الغديوي: الجزائر ما تزال معقلا للثوار    مولودية وهران تسقط في فخ التعادل    مولوجي ترافق الفرق المختصة    قرعة استثنائية للحج    جبهة المستقبل تحذّر من تكالب متزايد ومتواصل:"أبواق التاريخ الأليم لفرنسا يحاولون المساس بتاريخ وحاضر الجزائر"    الجزائر تحتضن الدورة الأولى ليوم الريف : جمهورية الريف تحوز الشرعية والمشروعية لاستعادة ما سلب منها    المحترف للتزييف وقع في شر أعماله : مسرحية فرنسية شريرة… وصنصال دمية مناسبة    تلمسان: تتويج فنانين من الجزائر وباكستان في المسابقة الدولية للمنمنمات وفن الزخرفة    مذكرات اعتقال مسؤولين صهاينة: هيومن رايتس ووتش تدعو المجتمع الدولي إلى دعم المحكمة الجنائية الدولية    المديرية العامة للاتصال برئاسة الجمهورية تعزي عائلة الفقيد    قرار الجنائية الدولية سيعزل نتنياهو وغالانت دوليا    المديرية العامة للاتصال برئاسة الجمهورية تعزي في وفاة الصحفي محمد إسماعين    التعبئة الوطنية لمواجهة أبواق التاريخ الأليم لفرنسا    الجزائر محطة مهمة في كفاح ياسر عرفات من أجل فلسطين    الجزائر مستهدفة نتيجة مواقفها الثابتة    مخطط التسيير المندمج للمناطق الساحلية بسكيكدة    حجز 4 كلغ من الكيف المعالج بزرالدة    45 مليار لتجسيد 35 مشروعا تنمويا خلال 2025    47 قتيلا و246 جريح خلال أسبوع    دورة للتأهيل الجامعي بداية من 3 ديسمبر المقبل    تعزيز روح المبادرة لدى الشباب لتجسيد مشاريع استثمارية    نيوكاستل الإنجليزي يصر على ضم إبراهيم مازة    السباعي الجزائري في المنعرج الأخير من التدريبات    سيدات الجزائر ضمن مجموعة صعبة رفقة تونس    البطولة العربية للكانوي كاياك والباراكانوي: ابراهيم قندوز يمنح الجزائر الميدالية الذهبية التاسعة    4 أفلام جزائرية في الدورة 35    "السريالي المعتوه".. محاولة لتقفي العالم من منظور خرق    ملتقى "سردية الشعر الجزائري المعاصر من الحس الجمالي إلى الحس الصوفي"    الشروع في أشغال الحفر ومخطط مروري لتحويل السير    حادث مرور خطير بأولاد عاشور    السلطات تتحرّك لزيادة الصّادرات    بورصة الجزائر : إطلاق بوابة الكترونية ونافذة للسوق المالي في الجزائر    إلغاء رحلتين نحو باريس    البُنّ متوفر بكمّيات كافية.. وبالسعر المسقّف    وزارة الداخلية: إطلاق حملة وطنية تحسيسية لمرافقة عملية تثبيت كواشف أحادي أكسيد الكربون    مجلس حقوق الإنسان يُثمّن التزام الجزائر    مشاريع تنموية لفائدة دائرتي الشهبونية وعين بوسيف    اللواء فضيل قائداً للناحية الثالثة    المحكمة الدستورية تقول كلمتها..    المغرب: لوبي الفساد يتجه نحو تسييج المجتمع بالخوف ويسعى لفرض الامر الواقع    الأمين العام لوزارة الفلاحة : التمور الجزائرية تصدر نحو أزيد من 90 بلدا عبر القارات    دعوى قضائية ضد كمال داود    تيسمسيلت..اختتام فعاليات الطبعة الثالثة للمنتدى الوطني للريشة الذهبي    الخضر مُطالبون بالفوز على تونس    الشباب يهزم المولودية    سباق الأبطال البليدة-الشريعة: مشاركة أكثر من 600 متسابق من 27 ولاية ومن دول اجنبية    وزيرة التضامن ترافق الفرق المختصة في البحث والتكفل بالأشخاص دون مأوى    النعامة: ملتقى حول "دور المؤسسات ذات الاختصاص في النهوض باللغة العربية"    العدوان الصهيوني: الأوضاع الإنسانية في غزة تزداد سوء والكارثة تجاوزت التوقعات    الذكرى 70 لاندلاع الثورة: تقديم العرض الأولي لمسرحية "تهاقرت .. ملحمة الرمال" بالجزائر العاصمة    سايحي يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    التأكيد على ضرورة تحسين الخدمات الصحية بالجنوب    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفتوى ومنهجها عند الشيخ الإمام عطية مسعودي ( 1900 1989م)
