محمد خوان يتحادث مع رئيس الوفد الإيراني    هذه توجيهات الرئيس للحكومة الجديدة    النفقان الأرضيان يوضعان حيز الخدمة    رواد الأعمال الشباب محور يوم دراسي    توقيع 5 مذكرات تفاهم في مجال التكوين والبناء    الصحراء الغربية والريف آخر مستعمرتين في إفريقيا    مشاهد مرعبة من قلب جحيم غزّة    وفاق سطيف يرتقي إلى المركز الخامس    على فرنسا الاعتراف بجرائمها منذ 1830    الابتلاء المفاجئ اختبار للصبر    الخضر أبطال إفريقيا    ضرورة التعريف بالقضية الصحراوية والمرافعة عن الحقوق المشروعة    300 مليار دولار لمواجهة تداعيات تغيّر المناخ    فلسطينيو شمال القطاع يكافحون من أجل البقاء    بوريل يدعو من بيروت لوقف فوري للإطلاق النار    "طوفان الأقصى" ساق الاحتلال إلى المحاكم الدولية    وكالة جديدة للقرض الشعبي الجزائري بوهران    الجزائر أول قوة اقتصادية في إفريقيا نهاية 2030    مازة يسجل سادس أهدافه مع هيرتا برلين    وداع تاريخي للراحل رشيد مخلوفي في سانت إيتيان    المنتخب الوطني العسكري يتوَّج بالذهب    كرة القدم/كان-2024 للسيدات (الجزائر): "القرعة كانت مناسبة"    الكاياك/الكانوي والبارا-كانوي - البطولة العربية 2024: تتويج الجزائر باللقب العربي    مجلس الأمة يشارك في الجمعية البرلمانية لحلف الناتو    المهرجان الثقافي الدولي للكتاب والأدب والشعر بورقلة: إبراز دور الوسائط الرقمية في تطوير أدب الطفل    ندوات لتقييم التحول الرقمي في قطاع التربية    الرياضة جزء أساسي في علاج المرض    دورات تكوينية للاستفادة من تمويل "نازدا"    هلاك شخص ومصابان في حادثي مرور    باكستان والجزائر تتألقان    تشكيليّو "جمعية الفنون الجميلة" أوّل الضيوف    قافلة الذاكرة تحطّ بولاية البليدة    على درب الحياة بالحلو والمرّ    سقوط طفل من الطابق الرابع لعمارة    شرطة القرارة تحسّس    رئيس الجمهورية يوقع على قانون المالية لسنة 2025    يرى بأن المنتخب الوطني بحاجة لأصحاب الخبرة : بيتكوفيتش يحدد مصير حاج موسى وبوعناني مع "الخضر".. !    غرس 70 شجرة رمزياً في العاصمة    تمتد إلى غاية 25 ديسمبر.. تسجيلات امتحاني شهادتي التعليم المتوسط والبكالوريا تنطلق هذا الثلاثاء    مشروع القانون الجديد للسوق المالي قيد الدراسة    اختتام الطبعة ال14 للمهرجان الدولي للمنمنمات وفن الزخرفة : تتويج الفائزين وتكريم لجنة التحكيم وضيفة الشرف    صليحة نعيجة تعرض ديوانها الشعري أنوريكسيا    حوادث المرور: وفاة 2894 شخصا عبر الوطن خلال التسعة اشهر الاولى من 2024    تركيب كواشف الغاز بولايتي ورقلة وتوقرت    تبسة: افتتاح الطبعة الثالثة من الأيام السينمائية الوطنية للفيلم القصير "سيني تيفاست"    "ترقية حقوق المرأة الريفية" محور يوم دراسي    القرض الشعبي الجزائري يفتتح وكالة جديدة له بوادي تليلات (وهران)        مذكرتي الاعتقال بحق مسؤولين صهيونيين: بوليفيا تدعو إلى الالتزام بقرار المحكمة الجنائية    مولوجي ترافق الفرق المختصة    قرعة استثنائية للحج    حادث مرور خطير بأولاد عاشور    وزارة الداخلية: إطلاق حملة وطنية تحسيسية لمرافقة عملية تثبيت كواشف أحادي أكسيد الكربون    سايحي يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حين أرادتها فرنسا مدينة كاثوليكية ... قصة الحرب الدينية على منطقة الجلفة!!
نشر في الجلفة إنفو يوم 02 - 12 - 2020

ربما لا يعلم الكثيرون أن سلطة المحتل الفرنسي منعت بناء المساجد داخل أسوار مدينة الجلفة منذ بدايات إنشائها في سبتمبر 1852 ثم تأسيسها كقرية كولونيالية سنة 1861 إلى غاية سنة 1916 أي طيلة 64 سنة ... ويخفى أيضا عن الكثيرين أن هذا الإضطهاد قد امتد أيضا خارج الأسوار ليعرقل بناء جامع سي بلقاسم أي طيلة 27 سنة!!
والحديث عن التاريخ الديني للجلفة تمليه الحاجة لسد الفراغ في هذا الموضوع ويدفعنا إلى الخوض فيه إعادة الأمور إلى نصابها الذي يتلاءم والحقيقة الثابتة عن التاريخ الديني لمدينة الجلفة وأحوازها ... بعيدا عن شطحات ومغازلات بعض الأصوات التي اختلقت عن جهل وتملّق خرافة تعايش الأديان بالجلفة وقت الإحتلال الفرنسي!!
