بصفته مبعوثا خاصا لرئيس الجمهورية, وزير الاتصال يستقبل من قبل رئيس جمهورية غينيا بيساو    السيد بوغالي يتحادث مع رئيس برلمان غانا    زروقي: الدولة تولي أهمية قصوى لتجسيد مشاريع المواصلات لفك العزلة عن المناطق الحدودية    السيد حيداوي يشيد بدور الكشافة الإسلامية الجزائرية في ترسيخ القيم الوطنية    إطلاق مخطط مروري جديد في 5 فبراير المقبل بمدينة البليدة    توقيف شخص بثّ فيديو مخلّ بالحياء في منصات التواصل الاجتماعي    الثلوج تغلق 6 طرق وطنية وولائية    معسكر: الشهيد شريط علي شريف… نموذج في الصمود والتحدي والوفاء للوطن    إنتاج صيدلاني : حاجي يستقبل ممثلين عن الشركاء الإجتماعيين ومهنيي القطاع    أمطار رعدية على عدة ولايات من الوطن يومي الجمعة و السبت    ميناء الجزائر: فتح أربعة مكاتب لصرف العملة الصعبة بالمحطة البحرية للمسافرين "قريبا"    دورة "الزيبان" الوطنية للدراجات الهوائية ببسكرة : 88 دراجا على خط الانطلاق    فلسطين: الاحتلال الصهيوني يحول الضفة الغربية إلى سجن مفتوح بوضع عشرات البوابات الحديدية    فايد يؤكد أهمية تعزيز القدرات الإحصائية من خلال تحديث أدوات جمع البيانات وتحليلها    اللجنة الاستشارية ل"أونروا" تطالب الكيان الصهيوني بتعليق تنفيذ التشريع الذي يحد من عمليات الوكالة في فلسطين المحتلة    رئاسة الجزائر لمجلس الأمن: شهر من الإنجازات الدبلوماسية لصالح إفريقيا والقضايا العادلة    كرة القدم/الرابطة الأولى "موبيليس": مباراة "مفخخة" للمتصدرواتحاد الجزائر في مهمة التدارك ببجاية    فلسطين: غوتيريش يطالب بإجلاء 2500 طفل فلسطيني من غزة "فورا" لتلقي العلاج الطبي    انتخابات تجديد نصف أعضاء مجلس الامة المنتخبين: قبول 21 ملف تصريح بالترشح لغاية مساء يوم الخميس    السوبرانو الجزائرية آمال إبراهيم جلول تبدع في أداء "قصيد الحب" بأوبرا الجزائر    وزير الاتصال يعزي في وفاة الصحفي السابق بوكالة الأنباء الجزائرية محمد بكير    الرابطة الأولى: شباب بلوزداد ينهزم أمام شباب قسنطينة (0-2), مولودية الجزائر بطل شتوي    وزير الثقافة والفنون يبرز جهود الدولة في دعم الكتاب وترقية النشر في الجزائر    بصفته مبعوثا خاصا لرئيس الجمهورية, وزير الاتصال يستقبل من قبل رئيس جمهورية بوتسوانا    وزير الصحة يشرف على لقاء حول القوانين الأساسية والأنظمة التعويضية للأسلاك الخاصة بالقطاع    وزير الصحة يجتمع بالنقابة الوطنية للأطباء العامين للصحة العمومية    فلسطين... الأبارتيد وخطر التهجير من غزة والضفة    اتفاقية تعاون مع جامعة وهران 2    بوغالي في أكرا    فتح باب الترشح لجائزة أشبال الثقافة    التلفزيون الجزائري يُنتج مسلسلاً بالمزابية لأوّل مرّة    الشعب الفلسطيني مثبت للأركان وقائدها    الأونروا مهددة بالغلق    محرز يتصدّر قائمة اللاعبين الأفارقة الأعلى أجراً    لصوص الكوابل في قبضة الشرطة    شركة "نشاط الغذائي والزراعي": الاستثمار في الزراعات الإستراتيجية بأربع ولايات    تحديد تكلفة الحج لهذا العام ب 840 ألف دج    السيد