التي مرّ بها وهو محمول إلى مصيره مُستعطفا فيها أهله وحثهم على جمع أموال الدّيّة عساه يفرج عنه لكنه لم يلبث قليلا في السجن حتى مات حتف أنفه. وبهذا القدر رفع عن أبيه الحرج والضيق مما سيشهده من إعدام ابنه". انتهى ملخص الرواية الشفوية. وحول وفاته يقول الأستاذ بلعدل محمد أبو علاء أن هناك روايتين احداهما تقول بأنه قد توفي في سجنه بالمدية بينما الرواية الثانية فيُقال فيها أنه قد نُقل إلى سجن كاليدونيا وهناك توفي. أما الأستاذ محمد بلعدل بن المسعود (1921-2009) بن السعيد بن علي بن المصفى فيروي عن والده، رحمه الله، أن "المسعود بن المصفى" قد سُجن أولا في تعظميت ثم نقل إلى خارج الجزائر. ويضيف الراوي أن المسعود أثناء التحقيق معه قال بأنه قد ضربه بعصا ولم يكن يقصد القتل العمدي البحث في الأرشيف الفرنسي ... انطلاقا من رواية سجنه بكاليدونيا شرعنا بالبحث في قاعدة بيانات مركز أرشيف ما وراء البحار الفرنسي. وقد تكللت أبحاثنا بالعثور على ثلاث صفحات من سجلّ السجن فيها معلومات "المسعود بن مصطفى" وسيرته وسبب سجنه ومحاكمته وتواريخ مهمة الى غاية وفاته. واتضح لنا أنه سُجن بإقليم غويانا الفرنسي بأمريكا الجنوبية وليس في جزيرة كاليدونيا. يعطينا سجل الإيداع معلومات قضائية ومعلومات الحالة المدنية والوصف الجسدي ... كما يعطينا معلومات وتواريخ تحويله من الجزائر الى طولون ثم غويانا ... وكان قد تم نقله من معتقل الأشغال الشاقة بمدينة طولون بالساحل الجنوبي الفرنسي وهو أحد معتقلات الأشغال الشاقة المشهورة بفرنسا مثل "برست، روشفور" ... وفي معتقلات فرنسا يكون كل سجينين اثنين مرتبطين معا بسلسلة طويلة حتى لا يقع الفرار، وعندما يصدر قرار النقل إلى كاليدونيا أو غويانا يأتي معه الأمر بالتحرير من الأغلال في اليوم السابق للإبحار ... وتمثل الرحلة البحرية من فرنسا إلى أقاليم ما وراء البحار حلقة أولى من حلقات العذاب فهي تدوم أسبوعين داخل أقفاص داخل سفن نقل خاص ذات محركات بخارية... وفاة الشاعر المسعود بن المصفى ... قادنا البحث في سجلات الحالة المدنية لإقليم غويانا الفرنسية إلى شهادة وفاة السجين المسعود مع معلومات مستخرجة من نفس سجل السجن لسنة 1871. وهذا ملخّصُها: الرقم 296 - وفاة مسعود بن مصطفى اليوم، الثاني من أوت من سنة 1873 على الساعة الثامنة صباحا، وقف أمامنا نحن "ألكسندر كوي Alexandre Couy"، رئيس بلدية كايان Cayenne وضابط الحالة المدنية، كلّ من المحافظ المساعد للبحرية وكاتب البحرية، وأخبرانا بأن مسعود بن مصطفى المولود سنة 1841 بأولاد عبد القادر بالجزائر، ابن سي مصطفى بن دلماجة وخديجة بنت محمد، وزوج عربية بنت علي، المقيم في كايان، قد توفي هذا الصباح على الساعة الثانية والنصف بالمستشفى العسكري لهذه المدينة، وهو ما تأكدنا منها وقمنا بتوقيعه. نلاحظ هنا أن شهادة الوفاة لا تقدم أي تفاصيل حول سبب وفاة "المسعود بن مصطفى" فالرجل عمره آنذاك 32 سنة يعني في ريعان شبابه ... وهو ما يفتح المجال واسعا حول عدة فرضيات. من أجل هذا الغرض راسلنا مصلحة الأرشيف بإقليم غويانا الفرنسية حول سجلات "مستشفى كايان العسكري" فإذا بها ترد علينا بأن سجلات المستشفى للنصف الثاني من القرن التاسع عشر والقرن العشرين قد اختفت وأن الأرشيف المتوفّر يتوقّف عند سنة 1849 فقط. فإذا افترضنا أنه قد تم اغتيال السجين "المسعود بن مصطفى بن دلماجة" فإن أول سبب لذلك سيكون محاولة فرار ... وبالفعل فقد وقعت عدة محاولات فرار طبقا للسجلات الإحصائية لوزارة البحرية والمستعمرات. ففي سجل سنة 1873 أُحصيت 33 حالة للمساجين العرب ما بين فرار أو انشقاق عن الأعمال الشاقة وهو أعلى رقم مسجل ما بين سنتي 1870 و1875 ... غير أن هذا الإحتمال مستبعد لأنه لم يُذكر في سجل الإيداع أن السجين قد حاول الفرار. أما الإحتمال الثاني للوفاة وهو الأقرب للصواب فيتعلق بالمرض. وسنجد السجل الإحصائي لسنة 1873 لوزارة البحرية والمستعمرات يذكر أن غويانا قد شهدت سنة 1873 عدة وفيات بين المعتقلين العرب والأوروبيين والسود ذوي أحكام الأشغال الشاقة والبالغ عددهم 1094 مسجونا ... فمثلا وقعت عدة أمراض منها الحمى الخبيثة (67 إصابة، 26 وفاة) والسل الرئوي (24، 04) وحمى التيفوئيد (08، 01) والسل الجلدي (06 إصابات) وغيرها من