الوثائق التاريخية التي أتيحت لنا تكشف بوضوح عن أن فرنسا لم تكتف بحرب دينية على بلاد أولاد نايل والتضييق على الوظائف الدينية والتعليم القرآني ومراقبة تمويل الزوايا والمساجد ... بل كان المحتل الغاشم يهدف إلى جعل الجلفة مدينة كاثوليكية بأتم معنى الكلمة وهذا بالقوة والقهر في قلب بلاد أولاد نايل. والمعروف عن هذه الربوع، كما وثقه الفرنسيون أنفسهم، أن عَرَبَها أول ما يبنونه عند استقرارهم هو المسجد مثلما حدث عند تأسيس المجبارة في العهد العثماني بنهاية القرن الثامن عشر أو مثلما فعل أهل مسعد لما استقبلوا الشيخ السنوسي في العهد العثماني وبنوا له زاوية ثم مع المقاوم موسى الدرقاوي الذي بنوا له مسجدا وزاوية وهو نفس ما حدث في رباطه العسكري بعين الخضرة بالشارف لما تلقى تبرعات مع العبازيز والنوايل وغيرهم فبنى في الرباط مسجدا عند مدخل البوابة الرئيسية ... ونفس أولئك العرب في ترحالهم بهذه الربوع كانوا لا يستغنون عن الزاوية المتنقلة أو "عشّة الطالب" وهي خيمة مخصصة لتدريس أطفال "النزلة" وفيها تُقام الصلوات الخمس وصلاة الجمعة والتراويح ...
ولا يوجد من عبّر عن هذا التمسك بالدين أفضل من الشيخ عبد الرحمان التنيلاني (من علماء قصور توات بأدرار) سنة 1816 حين قال عن عرب أولاد نايل في كتاب رحلته: "ونعم العرب هم كثّر الله في عرب المسلمين من أمثالهم، وهم أهل بيت الرحمة، ما رأيت ولا سمعت من يعظّم العلماء وحمّالة القرآن مثلهم، ولو قلت إني رأيت فيهم من البرور والرحمة والرأفة والحنانة ما لم أره في والديّ ما كذبت ... ولو مرّ بي أحدهم عشر مرات لا يمرّ حتى يقبّل يديّ أو كسائي ... فهُم غاية في الدين والنظافة ... هم أهل وضوء وصلاة وزكاة ورحمة" ... لقد أدركت فرنسا هذه الحقيقة عبر مختلف الكتابات التي تناولت الحياة الدينية الصوفية لأولاد نايل مثلما وثقه المؤرخون الفرنسيون تروملي ودونوفو ولويس رين وأوكتاف وكوبولاني والبارون دوسانفيتال والبارون ديتورنال وغيرهم ... وهو ما يستدعي حربا دينية ضد أولاد نايل بكل ما تعنيه الكلمة من معنى!!
بناء كنيسة للأوروبيين بقلب المدينة وبعدها ب 25 سنة بناء جامع معزول خارج أسوارها
الكنيسة من أجل الجلفة الكاثوليكية؟
في يوم 12 جوان 1919 نشرت صحيفة "الصليب" خبر زيارة أسقف الجزائر "الأب لينو Leynaud" إلى ثلاث مدن بالصحراء وهي الجلفة والأغواط وبوسعادة حيث نجد الجريدة تنقل تصريحا لأسقف الجزائر يبين بوضوح توجسات الفرنسيين من الإسلام في الصحراء وانشغاله بالوضع الروحي والمادي لأتباعه "المبعدين كالضائعين في الصحراء لا سيما وأنهم محاطون بالمسلمين من كل جانب" على حد تعبير الصحيفة.
وعندما حل بالجلفة في جولته بالصحراء، ألقى الأسقف لينو خطابا أمام نصارى المدينة استرجع فيه مقولة الجنرال لامورسيير حين قال "إن العناية الإلهية التي قادتنا لتلقين الحضارة لإفريقيا هي من أعطتنا النصر". هذه الشهادة تحيل على أن احتلال فرنسا للجزائر هو عقيدة صليبية تنفي صفة الحضارة عن سكان إفريقيا وتعطي شرعنة وغطاء لكل الجرائم الفرنسية ... ولمن لا يعرف الجنرال لامورسيير فإنه هو من وضع النظام القمعي الإرهابي لمحاربة الأمير عبد القادر. وهذا النظام العسكري "Système Lamorcière" يفرض على الحملات الفرنسية معاقبة الجزائريين بعين المكان بدل السجن وتمويل نفسها بنفسها ... وقد رأينا بموجب ذلك النظام جرائم ومجازر ارتُكبت ببلاد أولاد نايل في شتاء وربيع سنة 1846 !!
ثم هاهو الأسقف لينو، في نفس الزيارة لمدينة الجلفة، يستشهد بمقولة نابليون الثالث لما حل بالجزائر سنة 1865 حين قال للأسقف الأكبر بالجزائر الأب بافي Pavy ... "الدين وحده فقط من يبني الحضارة" ... فهل يعني ذلك أن نابليون الثالث حين أصدر قرار تأسيس قرية الجلفة بتاريخ 20 فيفري 1861 كان يهمل البعد الديني لذلك؟ ... الإجابة عن هذا السؤال نجدها في قرار نابليون المنشئ للمركز السكاني "الجلفة" والذي تبدأ ديباجته هكذا: "إن نابليون، برحمة الرّب والإرادة الوطنية ...".
وهل يُعقل أن ننسى أن الأسقف "بافي" نفسه كان حاضرا إلى جانب الجنرال دوسوني بالجلفة حين أعدم بلا محاكمة مجموعة من المشتبه فيهم بدعم المقاوم بوشندوقة في آفريل 1861؟ وهنا نستذكر معلومة لا تخفى عن دوسوني وبافي وهي أن الطيب بوشندوقة شخصية دينية وأنه قد فر إلى تونس وأقام عند شخصية دينية وهو مصطفى بن عزوز شيخ الزاوية الرحمانية بنفطة وصديق الشيخ سي الشريف بلحرش باشاغا أولاد نايل!!
