تظل فكرة الجمال هاجسا يؤرق الكاتب والمبدع والفنان، على أساس أن الفنان هو الكائن الأكثر قدرة واستيعابا للجمال ،بل إنه يتعدّى هذا المعنى إلى أنه لا يكتفي بتذوّق الجمال وفهم أسراره الكامنة في هذا الكون ،وفي كل نقطة تقع عليها العين المعنوية الثالثة للفنان تظل فكرة الجمال هاجسا يؤرق الكاتب والمبدع والفنان، على أساس أن الفنان هو الكائن الأكثر قدرة واستيعابا للجمال ،بل إنه يتعدّى هذا المعنى إلى أنه لا يكتفي بتذوّق الجمال وفهم أسراره الكامنة في هذا الكون ،وفي كل نقطة تقع عليها العين المعنوية الثالثة للفنان..بل إن الفنان بقدر ما يستوقفه الجمال المبثوث حوله يجد نفسه صانعا للجمال ،مبتدعا له بصورة من صور الإبداع ،فالفنان بموهبته وبمقدرته الخارقة على تذوّق الجمال وأسراره وعبقريته يساهم في خلْق الجمال ،وفي إضْفاء لمساته الجمالية على لوحات الجمال والإبداع المتناثرة هنا..و..هناك. سواء أكان الفنان مبدعا في الشعر، أم في فنون الإبداع الأخرى فإن الجمال يظلّ حاضرا في فكره، وفي ريشته الأدبية، وفي رنّاته على أوتار العود، وفي كل خفقة من خفقات قلبه !! ذلك ما تناولته آراء المفكرين وأفكار الفلاسفة على مرّ العصور في موضوع الجمال، وتباينت آراؤهم في فهْم أسرار الجمال، ولم يتفقوا على وضْع تعريف محدّد له، وتلك هي ميزة هذا الموضوع الفلسفي القائم على التساؤل والدهشة أكثر من كونه يقدم الأجوبة " الجاهزة" التي لا يتفق بشأنها كلّ دارس، والفئات أكثر الناس قدرة على فهْم أسرار الجمال؛ لأن العمل الفنّيّ الذي ينجزه ينبع أساسا من إحساسه العميق بالجمال !! أقول هذا وأنا في غمرة اطلاعي على فلسفة الفن والجمال من خلال صفحات كتابيْن جديديْن صدرا للأديب الجزائري" بشير خلف" ضمْن إصدارات "الجزائر عاصمة للثقافة العربية" يتناول الكتاب الأول موضوع الجمال باعتباره رؤى أخرى للحياة ، ويتناول الثاني وجود الجمال فينا ..ومن حولنا، وفي كل نقطة تقع عليها أعيننا. ومنذ البداية يحاول الكتابان استدراج القارئ، وكل متذوّق للجمال إلى الانخراط في منظومة الكاتب الفكرية والفلسفية للانفتاح على عبقرية الجمال بكل أبعاده، وبكل اللغات الناطقة به. وهل الفن والجمال إلاّ لغة تسمو على كل اللغات، بل لأنه( الجمال) مصدر كل الوحي والإلهام والعبقرية!! لا شكّ أن امتلاء نفس الكاتب والأديب "بشير خلف" بمعاني الجمال والفن هو الذي أفضى به إلى تبليغ القارئ رؤيته الجمالية للفن والجمال، فجاءت آراء الكاتب لتفصح عمّا تخبّئه روحه الشفافة المرهفة من وجْد وصبابة إزاء كل ما هو جميل وعبقري..ومعبرا بأصدق التعابير من أن الجمال هو كل شيء في هذه الحياة، فهو مبثوثٌ في النص القرآني، ويرمز لبلاغة الإعْجاز فيه، ومبثوثٌ في المتْن الشعري العربي،وفي صفحات المبدعين من الأدباء، وفي جمالية الكلمة ..