الأمراض التي تعكس المعيشة البائسة في معتقلات فرنسا لما وراء البحار ... وهكذا كان مجموع الوفيات بين المعتقلين العرب للأشغال الشاقة يُقدّر ب 250 وفاة بسبب الأمراض و11 حالة وفاة بسبب الحوادث والتي قد يكون منها إطلاق النار على السجين ... إن هذا الرقم من الوفيات يعتبر مؤشرا خطيرا لأنه يعني وفاة حوالي 23% وهو ما يقارب ربع السجناء العرب ... وفي الحقيقة فإن الإحتلال الفرنسي قد تسبب في استفحال الأوبئة سواء في افريقيا أو في أمريكا وهذا وحده موضوع تاريخي شيّق للبحث لأن فرضية الوباء المفتعل قائمة بقوة ولا أدلّ على ذلك من تزامن الأوبئة والمجاعات الثلاث الكبرى بالجزائر مع المقاومة الشعبية والحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية ... والدليل على فداحة الوضع الصحي في غويانا هو أن المعدل اليومي للمرضى بالمستشفيات كان لا يقل عن 350 مريض، استنادا لنفس السجل الإحصائي. مع العلم أن الأشغال الشاقة كانت تتراوح بين الأعمال في الورشات البحرية والورشات البرية في مجالات الطرقات والإنشاء والفلاحة والخشب والأثاث والألبسة وصناعة السفن وقوارب الصيد وغيرها، فضلا عن الأعمال الخدماتية اليومية المتعلقة بأمور السجن ... ويبقى على الأرجح أن يكون سبب الوفاة هو الحمى الصفراء "التيفيس" التي استفحلت في غويانا سنة 1873 واستمرت حتى السنة الموالية حسب أطروحة دكتوراه في الطب بجامعة بوردو سنة 1886 ... وهذا معطى تاريخي مهم عن الظروف التي عاشها السجناء ما يؤكد مرة أخرى أن فرنسا أبعد ما تكون عن حقوق الإنسان ... القصيدة التي تركها "المسعود بن المصفى" ... الأبيات الأربعة وثقها لنا الأستاذ محمد بلعدل أبو علاء كما اتصلنا لهذا الغرض أيضا بالمهندس "بكاي آدم" لتوثيق القصيدة وقد أفادنا بنفس الأبيات تقريبا نقلا عن والدته حفظها الله. وللأسف وعلى غرار الكثير من عيون تراثنا الشعري لم يتبقّ من قصيدة المسعود بن مصطفى سوى هذه الأبيات ... وبوفاة كبار شيوخ الدلامجية فُقدت القصيدة ولعلّ هناك من مازال يحفظها فنطلب منه أن يراسلنا ويُنجدنا بها لأنها تشكّل نصا مهما لفهم مرحلة من مراحل تاريخنا ... يا حسراه على خويا اللي مالو تدبير *** ما نتلاش توال بيتو قاع نسير يا حسراه على رفاقتنا بكري *** حزني عنكم ما نعودو نتلاقاو بدلتونا بالقلم سهم الرهمة *** وبدّلتونا بالحواشي سهم القومان ما نعياوش نحوسو قع وطنّا *** ونسجو روس المقاسم نصّادو نلاحظ أن البيتين الأولين من القصيدة فيهما حسرة على الأيام الخوالي ثم يتغير الخطاب في البيت الثالث وفيه يلوم أهله ليعود في البيت الأخير ويتمنى الحرية والتجول في وطنه والخروج في رحلات صيد كسابق عهده ... تمت محاكمة المسعود بن المصفى في 12 أوت 1871 بالمجلس الحربي الثاني الدائم بالبليدة ثم أرسل إلى معتقل الأشغال الشاقة في طولون بفرنسا والتي وصلها بتاريخ 21 أكتوبر 1871 ... ولهذا يبدو لنا أنه قد نظم قصيدته خلال هذه الفترة أو قبلها حين نقله من سجن المدية إلى البليدة ... ولعلّه ألقاها على مسمع أهله حين زاروه بالسجن وقُبيل إرساله إلى طولون ... في يوم الفاتح من ديسمبر من نفس السنة صدر الأمر بتحريره من السلاسل لتبدأ من هناك رحلته نحو غويانا في 02 ديسمبر ... رحلة لن يعود منها إلى الأبد ولن يرى أهله ولن يمتطي حصانه ولن يتسابق مع أقرانه في القنص والبيازة والصيد ... مات بعيدا عن أهله في ظروف طمس الفرنسيون حقيقتها لتحتضن جسده إحدى مقابر المحيط الأطلسي تحت غابات نخيل جوز الهند ... سجل الإيداع بمعتقل الأشغال الشاقة بطولون - السجين مصطفى بن مسعود رقم 16012 شهادة وفاة مسعود بن مصطفى في 02 أوت 1873 نقل المساجين مكبلين بالسلاسل في معتقل الأشغال الشاقة بطولون معاقبة السجين تتم على مرأى من شريكه في السلسلة (معتقل الأشغال الشاقة، برست، فرنسا) تحرير كل سجينين من السلاسل يتم قبيل الإبحار مباشرة أثناء نزع السلاسل (معتقل الأشغال الشاقة في برست) الحياة داخل معتقلات الأشغال الشاقة في غويانا الفرنسية المستشفى العسكري "الكولونيايل" الذي توفي فيه المسعود بن مصطفى سنة 1873 صور قديمة لمعتقل الأشغال الشاقة في غويانا الفرنسية للبقاء على اطلاع دائم بالأخبار عبر جريدتكم "الجلفة إنفو" الإلكترونية و تلقي الإشعارات، قم بتحميل تطبيق الجلفة انفو