ثم هل يُعقل أن ننسى أن الأسقف "بافي" لمباركة الكنيسة الجديدة التي تزامن تدشينها مع "مجزرة مطمورة السطاعش" ... إنها الكنيسة التي أصدر نابليون الثالث قرار بنائها بتاريخ 31 مارس 1860 ... وهي الكنيسة التي لن يُسمح بمنافستها ببناء مسجد طيلة أكثر من نصف قرن ثم يخرج لك من يقول أن الجلفة كانت رمزا للتعايش الديني وكأن الديانة النصرانية أصيلة في هذه الربوع قبل الاحتلال الفرنسي للجزائر ... بل حتى أجداد الفرنسيين من الرومان الذين وصلوا إلى منطقة مسعد في القرن الثاني للميلاد كانوا وثنيين!!
ظروف تأسيس مدينة الجلفة وتولية سي الشريف بلحرش!!
نحن الآن في يوم 20 سبتمبر 1852 ... تاريخ وصول حملة الجنرال يوسف إلى منطقة الجلفة ... لقد صار هذا الجنرال السفاح قائدا لأركان جيوش إقليم الوسط بعد أن صال وجال في عنابة وقسنطينة والبليدة وبلاد القبائل ليكون على رأس الحملة التي طاردت الأمير عبد القادر بربوع أولاد نايل التي عرفته سفاحا يطبّق "نظام لا مورسيير" بحذافيره مثلما عرف هو النوايل مقاومين أشداء متمسكين بالأمير عبد القادر ولم يخذلوه حتى وهو في أوجّ ضعفه ...
وهكذا وبحكم معرفته الجيدة للناحية وجد الجنرال يوسف في منطقة وادي الجلفة مكانا مناسبا لبناء برج عسكري. والذي سيكون دوره كثكنة ونقطة استراحة وتزود وتحرك للحملات العسكرية الفرنسية على غرار النقاط الشهيرة على طول طريق الجزائر - الأغواط مثل "قلتة السطل" و"الخرزة" و"المصران" وغيرها.
وبتاريخ ال 24 من سبتمبر تم وضع أول حجر أساس لبناء هذا البرج العسكري الذي سرعان ما سيتطور ويكتسي أهميته من موقعه الاستراتيجي ... 100 كم عن قصر زنينة و110 كم عن بوسعادة و110 كم عن الأغواط و150 كم عن بوغار ... يعني في قلب بلاد أولاد نايل بعربها الهلالية والإدريسية!!
لقد رضخت فرنسا لمنطق المقاومة الشعبية لدى أولاد نايل فاضطرت إلى مخالفة توصيات الجنرال ماري مونج حين نصح في تقريره لسنة 1847 بتفريق أولاد نايل بين قادة من خارج بلادهم. وهكذا تم التفاوض مع الأسير سي الشريف بلحرش، خليفة الأمير عبد القادر، ليكون ممثلا لأولاد نايل لدى السلطة الفرنسية بتعيينه في رتبة آغا على جزء من بلاد أولاد نايل في نهاية 1849.
يمثل سي الشريف بلحرش أول شخصية محورية عند الحديث عن التاريخ الديني لمدينة الجلفة. فهو أول قائد لأولاد نايل تعترف به فرنسا قبل وبعد تأسيس مدينة الجلفة. وسي الشريف بلحرش هو صاحب تكوين ديني بزاوية سيدي عطية بيض القول المتنقلة ثم زاوية أولاد جلال التي انتسب إليها مع تأسيسها ليكون من أوائل طلبتها ثم صهر مؤسسها الشيخ المختار الذي أذن له بتأسيس زاوية بالجلفة سنة 1853.
إن أول فكرة لتجسيد الوجود العسكري الفرنسي بالقرب من واد الجلفة كانت في إطار مشروع 15 ديسمبر 1849 لبناء دور القيادة للآغوات الذين عيّنتهم أو ستعَيّنهم فرنسا بالتيطري. وضمن هذا المشروع نجد أن سي الشريف بلحرش قد ذكر بصفته آغا ينتظر التعيين في منصبه مع تدوين ملاحظة وهي "وفاؤه لفرنسا وحقيقة شخصيته لم يتم ضمانهما بعد". ويقترح المشروع المذكور أن يتم بناء دار القيادة إما بمحاذاة "واد ملاح" بالجلفة أو عند جبل الخيذر. ولأن فرنسا لم تكن تأمن سي الشريف بلحرش ولكي تضمن فرنسا الرقابة عليه، فقد تقرر بناء الدار بالقرب من "الحمّام"، بنواحي حد السحاري حاليا، في ربيع سنة 1851 بتنفيذ من الحملة الضخمة التي قادها الجنرال لادميرو بمعية 1500 جندي. وهكذا ستضمن فرنسا أن يكون الآغا الجديد سي الشريف تحت رقابة عسكرها في بوغار وغير بعيد عن عيونها في التيطري.
غير أن تسارع الأحداث بالجنوب وفشل مفاوضات سبتمبر وأكتوبر 1851 التي قادها الجنرال لادميرو مع الناصر بن شهرة الذي اشترط عزل شيخ الأغواط لكي يرجع إلى الأغواط حسب مذكرات ديباراي، والعودة القوية للتلي بلكحل الذي قاد مقاومة أولاد نايل من جديد ... كل ذلك جعل الجنرال يوسف يقرر بناء برج عسكري بمحاذاة وادي الجلفة في شهر سبتمبر من سنة 1852 على مساحة نصف هكتار (5000 متر مربع) بتكلفة 38024 فرنك فرنسي قديم حيث تم تخصيص البرج لإقامة القيادة العسكرية الفرنسية والموظفين الملحقين بها.