عرقاب يجدد التزام الجزائر بتعزيز علاقاتها مع موريتانيا في قطاع الطاقة لتحقيق المصالح المشتركة    مجموعة "أ3+" بمجلس الأمن تدعو إلى وقف التصعيد بالكونغو    غرة شعبان يوم الجمعة وليلة ترقب هلال شهر رمضان يوم 29 شعبان المقبل    اتفاقية تعاون بين وكالة تسيير القرض المصغّر و"جيبلي"    لجنة لدراسة اختلالات القوانين الأساسية لمستخدمي الصحة    4 مطاعم مدرسية جديدة و4 أخرى في طور الإنجاز    سكان البنايات الهشة يطالبون بالترحيل    توجّه قطاع التأمينات لإنشاء بنوك خاصة دعم صريح للاستثمار    رياض محرز ينال جائزتين في السعودية    مدرب منتخب السودان يتحدى "الخضر" في "الكان"    السلطات العمومية تطالب بتقرير مفصل    الرقمنة رفعت مداخيل الضرائب ب51 ٪    العنف ضدّ المرأة في لوحات هدى وابري    "الداي" تطلق ألبومها الثاني بعد رمضان    شهادات تتقاطر حزنا على فقدان بوداود عميّر    أدعية شهر شعبان المأثورة    الاجتهاد في شعبان.. سبيل الفوز في رمضان    صحف تندّد بسوء معاملة الجزائريين في مطارات فرنسا    العاب القوى لأقل من 18 و20 سنة    الجزائر تدعو الى تحقيق مستقل في ادعاءات الكيان الصهيوني بحق الوكالة    عبادات مستحبة في شهر شعبان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشعر بين السّليقة وكُلفة التّقوّل...الشاعر نزار قبّاني نموذجا
نشر في الجلفة إنفو يوم 19 - 04 - 2022

باعتقادي أن إشكالية أزمة الشعر الضاربة أطنابها نقاشا هذه الأيام، تتمحور في صحّية قريحة الشارع المفروض أنها متدفّقة أبدا بحكم الموهبة، لا يعيقها أيّ عائق لأنها نتاج عطاء من الله، وتحصيل حاصل متواصل من القراءة والمتابعة، وإفرازات حضور الحياة بكل إشكالاتها، وانتباه إلى مواقفها المختلفة بحساسياتها وأحجامها وأثقالها، فيما يعنيه وفيما لا يعنيه من التقاطعات الإنسانية، الرومانسي منها والتراجيدي والدرامي، وكذا علائقها المتنوعة المرتبطة باحتياجاته العاطفية والاجتماعية والمادّية، وكذلك تلك المرتبطة بالعلاقات خارج ما يخصه من هذه الاحتياجات، وأعني التطفل الحسّي المباح في شؤون الآخرين، بالنظر إلى البؤساء وإلى المترفين على حدّ سواء، الماما بسائر المواقف من حوله كضرورة تقتضيها معرفة أحوال النّاس، وبهذا الحضور يستطيع شاعر السّليقة أن ينفخ القصيدة بأرواحهم، لتتفاعل أحاسيسهم معها كما لو أنهم هم الذين قالوه، نتيجة ذلك التطعيم السحري الذي مارسه عليهم، لأنه بحكم دفق الأحاسيس التي وهبه إيّاها الله يشعر بأن يملك مقدرة ليبكي ويتألم نيابة عنهم، حين يعجزون عن كتابة وصفة لما يعانونه من محن مختلفة، هذه الطاقة التي يستمدّها منهم هي مخزون تلك المشاعر وزادها، بل وخامُها الذي ترجع إليه روح الشعر في عوزها الحسّي، وهي أهم من المعارف التي تساعد تقنيا على بناء القصيدة، وهذا هو الفرق الجوهري بين القصيدة الأكاديمية حين لا يكتفي قائلها إلا بإتقان تطبيق قواعد كتابتها، وبين القصيدة التي تنبع كالبركان من أغوار الروح، وكالمطر من بين طيّات السحائب، وكالماء المتفجّر من بين الصلب والترائب.