مشيرا إلى أن الجمال والقبح لا يجتمعان " إثنان لا يجتمعان: القبح والجمال، فإذا ظهر الجمال اختفى القبح،وإذا ظهر القبح اختفى الجمال فهما نقيضان، والنقيضان لا يجتمعان،ولا يلتقيان ،والإنسان من بين المخلوقات جميعا هو الذي لديه المقدرة على معرفة الجميل من القبيح، والتمييز بينهما..." غير أن الكاتب " بشير خلف" ومنذ البداية يريد أن يأخذ بلُباب القارئ إلى فكرته التي مفادها أن مَواطن الجمال لا يمكن حصْرها عند زاوية بعينها أو عند نقطة يمكن تحديدها،بل إن المساحة التي يتواجد بها الجمال لا حدود جغرافية لها، وإن الفنان والمبدع بوجه خاص هو الأقْدر على تجاوز النظرة الضيّقة أو المغلقة التي تغلف بعض المفاهيم إزاء الفن والجمال، ولعلّ هذا ما حدا بالفنان والفيلسوف العبقري "جبران خليل جبران" أن يُمْعن النظر في وضْع فهْم متبلور للجمال من دون الوصول إلى غرضه سوى القول:« منْ يُعْطيني عيْنا ترى الجمال، ويأخذ خزائني ؟ » وفي ذلك اعترافٌ بصعوبة تحديد مفهوم واحد لموضوع الجمال ..ولكن " بشير خلف" يحاول تقريب الصورة إلى القارئ من خلال بعض تلميحاته وإشاراته إلى المَواطن المتنوعة التي ينبثق منها إشعاع الجمال، ويتخذ منها مصدرا له، ومن ذلك يشير الكاتب إلى أن البيئة باعتبارها فضاء الحياة الرّحْب يمكن أن تكون مصدرا هامّا لإحساس الإنسان بالجمال، ومن ثمّ فإن المحافظة على البيئة واجبٌ ومسؤولية مشتركة بين الجميع، وإنه " من الطبيعي جدّا أن يقع الاهتمام بإيقاظ المشاعر والأحاسيس للمواطن، فإنشاء نافورات مائية ملوّنة، ومُضاءة تثير النفوس وتدفعها داخليا نحْو الرقّة الجمالية". بما يُفهم من ذلك أن المؤلف من خلال كتابيه لا يذهب مذهب فلاسفة الفنَ والجمال الذين لا يعنيهم من الجمال المنسكب على أديم الأرض، أو المنتشر في الفضاء أكثر من التغنّي بدلالاته ، والتعبير عن إيحاءاته والتوحّد في معانيه، ولكنه يسعى إلى أن ينزل بالقيم السامية التي يرمز إليها الجمال من السماء إلى الأرض لتكون مصابيح هادية إلى نور الحقّ والمُثُل العليا..وهو الأمر الذي يستدعي من الكاتب الاستعانة بما أُوتي من براهين يقينية لإقناع الناس بأهمية وقيمة هذا الجمال المنبثق من أعماقنا ومن حولنا. ".. من نعم الله على الإنسان أنْ وهبه الله شعورا فيّاضا، ورهافة حسّ تنزع به نحْو الجمال، والسعي إليه، فأصبح الجمال من مكوّنات حياته، حتى أصبح الجمال علما وفنا وصناعة، ودخل في الإبداع الأدبي بكلّ أجناسه وارتبط بجميع أنواع الفنون، وصار الّلمسة الإنسانية الراقية في كلّ مرافق الحياة ومتطلّباتها ." ولأن الكاتب ابن بيئته ونبْتة حيّة من حديقة مجتمعه، فإن وفاءه لثقافة أمته، وانتمائه للقيم الجمالية والأخلاقية والإنسانية لموطنه، تترجمه هذه الخلفية والمرجعية التي تقف وراءه، وهو يبذر أفكاره ويرصّص كلماته، ويرسم رؤاه وأحلامه انطلاقا من التربية النقيّة التي يقف عليها، فنجد الكاتب" بشير خلف" يتخذ من الدين موضوعا للجمال والعبقرية، مبْرزا العديد والكثير من صُور الإبداع والجمال التي تشير إلى قدرة الخالق في صْنْع ما يخطف الأبصار، وما يخلب الألباب والأفئدة من عبقرية التصوير الفني، ومن المشاهد التي يرسمها النصّ القرآني، بل إن الكاتب يُكثر من الاستشهادات في هذا الموضوع من قبل العلماء، وأئمة الفكر الإسلامي من أمثال أبي حامد الغزالي، ويوسف القرضاوي، ومحمد الغزالي، والأحاديث النبوية الشريفة لتعزيز آرائه في موضوع الجمال الفني من أنّ ديننا الحنيف يقوم على قيم الحبّ والفضيلة، والجمال ولا يضيق أبدا أمام كلّ ما هو جميلٌ، وكلّ ما هو أصيلٌ ..فالله جميلٌ يحبّ الجمال!! وتأييدا لما يذهب إليه الكاتب، يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي" « ...