وقد لاحظت السلطة الفرنسية أن وجود سي الشريف بلحرش في البرج العسكري سيجعل منه مكانا لسلطة دينية كون سي الشريف من حفظة القرآن فضلا عن أنه من مشجعي بناء الزوايا ويتردد عليه كثيرا شيوخ وطلبة الزوايا ... وهكذا تقرر بناء دار قيادة لسي الشريف بلحرش بمحاذاة واد ملاح على بعد حوالي 01 كيلومتر بالمكان المسمى "عين شنوف".
وقد بدأ بناء دار القيادة سنة 1853 وانتهى سنة 1855. فاتضح فعلا صدق شكوك فرنسا حين جعل سي الشريف بلحرش من تلك الدار مقرا لزاويته ثم ليشرع شقيقه الباشاغا سي بلقاسم لاحقا في بناء المسجد المعروف باسمه ...
أول تجزئة بالجلفة سنة 1860 ... الكنيسة قبل كل شيء!!
بتاريخ 10 جانفي 1860 تقرر بناء قرية الجلفة ب 55 تجزئة على مساحة تقع بين عين شنوف والبرج العسكري. ولكي تجعل فرنسا من مدينة الجلفة معقلا للكاثوليكية والتضييق على الدين الإسلامي فإن مخطط التجزئة لقرية الجلفة جعل دار القيادة ومعها زاوية الشريف خارج الحدود الحضرية للقرية الكولونيالية.
والملاحظ هو أن المخطط "Plan d'ensemble du village de Djelfa" الصادر سنة 1860 قد ترك مساحة استراتيجية تتوسط 03 شوارع و04 بنايات ... لتكون هذه الأرضية حاضنة للكنيسة الكاثوليكية التي صدر مرسوم إنشائها بتاريخ 31 مارس 1860 أي 80 يوما بعد مرسوم اعتماد مخطط إنشاء قرية الجلفة. هذه الأخيرة ستتحول في ظرف سنة إلى مركز سكاني بموجب المرسوم الصادر في 20 فيفري 1861 !!
لقد كان غرض الفرنسيين من بناء الجلفة أن تكون مدينة كاثوليكية خالصة لهم ولهذا حرصوا على بناء الكنيسة وفندق القساوسة "Presbytère" بتجنيد الهندسة العسكرية الفرنسية ... كل ذلك تم سنة 1861 أي في فترة قياسية ومبكرة جدا !!
ومن أجل التضييق أكثر فأكثر على الدين الإسلامي بالجلفة فإنه قد تقرر الشروع ببناء أسوار الجلفة بعد اندلاع مقاومة 1864. وهذه الأسوار بقيت بنفس مخطط تجزئة سنة 1860 أي الإبقاء على زاوية عين شنوف ودار القيادة خارج الحدود الحضرية لمدينة لجلفة. مع العلم أنه قد استمر بناء الأسوار والبرجين الجديدين إلى غاية سنة 1871، وبعد ذلك بست سنوات، أي 1877، ستبدأ إجراءات بناء أول مسجد بالجلفة ولكن خارج أسوارها!!
وهناك رواية شفوية مفادها أن بناء المسجد كان أمنية لسي الشريف بلحرش ولكن الأقدار لم تمهله إذ اغتيل في أكتوبر من سنة 1864 قبل تجسيد ذلك. وكما سنرى لاحقا فإنه من المؤكد أن تعطيل حلم سي الشريف في بناء مسجده مرتبط بالإدارة الفرنسية التي تعامل معها من سنة 1850 إلى سنة 1864.
بناء جامع سي بلقاسم خارج قرية الجلفة!!
قصة بناء جامع الجلفة أو جامع سي بلقاسم، بحي القرابة أو البرج حاليا، تعطينا فكرة واضحة عن التضييق الذي مارسته فرنسا على الدين الإسلامي بدائرة الجلفة.
وحسب سجل الجرد العقاري لناحية التيطري سنة 1882 فإن جامع الجلفة (جامع سي بلقاسم) قد تم بناؤه سنة 1879 على مساحة 265.69 متر مربع بتكلفة 65 ألف فرنك فرنسي قديم. وتشير نفس الوثيقة إلى أن أنه تم أيضا اعتماد مشروع لبناء محكمة قاضي الجلفة على أرضية تتبع مكتب العرب سنة 1876 بقيمة 700 فرنك فرنسي قديم.
فإذا لاحظنا أن عدد سكان مدينة الجلفة سنة 1872 هو 441 نسمة (269 فرنسي، 48 أجنبي، 124 مسلم) ... فإننا سنكتشف أنه قد كان للنصارى كنيستهم بينما المسلمون لم يكن لهم مسجد لا داخل المدينة ولا خارجها في تلك الفترة. وأن أقرب مسجد لمدينة الجلفة سُمح ببنائه كان يقع خارج أسوارها وهو جامع الباشاغا سي بلقاسم الذي دامت أشغال بنائه سنتين كاملتين وانتهت سنة 1879 ... أي بعد 20 سنة من بناء الكنيسة ... فأي تعايش بين الأديان كان موجودا داخل أسوار المدينة؟
والجدير بالذكر أن فرنسا قد سمحت بنهاية ستينات القرن التاسع عشر ببناء "مقام الشيخ النعاس" داخل أسوار المدينة في حدود سنة 1867 وهو مصلى ومقام للشيخ عبد الرحمان النعاس (رحماني الطريقة، المتوفى سنة 1907) وفيه كان يتلى الورد الرحماني وتقام التراويح وقد أشرف عليه الشيخ محمد نجل الشيخ النعاس من سنة 1907 إلى غاية وفاته سنة 1945. وقد سُمح ببناء هذا المصلى في فترة اتسمت بهجوم المقاوم بوشندوقة (رحماني أيضا) على المدينة سنة 1861 وبعد انتشار المقاومة بالمنطقة سنة 1864 وأيضا بُعيد الوباء والجراد والقحط والمجاعة التي ضربت المنطقة سنة 1867 ... يعني تحت الضغط ومن باب الرضوخ وليس حبا في الإسلام!!
