يقال أن الأزمة تلد الهمة، فمن الصعب استنهاض الهمم في حالة البحبوحة والفرجة الاقتصادية والسعة المالية وهذا ما عرفته الجزائر في السنوات الأخيرة عندما وصل سعر البترول إلى مستويات قياسية واكبتها مع الأسف مستويات قياسية أخرى في تبديد المال العام ومستويات قياسية في الفساد والنهب و(الشكب). ففي الوقت الذي كان من المتوقع توظيف كل قطرة بترول في دعم (سياسة التنويع الاقتصادي) حتى نرفع الضغط على كاهل النفط نفسه ونحرك به عقولا وأفكارا وتصوّرات وإبداعات في مختلف المجالات تم مع الأسف استثمار هذه البحبوحة في مناورات سياسوية وخلق وهم صحة اقتصادية لإخفاء صحة رئاسية لها وزنها الكبير في تسيير دولة بثقل الجزائر وهيبتها ومكانتها وسمعتها. وبهذا على (الهمة) أن تنتظر قليلا وتتريث حتى تقع الصدمة التي توقظنا من حلمنا الوردي بل بالأحرى حلم بعض الفئات المتنفذة من شهر عسلها الجميل، وماهي سوى أرقام بسيطة تخبرنا بأن بترولنا أصبح لا يساوي سوى دراهم معدودات وأن سوق المضاربة (الصهيوني – العالمي) وأصحابه صاروا في بترولنا من الزاهدين، وأدركنا بأننا نملك ما لا نملك وبأن بترولنا الذي يقبع في عمق صحرائنا ونستخرجه بسواعد أبنائنا بشق الأنفس وبتضحيات لا أدل عليها من حالة عمال الآبار تعكسها وجوههم التي تخضبت بلون البترول الأسود، كل هذا الجهد والعناء لا يجعلنا أفضل من مزارعي الموز والقهوة وغيرهم من الأفارقة المستعبَدين في أراضيهم من طرف كمشة من السماسرة المتوحشين. إن بترولنا في أيادينا كالزئبق الذي يصعب الإمساك به طالما أننا نأكل من لحمنا الحي فهل رأيتم فلاحا يبيع تراب أرضه ويقتات به؟ هذا هو ديدننا منذ أمد بعيد، لقد تحول بترولنا وهو الأمانة الربانية التي استأمننا عليها شهداء نوفمبر، تحول إلى سيارات فخمة تترنح في مطبات طرق مهشمة وبنايات شاهقة تغرق في أوحال وفيضانات ومشاريع بنائية خاوية على عروشها بسبب تسيير كارثي لمسؤولين تم تنصيبهم بكيفيات مشبوهة، وشباب منهمك بمظهره الخارجي لأنه لا يملك القدرة على التفكير السليم ولكنه يملك الوسائل للحصول على أرقى الشهادات في تجارة السمسرة والسوق الموازية للعلم والمعرفة، لقد جعلنا من بنوكنا بسبب (التفكير البترولي) جمعيات خيرية لتوزيع المال العمومي على جموع من المغمورين الذين لا يحسنون حتى عد النقود التي تسلم إليهم بدون عناء وجهد، فقلبنا موازين المنطق والواقع عندما جلسنا ننتظر من هذه الفئات المشلولة ذهنيا وحركيا أن تندفع إلى العمل لجنى الأموال ونحن من أعطاها هذه الأموال دون عناء، فاندفعوا إلى تبديدها دون رقيب أو حسيب وأحسنهم تزوج بها بمباركة رئيس حكومتنا الذي رافع للدفاع عنهم علنا. وبقيت الهمم في انتظار من يستنهضها بالرغم من تعالي أصوات الشرفاء والغيورين الذين كانوا يدقون ناقوس الخطر والبترول في ذروته العالمية، ولكن لا حياة ولا حياء لمن تنادي فالقوم في غيهم يعمهون وبسعر بترولهم فرحون و ب"لوغانهم LOGAN" مستبشرون فقد اكتسبت هذه السيارة (الفرنكو-رومانية) الجنسية الجزائرية من أول عربة خرجت من مصنع ذي التصنيف اليدوي البسيط، ونحن في أحوج ما نكون لأجهزة أخرى نحرك بها عجلة التنمية والفلاحة والصناعة عوض عدد إضافي من العربات التي لم نجن منها سوى الموت والحوادث والمآسي لأن (لوغاننا) لا تحمل من جنسيتها الجزائرية سوى تاريخها المرتبط بالحوادث المميتة على طرقات موروثة من الحقبة الاستعمارية أو الحقبة الصينية الجديدة وذلك في عهد استيرادها من الخارج أما وهي مصنعة في بلادنا ؟؟؟؟؟ . لقد فشلت السيارة (الجزائرية) إذن في تحريك هممنا ورفع معنوياتنا الاقتصادية والصناعية نظرا للإقبال المتواضع عليها ولن ينقذ تسويقها سوى الإغراءات الحكومية في فتح سياسة القروض والبيع بالتقسيط التي لن تزيد سوى في إنهاك الاقتصاد الوطني . كما أن الغالبية أصبحت تفكر في التخلص من السيارة نتيجة صعوبة التنقل داخل المدن وخارجها واكتظاظ الطرق بها وما ترتب عن ذلك من إجرام مروري خارج المدن وبلطجية مرورية داخلها. والحمد لله على وصول (الصدمة البترولية) الجديدة التي لمسنا بعدها تحركا حثيثا لأصحاب القرار الذين هربوا بملفاتهم إلى ولاية داخلية (بسكرة) ليعقدوا ملتقى (ترويكيا) جمع عناصره الثلاثية ونزلوا بين أحضان عاصمة التمور بعيدا عن عاصمة البترول وكأنهم في بحث عن حكمة أهل الصحراء وتواضعهم ليقفوا على تجارب استثمارية رائعة تراهن على الإنسان في علاقته مع الأرض والماء والسماد الطبيعي المستخرج من جوف الإبل والأبقار والغنم يفوح منه عبق الطبيعة البكر وتنبعث منه أصوات الأمل في رحمة الله وكرمه. فقد أحس الجميع بأن الوقوف على أرض بسكرة هو الوقوف على أرض صلبة تختلف عن تلك الأرض الرملية المتحركة التي يقبع تحتها النفط الذي تتحكم في سعره بنوك (وول ستريت) قبل أن يخرج من جوفها. وأدركوا إن الاستثمار الحقيقي ليس هو المراهنة على مصدر واحد ووحيد زائل غير دائم بل هو المراهنة على معادلة دائمة وهي العلاقة البسيطة بين الإنسان وأرضه فيما ينتجه من عمل يده ويبدعه من مهارات عقله ويستمده من عزيمة إرادته في أرض حباها الله بأنعمه وتكرم عليها بخيراته وسقاها من دماء شهدائه وصدى زغاريد النصر في أيام مباركة لن ننساها على مر العصور والتاريخ ، إنها الجزائر يا كرام إنها الجزائر ، تركة لالالة فاطمة نسومر وميثاق عبد القادر ونصيحة ابن باديس ووصية بومدين ، وهي الآن أمانة في يد بوتفليقة ورجاله.