حيث لا تتخمّر هذه الظاهرة ولا تتكتّل إلا بالتأمل في تفاصيل الطبيعة ودقائق الأشياء المحيطة به، نعم أقصد قدرة التواجد في الفضاء الذي له فيه مُتّنَفّسٌ ومتاع، كالوطن والبيت وعموما المكان بجميع أبعاده النفسية وارتباطاته المادية، ثم القفزة الأخرى التي تجعله يحضر جغرافيا الكون التي تعج بما يثير المشاعر عن قرب وعن بُعد، فإذا تسلح الشاعر بكل ذلك، ثم زانه بالتفاتة مضيئة إلى الماضي، وعلى قدر حدّة هذه الالتفاتة حازم أيضا في التطلّع إلى المستقبل، أنظر كيف بكل هذا التراكم ماذا سيفعل الشاعر؟ هكذا هو شاعر السّليقة ليس فقط حبيسا في استثارة المرأة صاحبة الشعر الطويل والعينين السود والحركة الهفهافة، فما أضيق هذه الزاوية إذا أحسنّا تقدير ما يستحقه الشعر من فضاءات، أو أحصينا تاريخ تساجُل قصائده في شتى مجالات ومعارك ومغامرات الحياة، وإلّا جعلَنا هذا الشعر المحنّط نحمد الله على أن قيس بن الملوح لم يتزوج بليلى العامرية، وإلا قال قصيدة غزل واحدة وكفى، أو ربما حين بلغه أنها بالعراق مريضة انصرف إلى غيرها، فشاعر السّليقة بعيد عن هذه العبثية الحسّية العشواء، فهو يملك قرار حسّي لا رجعة فيه، إنه كالبركان إذا ما توفّرت شروط انفجاره فلا يستشير ولا يستطيع أن يوقفه أحد.
إذن لا يتعلّق أمر أزمة الشعر بالشكل الذي تتغلغل فيه روح القصيدة، سواء كان عمودي مقفّى أو متناغم بتفاعيل متنوعة، أو ربما حتى مفتوحة على اللّاشيء من هذا القبيل بحجج كثيرة، والعارفون يدركون أن روّاد هذه الحُجج إمّا فاشلون في الاستسقاء من بحور الشعر العربي، أو أنهم ليسوا شعراء أصلا، أمّا اكتفاء البعض بالصورة والموسيقى الداخلية، فهذا ركب يرقص على إيقاع غربي ولا ضرر منه، ولا أظن أيضا أنه يمثل عداوة مبيّتة للشعر العمودي، إلا إذا لم يكن مدّعي الحالة الشعرية واقفا على رجليه كما عهدنا سيرة الشعراء في تاريخ الأدب العربي، بدءا من الشعر الجاهلي إلى راهن القصيدة الآن.
أما أطروحة الهروب من مألوف القصيدة العربية بخصائصها التاريخية كموروث عربي، فإنه يختلف الكثير حول ما إذا كانت هناك ضرورة للتشبّث به أم يمكن الخلاص منه، على أن ليس في الشعر ما هو مقدّس، وأن هناك حتمية تدفعنا نحو اللجوء إلى ما جنت علينا به تراجم الشعر الغربي، ولو أن النّقد الثقافي يحبّذ هذا الحوار، بل يحث على التزاوج منه بغرض التنوع والإثراء، ولا أقول بالتهجين لأن في ذلك فقدان للهوية من منظور فحول الشعر العمودي، أما الحالة التي لا خوفٌ على الشعر العربي منها فهي لزوم القراءة للآخر على سبيل معرفة ما يكتبه، والوعي به على سبيل الاستئناس بالمُختلف، لأن الآخر أيضا إنسان وله لغته وله ما له من أشكال الكتابة، وليس غولا يتربّص بمشاعرنا كما يثير الحالة بعض المتشدّدين للتراث، أمّا حالة التأثر إلى درجة الانسلاخ فهذه مسؤولية الشاعر وأخلاقية التزامه بهويته الشعرية.