كما اتسمت هذه الفترة بسيطرة فرنسا على كل الجوانب التمويلية والتقنية لبناء المساجد. وفي هذا الصدد يشير الكاتب الفرنسي "جورج فوازان" في كتابه "الجزائر للجزائريين"، سنة 1861، إلى أن الحكومة العامة بالجزائر ظلت تمتنع عن تمويل بناء المساجد وتترك ذلك للأهالي ولكنها في نفس الوقت صارت تفرض طلب الرخصة لذلك وجعلت تنظيم جمع التبرعات من اختصاص الإدارة الفرنسية لوحدها. كما أشار أيضا إلى سياسة الحكومة الفرنسية في الترخيص ببناء الكنيسة قبل المسجد في بعض البلدات ... وبالإسقاط على بلدة الجلفة الكولونيالية سنجد أنفسنا أمام عدة استنتاجات: عطّل الاحتلال الفرنسي بناء مسجد سواء داخل أو خارج أسوار الجلفة وجعل الإدارة الفرنسية مسؤولة عن التبرع لبناء جامع سي بلقاسم (جامع الجلفة) ... فماذا يقول أرشيف سجلات مكتب العرب بالمدية عن ذلك؟
جامع سي بلقاسم بالجلفة ... السيطرة الفرنسية الواضحة في جميع مراحل البناء!!
ورد في التقارير الفصلية لسجلات مكاتب العرب سنة 1869 ملاحظات عن رغبة المسلمين بالجلفة في بناء مسجد لهم. فالتقرير الصادر في سبتمبر 1869 يقول "الديانات غير الكاثوليكية: يشكل المسلمون أغلبية السكان وهُم لا يملكون مسجدا. ولكن في عدة مناسبات عبروا عن رغبتهم في تشييد مسجد داخل القرية (الجلفة) ... البروتستانت واليهود عددهم قليل بالجلفة".
أما في التقرير الفصلي الرابع في ديسمبر 1869 فنجده تحت فقرة الديانات غير الكاثوليكية يقول "أغلب الأوروبيين هم كاثوليك ويُضاف إليهم أقلية من البروتستانت واليهود. المسلمون هم الأكثرية بالجلفة وقد عبروا عن رغبتهم في بناء مسجد داخل القرية وأنه يمكنهم بسهولة تامة جمع تكلفة البناء من عروش الملحقة".
ولعل أهم ملاحظة على هذين التقريرين هي أن السلطة الفرنسية لم تسمح أبدا ببناء الجامع داخل القرية وأنها لن تسمح لاحقا بجمع التبرعات كما سنرى ... وعلى ضوء هذا التقرير نتوقع أن الترخيص لمصلى الشيخ النعاس يكون بعد سنة 1869 في انتظار أي وثيقة تبين لنا تاريخ افتتاحه بالضبط ...
الآن وبعد 27 سنة من تأسيس الجلفة سيرى مشروع جامع الجلفة النور ... وحول هذا الموضوع في حوزتنا أربع 04 مراسلات رسمية محررة بسجل إقليم المدية وهذا خلال الفترة من 23 فيفري 1877 إلى 17 آفريل من نفس السنة. المراسلة الأولى هي بريد صادر لملف "مشروع بناء مسجد الجلفة" مع طلب إبداء الرأي حول ذلك.
أما المراسلة الثانية فهي بريد وارد مؤرخة في 10 مارس 1877 وهي بريد وارد لإرجاع وثائق وعقود مشروع المسجد المرسلة يوم 08 مارس من نفس السنة. وهذه العقود هي: محضر مداولات المجلس، عقد هبة لأرض المسجد، عقد موافقة، عقد توثيقي باللغة العربية، ترجمة العقد التوثيقي إلى الفرنسية. في هذه المراسلة حرص مسؤول مقاطعة الجزائر على التوضيح بأن الموافقة على هبة الأرضية من طرف الباشاغا لا تعني الشروع في بناء المسجد وأن هبة الأرض وبناء المسجد هما قضيتان مختلفتان. وقد دعت المراسلة إلى الاحتفاظ بهذه العقود والوثائق في الأرشيف إلى أن يتم طلبها عند الحاجة.
وبتاريخ السابع عشر من شهر آفريل 1877 ترد مراسلة أخرى حول بناء مسجد الجلفة تؤكد تخصيص مبلغ 65 ألف فرنك فرنسي قديم بالسنة المالية الحالية وتكليف مدير التحصينات بالمشروع. وفي هذه المراسلة طُلبت تعديلات للمحراب وقاعة الوضوء والمدخل ... وتوقعت المراسلة أن يتم الشروع قريبا في الأشغال وأنه قد تم الترخيص لمديرية الهندسة.