يحبّ المؤمن الجمال في كل مظاهر الوجود من حوله، والمؤمن يحبّ الجمال كذلك، لأن الجميل اسمٌ من أسماء الله الحسنى، وصفةٌ من صفاته العلا، وهو يحبّ الجمال أيضا لأنّ ربّه يحبه فهو جميلٌ يحب الجمال، وهذا ما علّمه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه...» كما يستشهد الكاتب بشير خلف بأمثلة كثيرة من آراء وأفكار المفكرين المسلمين في شأن موقف الدين الإسلامي من الفنّ والجمال من ذلك قول الأستاذ " محمد قطب" عن القرآن الكريم:« هذا الكتاب لا يمكن بحالٍ أن يكون معاديا للفن.» كما يستشهد في هذا الموضوع بالدكتور محمد عمارة الذي يقول:« الجمال هو آيات الله التي أبدعها وبثّها في هذا الكون، وأمر الإنسان لأن ينظر في هذا الجمال، وهو امتثالٌ لأمر الله سبحانه وتعالى.» وتتوالى استشهادات المؤلف بالآراء والأفكار والمواقف النابعة من عمق الثقافة الإسلامية والتي عن اطّلاعه الواسع على الصورة التي يبدو لنا الأستاذ" بشير خلف" يجتهد في إقناع كل من يقرأ أفكاره في هذا الموضوع بجدّية طرْحه، وصدقية فكرته مفنّدا الآراء المنغلقة التي تذهب إلى أن الفن أو الجمال يتعارض وروح الدين الإسلامي، وكأنّ الكاتب يوجه دعوة خاصة لاستكشاف الجمال من رؤية جمالية يمثّل فيها الدين الحنيف الوجه المشرق، وأنّ ما يعرضه من آراء وحجج منطقية تدفع القارئ المتأمّل والمتأنّي إلى اعتبار هذا الموضوع يتأسّس من منظور إسلامي، في إشارةٍ إلى أن الدين كموضوعٍ للفن والجمال يستدعي تعميق الفكر، وتذوّق الجمال كما لو أنه يعبّر عن مقدرة الخالق، بل إن الكاتب يرى أن الجمال عنصرٌ من عناصر الإيمان، والقيم الجمالية الفنية تحمل في ثناياها ما يعمّق هذا الإيمان ويقوّيه، ويجعله وسيلة للسعادة، والخير في هذه الحياة. إن الرؤية الجمالية للكاتب رؤية شاملة تتأسس من كون الحياة ذاتها تعتبر منظومة جمالية بكل معاني الجمال، وهذا بالرغم من " عبثية الإنسان وفساده في الأرض، كما تشير إلى ذلك الآية الكريمة:« ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون.»( الروم:41) ويريد الكاتب أن يأخذ بالقارئ إلى تقدير العرب للجمال قبل مجيء الإسلام، ولكنهم كانوا يحصرون هذا الجمال في الأشياء الحسية مثل جمال المرأة، والفرس، والبعير، والأطلال، وعلى المشاعر العاطفية المباشرة من حبٍّ وشوقٍ وحنين ولوعة ولهفة اللقاء، فكانوا ينظمون شعر الغزل، وحينما جاء الإسلام امتدّ اهتمامهم إلى جمال النفس والخلق وجوهر الأشياء. وللتشديد على قوّة الحجّة لا ينفكّ الكاتب في استعراض الشواهد والبراهين الدّالّة على أن الفنّ والجمال نعمة من نِعم الخالق على مخلوقاته لقوله تعالى:« ...ولكم فيها جمالٌ حين تريحون وحين تسرحون .» وفي آية أخرى:« إنّا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوّنهم أيّهم أحْسن عملاً.» ولا يترك المؤلف أحيانا للقارئ فرصة لالتقاط أنفاسه وهو يهيم في سطور ما خطّه في بحثه من أفكار وآراء في موضوعٍ فلسفيٍ ما يزال البحث فيه قائما، وما يزال الجدال بشأنه يُسيل الكثير من الحبر؛ ولعلّ الأديب " بشير خلف " قد أدركه هذا الحسّ العميق نحْو موضوع وفكرة الجمال فأهدانا عصارة أفكاره، ومنحنا ذوب كبده من خلال عمله الدؤوب ليحفّزنا على الاقتراب أكثر من دوْحة الجمال، واكتناه أسرار الجمال الساكن فينا والذي يغمر الحياة من حولنا !! * كاتب وناقد أدبي