الجزء الثاني و الأخير
نشر في الجلفة إنفو يوم 10 - 05 - 2016


سي عطية مسعودي
أنواع الفتوى عند الشيخ عطية مسعودي:
لقد عرف الشيخ رحمة الله عليه بنشاطه التعليمي و توجيهه التربوي، وتحمله لعبء إشكالات مجتمعه من إصلاح ذات البين و قيامه بمهمة الفتوى، حيث أسندت له قيادة جيش التحرير بالمنطقة مسؤولية الإفتاء والقضاء بين الناس أثناء الثورة التحريرية المباركة، واستمر في القضاء إلى غاية استقلال الجزائر في 05 جويلية 1962 ليكتفي بعده بالإمامة و الفتوى، و قد تميّزت الفتوى عند الشيخ بثلاثة أنواع: عامة و خاصة، وفتوي عبر المراسلة.
1 الفتوى العامة:
ويقصد بها ما كان يفتي به في مجالسه العلمية مع الطلبة، و في حلق الدرس في المسجد مع عامة الناس و في مختلف المناسبات التي كان يلتقى فيها الشيخ مع عامة المجتمع، حيث كان يجيب سائليه عما استعصي لهم فهمه من أمور الدين، وما حلّ بهم من نوازل ووقائع استدعت أخذ رأي الفقهاء، وميزة هذه الفتاوى أنها تتسم بالعموم أنها تهم غالب المجتمع.
2 الفتوى الخاصة:
ويقصد بها هنا تلك الفتاوى التي جاءت بناء على النوازل و المسائل التي تحل بأفراد المجتمع أو أسره، فيأتيه أهلها فرادى للاستفسار عن الحكم الشرعي ورأي الدين فيها، و عادة ما تكون هذه الفتاوي في بيته حيث كان مقصدا لذوي السؤال، وميزة هذه الفتاوى أنها تتميز بالخصوصية باعتبار أنها تخص فرد أو أسرة دون عموم المجتمع.
3 الفتوى بالمراسلة :
وهو نوع أملته ظروف الواقع، وكان يتم عادة إما بين الشيخ وطلبته الذين درسوا عنده حيث كانوا يراسلونه من أجل أن يفتيهم في مسائل قد تستجد عندهم أو مواضيع استعصت عليهم، ومن هؤلاء نجد تلميذه "عيسى درماش" من عين وسارة و "محمد الزاوي" من المدية، وإما بينه وبين قرنائه من المشايخ ولذات الغرض كانت تتم بينه وبينهم مراسلات حول المسائل الفقهية ومن هؤلاء الشيخ "لخضر بن خليف" من (فيض البطمة)، و الشيخ الطاهر بلعبيدي من ( تقرت) والذي كان يفضل القبض في الصلاة، ودليله أن الإمام مالك أورد في الموطأ حديثا لرسول الله عليه الصلاة و السلام جاء فيه : " إِنَّا مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا بِثَلاثٍ : بِتَعْجِيلِ الْفِطْرِ ، وَتَأْخِيرِ السَّحُورِ ، وَوَضْعِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الصَّلاةِ"، لذلك جرى بينه و بين الشيخ نقاش حول هذه المسألة، ومعروف أن الشيخ كان من الذين يفضّلون السدل وأنه كان يعتمد على مذهب الإمام مالك في هذه المسألة على الفعل لأن الإمام مالك كان يسدل رغم ذكره للحديث، و أنه اعتد بفعل الفقهاء السبعة ودليل الإمام مالك هو فعل الصحابة لأن الفعل أبلغ من القول رغم عدم نكرانه للقبض لأن كلاهما ورد عن رسول الله عليه الصلاة و السلام، ولمّا تحصل الشيخ الطاهر بلعبيدي على كتاب لأحد علماء شنقيط الذي كان مفتيا للمالكية بالمدينة بالمنورة عنوانه ( القول الفصل في تأييد مذهب أهل السدل) وكتب له فيه " سأعطيك سلاحا تحاربني به".