وهكذا فإنه وخلافا لرغبة السكان ببناء مسجد داخل الأسوار رخصت فرنسا ببنائه خارج المدينة والأكيد أن الدافع وراء ذلك هو عدم إزعاج الأوربيين بصوت الآذان بل يُسمعفقط قرع جرس كنيستهم المبنية منذ 18 سنة. وهنا نجد إحصاء ديمغرافيا في ماي 1877 يحيل على أن الجلفة تضم 393 مواطنا أوروبيا منهم 317 فرنسي و14 يهودي (صاروا فرنسيين بموجب مرسوم كريميو سنة 1870) ومعهم 12 كولون من جنسيات أوروبية أخرى.
وهكذا سنلاحظ عبر كل هذه المراسلات حرص السلطة الفرنسية على الإشراف التقني والمالي وحتى التدخل في طريقة التصميم للمسجد ... فما الهدف من ذلك؟
قضية تحريم الصلاة في جامع مبني بالسخرة ...
لقد أثبتنا من خلال المراسلات كيف أن السلطة الفرنسية حرصت على التدخل في كل صغيرة وكبيرة تتعلق بجامع الجلفة سنة 1877 رغم أنه خارج الأسوار.
والروايات تتضارب بشأن إقامة الصلاة في جامع سي بلقاسم ولا نملك حاليا أي وثيقة أرشيفية تتحدث عن تحريم الصلاة فيه بحكم أنه بُني بالسخرة ما عدا روايات شفوية متضاربة حول فترة التحريم. وتتناقض هذه الروايات مع ما نقلته إحدى الصحف الفرنسية عن "زردة" تم تنظيمها يوم الجمعة 20 نوفمبر 1914 من طرف القايد سي عبد الله بن محمد أين تم إقامة "صلاة الزوال" على الساعة العاشرة من طرف إمام مسجد الجلفة وقد حضر الطلبة والمرابطون وقاضي الجلفة سي يونس بن مشيه وأُطعم يومها 1700 شخص وتم تلاوة أحزاب من القرآن الكريم. ويُستدلّ بهذا الخبر الصحفي على أن جامع الجلفة كانت تؤدى فيه الصلاة وراء إمامه دون فرضية تحريمها بسبب السخرة، كما توجد صورة فوتوغرافية مشهورة احتفالية بشهر رمضان قبالة جامع سي بلقاسم ... ومن جهة أخرى فإننا لا نملك أي رواية شفوية أو وثيقة عن الصلاة بجامع الراس بمسعد الذي بنته الهندسة العسكرية الفرنسية سنة 1858 !!
صورة احتفال بشهر رمضان قبالة جامع سي بلقاسم بنهاية القرن التاسع عشر (المصدر: الأنترنت)
والسخرة هي أن تجبر السلطة الفرنسية جزائريين على العمل أو تسخّر بهائمهم للعمل بمشروع ما. وهناك مثلا حكاية الشيخ بلمعطار عن تسخير بهيمته بنهاية القرن التاسع عشر.
وتبدو المؤامرة الفرنسية متكاملة المعالم ضد جامع سي بلقاسم حين نعلم أن الأصل في السخرة هو دفع خطر داهم مثل الجراد أو الفيضان أو غيره. ومادام أن الأمر يتعلق ببناء مسجد فإن السكان يتجندون له دون الحاجة إلى السخرة غير أن فرضها من طرف الفرنسيين يبعث على القول أن الغرض من بناء المسجد هو أن يولد ميتا ... يعني كان هناك تشدد من ناحية قبول الأموال الفرنسية.
وهذا التشدد ضد السلطات الفرنسية قد برز فيه سنة 1868 القاضي بلعدل سي آدم المعروف باسم "سي يادم" والمتوفى سنة 1922. وللعلم فهو يُعتبر أول معلم للقرآن ببلدية الجلفة بأول زاوية والتي أسسها صديقه الحميم الخليفة سي الشريف بلحرش وهو أيضا صهره لأن "شهرة بنت لحرش" تزوجها سي آدم. كما أنه صديق حميم للشيخ عبد الرحمان النعاس صاحب أول مصلى داخل أسوار الجلفة وهو أيضا صديق حميم للباشاغا سي بلقاسم مؤسس أول مسجد ببلدية الجلفة وهو ما يفسر القول بأن سي آدم هو أول إمام لمسجد سي بلقاسم.
بين أيدينا تقرير فرنسي في سنة 1869 ضد الشيخ سي آدم، قاضي مقاطعة زاغز الغربي، وفيه ورد:
" القاضي سي آدم لا ينصاع للأوامر الشفهية والكتابية الموجهة له منذ 03 سنوات فهو لا يقيم بمقاطعته بل في برج الجلفة مع زوجته شقيقة الباشاغا سي بلقاسم ... لقد تم تنبيه المجلس الفصلي للمحكمة الإسلامية بشأن سي آدم وأنه لا يطيع الأوامر ... وقد اقترحنا عزله في تقرير آفريل 1867 ولكن ذلك لم يُنفّذ ... إنه متشدد جدا وهو يتجنب التواصل مع كل من هو ليس مسلما ...".
وهكذا فإن وجود الأئمة من أمثال سي آدم بلعدل يعتبر واحدا من أسباب الإضطهاد الديني الفرنسي بمنطقة الجلفة ... ويبقى البحث في جانب الفتوى في تلك الفترة مطلوبا لفهم سياقها وتفسير أحداثها.