المسألة غير مثيرة للمخاوف في نظر ذوي القناعات، ودرجة ارتباطهم بما يعنيهم من لغة وتفكير وأشكال الكتابة، سيان كانت شعرا أم رواية أم أي جنس آخر، بدليل أن كثيرا من روّاد الشعر العمودي تمادوا مع هذا المدّ لغرض التواجد على نطاق أوسع، اعتبارا أن الحالة ذات صلة بالعصرنة والحداثة، والأكيد هم يستعدون الآن إلى حالة ما بعد الحداثة، وربما بعد أي مستحدثات أخرى قد لا نعلم عن تفاصيلها شيئا في الوقت الراهن، لأن العالم يتجدّد والحياة تتخذ لها أثوابا أنيقة مع كل جيل، فعلينا أن نفكر كيف نلقاها حين تخرج إلينا في شؤون مفاجئة أخرى، ليس انحرافا بروح الشعر العربي، ولكن لإعطائه وجها جديدا ونفسا آخر.
المنوط بالشاعر ليس تقديس القصيدة العمودية بمجرّد انفعالاته خارج الحالة الشعرية، بل لا بدّ عليه أن يظل على سليقته مع الحذر والانتباه لغرض المسايرة والتوازي في درجات التطور وقوّة الحضور، وما الذي يحرجنا إذا قلنا بالتفوّق، فالشعر العربي حضارة عريقة لا يجب الاستهانة بها، المعضلة هي الركون إلى السلبية والبكاء على الأطلال بدون شعر يُذكر، لذلك فالشاعر الذي يكتب بالسّليقة لا تعنيه جدلية أزمة الشعر، لأنه يرى أن القصيدة كائن حيّ يعيش في دمه، يفكّر بطاقتها ويكتب من خام حضورها مجدا للإنسان والحياة، مواكبا التحدّي دون الشعور بأرق ولا بحواجز ولا بمثبطات، شاعرٌ ولو وَجد الحياة تقدّمتْ في صباح غدِه بخمسين سنة أخرى، بل حتى ولو استيقظ فوجد نفسه أحد أصحاب الكهف، ولا هو آبه بهم إن قالوا رابعهم أو خامسهم أو دساهم.. أو آخرهم حينما تعجز ألسنتهم عن العدّ، ما هو متأكد منه أن كلبه لم ينبح، فهو إذن مطمئن على وصيد سليقته الشعرية، وأنّ لا أحد استطاع تجاوزها ليتحّرش بها أو يهدّدها أو يُرعبها، أو ينهب منها شيئا قد يؤثر على تلك القريحة التي لا شأن له في خلقها، شأنه شأن طائر الحسون الذي ألف الأشياء من حوله حتى القط كعدو تقليدي شرس، وبالتعبير الحديث لمربّي العصافير فإن الشاعر الذي نقصده بحضور السّليقة الشعرية، يعرف أن تساقط الريش لا علاقة له إلّا بتحديث الغناء وتطويره، وليس عارضا من عوارض السكوت النهائي، إلا إذا كان بالأساس متقوّلا وغير مدعوم بقوّة نعتبرها لدى شاعر السّليقة فطرية وإلهية، ولا أقول شيطانية لأن الشياطين تغادر الروح بالرقية، كما يفهم كثيرٌ من الشعراء الذين غذّتهم مرحلة الجوع العاطفي في سن معين ثم تخلّت عنهم بمجرّد أن استقرّوا، وكأن الشعر لم يكن بالنسبة إليهم سوى ورقة عبور إلى العيش الآمن.
إذن الشاعر الذي يكتب بالسّليقة لا تخيفه أهوال الحياة، فهو يملك من الأدوات ما يجعله متكيّفا مع ضيق شوارعها وسعتها، ومع أكواخ بنيانها وناطحات سحابها، ومع جميع لواحقها التي تبدو لدى البعض غير مُستوعَبة شعريا، إذن التجريب في نظر النموذج الذي نعنيه غير مُخيف حتى وإن اعتبر المحاولة مغامرة تطل على مجهول ما، أو تقف على منصة للذوبان في هوية شعرية أخرى، فلا شيء يمنعه من أن يدع شعريته تتوغّل في الحياة المعاصرة، والغوص في تجارب الآخرين بألوانها المُبهرة وصخبها الجديد، طالما هو يسيطر على مكنة التقدّم أو التراجع، أو ربما التكيّف مع الحالة فيما هي عليه، كل ذلك ليُمكّن للشعر تواجده في كل زمان ومكان، وبذلك نستطيع أن نٌربك الآخر ونزرع فيه مخاوف الذّوبان في تراثنا، وبالتالي نُرغمه على الكتابة تأثّرا به، بدلا من أن يسبقنا هو إلى هذا الفعل ويثير فينا رعب الضياع، النتيجة أن أزمة الشعر خلقها الشاعر المتقوّل وليس شاعر السّليقة، وليست أيضا وليدة الأشكال التي استحدثها البعض، ولا هي حالة سكوت فرضتها الرواية كما يبرّر تقاعسَهم الشعري كثيرٌ من الشعراء.