أخيرا فإنه يبدو لنا جليا أن السلطة الفرنسية لا يخدمها أن تكون هناك سلطة دينية موحّدة للعرب المحيطين بالجلفة ... ذلك أن المحتل قد ركّز في الجلفة كل المصالح التجارية والإدارية والصحية والعسكرية والقضائية وجعل في المدينة كنيسة كرمز للسيطرة النصرانية على الربوع ... ثم إن وجود مسجد تقام فيه الجمعة وسوق يومي الجمعة والسبت سيفتح الباب واسعا على التواصل بين العرب وتوحيدهم دينيا مما قد تكون له نتائج ضد الفرنسيين ... وبالتالي فإن تحريم الصلاة قد يكون بفتوى مغرضة أو مفتعلة ... وهنا سينفجر سؤال آخر: لماذا لم توجد في الجلفة منذ ذلك الوقت مرجعية صوفية رحمانية قوية تضاهي قوة زاويتي أولاد جلال (نشأت سنة 1816) والهامل (نشأت سنة 1864) وهذا من منطلق أن أولاد نايل سباقون في الإنتماء الصوفي وأن الرحمانية قديمة جدا لدى أولاد نايل مثل زاوية الشيخ سيدي عطية بيض القول (1780) والزاوية المتنقلة لعين اقلال (1811)؟ ... لعل الإجابة عن هذا السؤال تكمن في أن فرنسا لا تريد أن يظهر لها ظهير صوفي مقاوم مثل الدرقاوية فعمدت إلى إفراغ الجلفة وتصحيرها من أي مرجعية صوفية قوية ... وهذا وحده موضوع شيّق للبحث التاريخي.
بداية القرن العشرين ... التضييق على الوظائف الدينية بدائرة الجلفة!!
بحوزتنا جدول إحصائي للوظائف الدينية، مدفوعة الأجر من سلطات المحتل، لكل المساجد بتراب الجزائر المحتلة سنة 1900. يرصد هذا الجدول مختلف الوظائف الدينية الرسمية المرتبطة بمؤسسة المسجد وهي إحدى عشر (11) وظيفة: الإمام والمفتي وعون المفتي والمؤذن والحزّاب والباش حزّاب والمدرّس والمقرئ والحارس ومصلح المصابيح والمُنظف.
وقبل التعليق على الجدول نشير إلى أن الحاكم العام للجزائر قد أصدر تعليمة بتاريخ 25 جانفي 1895 يتم بموجبها تعيين متصرف إداري يشرف على مراقبة التسيير المالي للمساجد والزوايا التي لا تتبع الأملاك العامة (غير الواردة في الجدول). كما أقرت التعليمة أيضا تدخّل السلطة المحلية في تعيين مقدم القبّة ومنعت أيضا "الزيارة" وهي هبة مالية كان يتلقاها شيوخ الزوايا والمساجد لمساعدتهم في القيام بدورهم الديني والتعليمي. وأكدت التعليمة على أن "الزيارة" تطلب بصفة رسمية من إدارة الاحتلال الفرنسي.
الملاحظ من خلال الجدول أنه في نهاية القرن التاسع عشر كانت دائرة الجلفة تحت تضييق ديني منقطع النظير مقارنة بمختلف مساجد الوطن. وعلى سبيل المثال لا الحصر نجد أن مدينة البيّض (إسمها جيريفيل آنذاك) يوجد بها 03 مناصب وهي إمام ومفتي ومؤذن عكس مدينة الجلفة. وهذا على الرغم من أن الجلفة وجيريفيل تم إنشاؤهما كمركزين عسكريين في نفس السنة أي سنة 1852 ورغم أن الجلفة قد تطورت وصارت مركزا تجاريا وديمغرافيا مهما ... وهو ما يظهر جليا تضييق المحتل الغاشم على مسجد سي بلقاسم.
وعلى الرغم من أن مسعد ودمّد والحنية قصور عتيقة ومتقاربة، وكانت تضم مسجد موسى الدرقاوي الذي بُني سنة 1831 ومسجد دمّد العتيق، فإننا نجد في الإحصاء الرسمي منصبا واحدا لمسجد مسعد. وهذا الأخير يُقصد به "جامع الراس" الذي بُني سنة 1858 تحت إشراف سلطة المحتل الفرنسي ويبدو أنه كان مسجد ضرار ضد مساجد وزوايا قصور مسعد التي تحمل سلطة روحية لقدماء أهل المنطقة ولقادة المقاومة الشعبية من أمثال الشيخ موسى الدرقاوي والشيخ السنوسي والشيخ بن عياش. والدليل على ما قلناه هو أن دار القيادة ملاصقة للمسجد المذكور ...
نفس الأمر بالنسبة لجامع الشارف الذي ذكره المترجم العسكري آرنو سنة 1863 وجامع زنينة العتيق. فنجد في كل منهما وظيفة لإمام واحد فقط. وهذا كله يحيل على أن فرنسا كانت تراقب المساجد وكانت تحرمها من المخصصات المالية لمختلف الموظفين لأن هذه المنطقة قد لعبت دورا كبيرا في المقاومات الشعبية التي قادها شيوخ الصوفية وخرّيجو الزوايا.
وسنلاحظ أن الإحصائيات الرسمية للمحتل الفرنسي قد تجاهلت مسجد قصر عمورة (بُني في القرن السابع عشر) ومسجد قصر المجبارة (بُني بنهاية القرن الثامن عشر) مثلما تجاهلت مساجد زوايا المنطقة وهي كثيرة وعتيقة ومنها القارة والمتنقلة في شمال وشرق وغرب وجنوب ووسط دائرة الجلفة وليس هذا مقام الحديث عنها ... فهل كان هناك تضييق على الزوايا أيضا؟ ذلك ما سنعود إليه في دراساتنا القادمة بحول الله.
ويبقى في الأخير التأكيد على أن سكان منطقة الجلفة ورغم الفقر الشديد وسنوات الجفاف والمجاعات ومواسم الجراد وسنوات الأوبئة (1867 و1919-1921 و1940-1945) والرقابة الشديدة للمحتل إلا أنهم لم يتخلوا أبدا عن البذل والعطاء للزوايا والمساجد ... والدليل هو أن هذه الزوايا كانت هي التي لعبت دورها في إطعام الفقراء واستقبال الأرامل واليتامى وقت الأوبئة وكل ذلك بفضل المحسنين الذين يتبرعون بالأموال والصدقات للزوايا مثلما وثقناه في الجزء الثاني من ثلاثيتنا عن تاريخ الأوبئة والمجاعات بدائرة الجلفة بداية القرن العشرين ...
الهوية المعمارية الأصيلة لجوامع الجلفة ...
في دراسته المنشورة بالعدد الثامن لمجلة "المركز الثقافي الإسلامي" لسنة 2018، يتحدث المهندس المعماري عطية عيساوي عن التراث المعماري الإسلامي لمنطقة الجلفة. حيث قسّم هذا التراث إلى 03 أصناف (التراث البدوي، تراث القصور، التراث الكولونيالي). وقد صنف الباحث عيساوي ضمن النمط المعماري العثماني كلا من جامع الراس بمسعد (1858) وجامع سي بلقاسم بالجلفة الذين بُنيا بإشراف تقني للمحتل الفرنسي.
وفي المقابل فإن سكان ولاية الجلفة كانت لهم هوية معمارية أصيلة مرتبطة بالقصور ويصفها المهندس عيساوي بأنها تتميز ببناء الجامع على شكل طابق أرضي ومحراب داخلي ومئذنة بطابع مغاربي لا تتجاوز 03 أمتار طولا وهي تقع فوق السقف وليس على أحد جوانبه. ويُلحق بالجامع مدرسة قرآنية وبيت وضوء. ومن الناحية العمرانية يقول الباحث عيساوي أن الجامع يكون دائما مشرفا على رحبة وعلى باقي أجزاء القصر.
وهذه الهوية المعمارية تتطابق مع المساجد الأثرية بالحجاز من ناحية طول المئذنة والمحراب الداخلي ومواد البناء وتقنيات التسقيف. وقد تمسك بها الجلفاويون في أوج عهد الاحتلال الفرنسي خصوصا في القرن العشرين مثلما هو الأمر مع جامع عين اسرار وجامع سي علي بن دنيدينة وجامع سي أحمد بن الشريف ونفس الأمر بالنسبة لنهاية القرن التاسع عشر كما هو الشأن مع الجامعين العتيقين لزنينة والشارف.
مساجد أخرى داخل وخارج أسوار الجلفة
أول جامع تم بناؤه داخل الأسوار كان للشيخ بن دنيدينة سنة 1916 مع زاوية ... ثم جامع سي أحمد بن الشريف سنة 1919 وكلاهما بتمويل من الشيخين المؤسسين ... طبعا فرنسا كانت تحت ضغط الحرب العالمية الأولى وكانت تريد مراودة السكان وإغرائهم بقانون التجنيد الإجباري الذي رفضه السكان وتطور الأمر إلى مقاومة مسلحة قادها الشيخ عبد الرحمان بن الطاهر طاهيري (رحماني أيضا) بعد أن أفتى بتحريم التجنيد الإجباري ورفض الانصياع لقانون السخرة الفرنسي القاضي بتسخير كل الموارد لتموين جبهات الحرب.
ولقد سبق أن تحدثنا عن الدور الكبير لمسجد وزاوية سي علي بن دنيدينة في التضامن مع الأهالي حين ضربت المجاعة والوباء دائرة الجلفة، ليأتي في نفس الفترة المسجد الثاني داخل الأسوار للباشاغا سي أحمد بن الشريف سنة 1919.
ومع مرور النصف الأول للقرن العشرين كانت مدينة الجلفة قد كبرت وتوسعت شرقا وغربا وجنوبا ... وظهرت أحياء جديدة مثل حي زحاف وحي السعادة وحي الظل الجميل ودشرة السبيطار وبيرو عرب وبن جرمة وغيرها. فظهرت مساجد جديدة ومنها مسجد حي السعادة (يُرجع فيه إلى الأستاذ جعفر الشيخ الحمدي) ومسجد بن معطار سنة 1936 الذي يُعتبر الثالث داخل السور وقد بُني مثل سابقيه دون تمويل فرنسي بهبة وعطاء من الشيخ أحمد بن معطار حساني ثم شُرع في توسعته سنة 1978 بعد أن تبرع الحاج بلخير بوزكري بالعقار الشمالي الملاصق للمسجد، وقد زودنا حفيد الأستاذ عزيز بوزكري بصور أصلية لهذا المسجد وأخرى أثناء إعادة البناء.
وفي الجلفة الشرقية بأكملها (شرق واد ملاح) كان أول مسجد سُمح ببنائه هو مسجد "الإصلاح" في دشرة "الحاج مصطفى زحّاف". وسنجد بالجريدة الرسمية الفرنسية قرارا لرئيس دائرة الجلفة بتاريخ 03 جوان 1960 بموجبه يصرح ببناء "مسجد الصلاح" بحي زحاف وأن الهدف من بناء المسجد هو "ديني بحت strictement réligieux" حسب نص القرار.
صور مختلفة لجامع سي بلقاسم نهاية القرن ال 19 وبداية القرن ال 20 (م: الأنترنت)
أول مسجدين داخل سور الجلفة سي علي بن دنيدينة وسي أحمد بن الشريف "جامع الجمعة"

جامع بلمعطار قبل وأثناءإعادة بنائه
قرار إنشاء مدينة الجلفة ومخططها العمراني إلى غاية سنة 1871 (دوفيلاري)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.