المشكلة إذن أن الذهنية العربية يجب أن تخرج من دائرة خوفها على الموروث الثقافي من الدبّابة والطائرة، ومن الفلسفة التي تحوّل القصيدة إلى إشكالية فتُقوّل الشاعر ما لم يقله، لأنها تلهيه عن الموسيقى والصورة والموقف، وكذا الحكي الجميل الذي تتعاطاه الروح الإنسانية بعفوية جامعةً بين العالم والجاهل، وبين الطبيب والبنّاء، والمزارع والاسكافي في احتفالية إنسانية، تاركين ما هو معرفي في الشعر إلى حُجرات التدريس، فالشاعر ليس مضطرا للانتباه حتى يملي عليه الآخر كيف يقول القصيدة، وبأي شكل وفي أي مكان أو زمان، بل عليه أن يُبقي على ذلك التفاعل الكيمو فيزيوشعري في داخله، ويدخل خضم الحياة ببداهة شعرية بعيدا عن العقلية العالمة التي تريد أن تحوّل القصيد إلى ملهاة معرفية، في شكل احتلال جديد لا رصاص ولا قنابل فيه، وحتى يعتلي الشعر منبره العتيد، ويستعيد صهيله الأصيل لا بُد أن يؤمِّن الشاعر على حالته الشعرية ممّا ينزح إليها من ظواهر متوارية خلف نظريات تُفاجئه من حين إلى آخر، عقليات حديدية تشدّه من الخلف لتروع كيان شعريته النبيلة، وتظل ترجّها حتى لم يعد يدري ما الذي يريد قوله أو فعله، نظريات تخفي خلف ظاهرها المعرفي الخارق رداءة جريئة، تريد أن تتدخل كطرف يعمل بالنيابة عن أذن المتلقي رَدْما للشعر العربي مهما كان الثوب الذي خرج به، فتريد إنقاذها من الطواف حول ما تعتبره هُبل الشعر لتدعوها زعما إلى الإيمان بربّه، فتتظاهر بأنها مهمومة بتحريرها، ثم جرّها إلى قول الشعر وسماعه كيفما أرادت بعيدا عمّا تقرّه الدراسات من خصائص وجمالية بضرب من الميوعة.
المطلوب من الشاعر -أمام فانتازيا هذا الفكر ، وأمام ما تدعمه من ترسانة إعلامية بحسن نيّة حينا وبسوئها حينا آخر- أن يقف على سليقة شعريته بنفسه دون الرضوخ إلى وساطة أو أبوّة، فاللغة مطروحة للجميع، والروح الشعرية عِطية من الله، والحياة أمام الجميع تفاعلا وتأثيرا وتأثّرا، فلابد إذن أن يأخذ حقّه من الحياة ولا يبدو متخاذلا متراجعا أمام هذا التناطح الحضاري المنعزل عن الحسّية، لأن هذا الموقف سيحسب في رصيد الجهة الأخرى.
الوطن العربي مليء بالشعر المنبثق من السّليقة الخالصة، وهناك قصائد تحوم في الفضاء الحديث بهذا المحرّك الكيميوفيزيائي الحداثي الذي نعنيه، وذلك بتجليات حوارية بين ما هو موروث ثقافي ذي الصلة بالشعر القديم، وما هو مفهوم ألحّت عليه الحداثة بحكم طغيان فكرة قُروية العالم على الفكر العربي، فانظر كيف يحيي نزار قبّاني روح شعر الحب العذري، بمفردات وصياغات حديث بسليقة تشعر بأنه مصر على تلبيس القصيدة ثوبا مزركشا غير تقليدي، ويحاول أيضا إغراقها بالإيقاع الداخلي، وبهرجتها بالصورة المثيرة المختلفة عن نمطية التصوير القديم، الإصرار الذي دفعته إليه إرادة البوح، بوح كان قد خاف أن لا يسمعه أحد، إذا استعمل فيه أشكال وأصوات ابتذلها الشعر قديما وحديثا، هكذا يجعلك تفكر كيف تطورت وسائل البراح الذي ينادي بين الناس في سوق عكاظ يبحث عن ناقة مفقودة مثلا، فرأى أنه تطلّب الأمر الآن استعمال مكبّر صوت كهربائي، كالذي يستعملونه في المساجد وخلال التظاهرات السياسية والتجمعات المختلفة، وأنه لم يكتفي بكونه شاعر، بل راح يستنفر الأشياء أمامه وخلفه، يردها جميعا أن تحتفل بهذا الحب في بلاغة تطغى على مكبر الصوت نفسه، ثم ينقلب عليها بأنه رغم كل ما قاله فإنه لم يقل لها إني أحبك، بل ترك الأمر للشعر حتى يقوم بالمهمة في ثقة كبيرة به، وهذا بالضبط ما عينياه بشعر السّليقة، فإذا لم يؤدّ الشعر هذه الرسالة فلا يمكن أن يعطي شيئا بحكم ما فقده في روحه:
- أحبّك والبقيّة تأتي
حديثك سجادةٌ فارسيّه..
وعيناك عصفورتان دمشقيّتان..
تطيران بين الجدار وبين الجدار
وقلبي يسافر مثل الحمامة فوق مياه يديك،
ويأخذ قيلولةً تحت ظل السّوار
وإنّي أحبّك
لكن أخاف التّورط فيك،
أخاف التّوحد فيك،
أخاف التّقمص فيك،
فقد علمتني التّجارب أن أتجنب عشق النّساء،
وموج البحار..
أنا لا أناقش حبّك..
فهو نهاري ولست أناقش شمس النّهار
أنا لا أناقش حبّك..
فهو يقرّر في أيّ يوم سيأتي.. وفي أيّ يومٍ سيذهب..
وهو يحدد وقت الحوار، وشكل الحوار..
دعيني أصبّ لك الشّاي،
أنت خرافيّة الحسن هذا الصّباح،
وصوتك نقشٌ جميلٌ على ثوب مرّاكشيه
وعقدك يلعب كالطّفل تحت المرايا..
ويرتشف الماء من شفة المزهريّه
دعيني أصبّ لك الشّاي، هل قلت إنّي أحبّك؟
هل قلت إنّي سعيدٌ لأنّك جئت..
وأنّ حضورك يسعد مثل حضور القصيده
ومثل حضور المراكب، والذّكريات البعيده..
دعيني أترجم بعض كلام المقاعد وهي ترحب فيك..
دعيني، أعبّر عما يدور ببال الفناجين،
وهي تفكّر في شفتيك
وبال الملاعق، والسّكريه..
دعيني أضيفك حرفاً جديدا..
على أحرف الأبجديّه..
دعيني أناقض نفسي قليلاً
وأجمع في الحبّ بين الحضارة والبربريّه.
وهناك تجارب كثيرة لم يستوف النقاد بعد إضاءتها المستحَقّة، أقصد شعراء امتلكوا جرأة وافية في مجابهة مختلف التحرّشات بالقصيدة العمودية. وأعتذر إن تخطّيت في هذا الموجز ما يراه القارئ ضرورة بإدراج تفصيل حول سيميولوجيا تألق شعراء السّليقة، وتفاوتهم تقارب تجاربهم بقصائد الأطلال من حيث الاشتغال على استنطاق الموروث الشعري بلسان معاصر من جهة، ومن جهة ثانية إرغام ما هو حداثي من الشعر على الانصياع إلى الشعر الكلاسيكي بكل الموضوعات المكانية والزمانية، ربما يحتاج ذلك إلى دراسة مطولة.
هكذا وقد لا تملك لغتي قدرة الوقوف -تقنيا- على البرزخ الذي سيّجه شعراء السّليقة بين ما هو حداثي وبين ما هو موروث، فالمهمّة يلزمها ناقدٌ باستطاعته الالتفات - حين الاطلاع على كثير من نماذج من شعراء السّليقة - ذات اليمين وذات الشمال دون أن يتخلّله رعب، فأدغال المعنى في جملة القصائد الحداثة ليست بالسهلة، وما أستطيع قوله أنهم استطاعوا ضغط معلّقات الشعر العربي بكل ضخامتها وثقلها في وامض ضوئي، أو ما يُعرف بال(Flash) في براعة شعرية فائقة، فكأنهم وقفوا على ناطحات سحاب بسالف القول من الشعر، ووقفوا في ذات الحين على الأطلال بما هو حداثي كامن فيه، ولكن بتقنية تُوفّقُ بين الحصان والمترو، وبين جبل أُحد والمصعد الكهربائي، وبين الخيمة وناطحة السحاب، بإيقاع يوفّق أيضا بين رقصة عربية عريقة في جاهليتها، ووثبة حديثة لراقصة البالِي التي لا تحتمل استكمال قراءة معلّقة قفا نبك لامرئ القيس، وبالتعبير التكنولوجي كأنهم انتحلوا وظيفة برنامج ضغط الملفّات، وهذا ما قصدناه بالجرأة وكذا امتلاك أدوات المجابهة، حتى لا يقعد الشاعر أمام المتغيّرات ملوما محسورا، هنا يبرز تفوّق السّليقة في قول الشعر على كُلفة تقوّله.
أمّا بخصوص حداثة التواجد بعيدا عن سوق عكاظ ويثرب، ودون الحاجة إلى رعاة ليتناقلوا شعره إلى أمكنة أبعد، ففي حين انبهر شعراء التقّول فورّثوا الشعر العجز والتراجع في زمن الآلة، فاجأ شعراء السّليقة المتلقي الحديث وحاصروه، بل اقتحموا فراش نومه ومكتبه، وحين سيره في شوارع المدينة وجلوسه في مقاهيها، مثُلوا أمامه مُثولا شعريا رقميا من خلال الأدوات التكنولوجية الحديثة كالهواتف النقالة الذكية، ولم يقفوا حبيسي البحث عن منصات سوق عكاظ، بل خرجوا إليه من خلال مواقع التواصل الاجتماعي.
هكذا روّض شعراء السّليقة بقدرة فائقة اللغة التي يتهمها الكثيرون بالاستعصاء أمام مستجدات الحياة وتطوراتها، ولا أقول أنقذوا الشعر لأن الشعر حيّ لا يموت في قرائح شعراء السّليقة، ولكن أقول بعَثوا فيه روح التواصل مع الحياة، في عملية تشبه سباق التتابع، المُدهش أن شاعر السّليقة على يقين من أنه أمسك عمود الشعر من يد آخر شعراء المعلّقات، ليركض شاعرا بمثل تلك القوّة فيسلمه إلى من ينتظره في نقطة ما من المسافة، إذن بشعراء السّليقة نطمئن على أن الشعر لا يزال سجالا، ولا أحد يمكنه قطع شريط نهاية سباقه نحو الأفضل إلّا الله وذلك بقيام الساعة. وإني لأرى شعراء السّليقة رغم ما تحيط بهم من رداءة وغوغائية مشمّرين على مشاعرهم لمسابقات تالية، في تجارب لاحقة لا يدري أحد كيف يكون نمطها، ولا كيف تكون أنفاسها، ولا على أي إيقاع تضرب أوتارها، وكما لله في خلقه شؤون فإن له في الشعراء شؤون أعظم وأكثر دهشة.. جفّ قلمي.
للبقاء على اطلاع دائم بالأخبار عبر جريدتكم "الجلفة إنفو" الإلكترونية و تلقي الإشعارات، قم بتحميل تطبيق الجلفة انفو


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.