منهجه في الفتوى :
لقد تميزت فتاوى الشيخ "عطية مسعودي" بمعالجة القضايا والمشكلات التي كانت تحدث للناس، ويحتاجون إلى حكم الشرع فيها بما يتماشى مع روح العصر، كما لم تكن فتاواه مجرد جواب عابر عن سؤال طارئ بل كانت فيها رسائل التثقيف و التوعية و التوجيه.
وقد عرف الشيخ بأجوبته المقنعة التي تقارع الحجة بالحجة، و الدليل بالدليل، ولم يكن مجرد ناقلا لفتوى غيره ومؤديا لما تلقاه، وإنما كان لبيب عارف، يسهم بما ناله من علم وما اكتسبه من رجاحة عقل في اجتهاده في استخراج الأدلة الشرعية من أجل مقارعة نوازل العصر، ورغم أن فتاواه كانت تراعي بالمجمل المذهب المالكي باعتباره قاعدة تكوينه الفقهي ومرتكزه في الفتوى، إلاّ أن ذلك لم يحده في بعض الأحيان لأن يخرج في فتاويه عن مذهبه إذا اقتضت الضرورة و المصلحة.
وينبغي أن ندرك بأن الفتوى عند الشيخ عطية مسعودي -مثلما أشرنا- لم تكن مجرد أجوبة عابرة بل كانت مؤسسة على مرتكزات أساسية بني عليها الفقه برمته، وهي ما تعارف عليها بأصول الفقه، والتي عرفها الفقهاء بأنها تلك المصادر التي يستنبط منها الأحكام، وهي القرآن و السنة و الإجماع و القياس و الاستحسان و المصالح المرسلة و العمل بأهل المدينة و الأخذ بأقوال الصحابة، كل هذه المصادر كانت مدار رحى الفتوى عند الشيخ عطية مسعودي، بمعنى أن فتاويه كانت مبنية على منهج متدرج تتحكم فيه مصادر التشريع الإسلامي درجة درجة، حيث كان أول منطلقه في الفتوى القرآن الكريم، ومن نماذج ذلك :
1 سُئل عن المحرمات من النساء فأجاب بأن المحرم ثلاثة أقسام محرم بالنسب ومحرم بالرضاع ومحرم بالمصاهرة، وقد ذكرت في قوله تعالى : " وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ " إلى قوله تعالى : " وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ"
2 وسئل عن زوجة مرضت فهل يلزم الدواء زوجها أم لا ؟ فأجاب بأن دواء الزوجة المريضة لا يلزم الزوج وإنما يكون من مالها إن كان لها مال، اللهم الاّ أن يتطوع الزوج أو أحد الأقارب فهو من الإحسان الذي حث عليه القرآن بقوله : " وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ " ، وقوله : " وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"
3 وسئل عن رجل طلّق زوجته ثلاث طلقات متفرقات فهل له إلى ردّ زوجته من سبيل ؟ فأجاب : إذا طلّق الرجل زوجته مرة فله أن يردها ، فإذا طلقها الثانية فله أيضا أن يردها ويرجعها، فإذا طلّقها الثالثة فلا يحل له مراجعتها بحال من الأحوال، و الأصل في ذلك قوله تعالى : "الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ " ثم قال : " فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ".
4 وسأل ذات مرة : ما قولكم يا شيخ في تحديد النسل ؟ فقال : أنا ليس لي قول، إنه قول هذا الكتاب وكان يحمل نسخة من القرآن الكريم، لقد قال في صريح الآية " يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ ، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ"، هذه مشيئة الله وغير هذا هو تحد لهذه المشيئة، فاختاروا لأنفسكم ما يحلو ...
وكان إذا لم يجد دليلا من كتاب الله بحث عنه في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن نماذج ذلك:
1 حينما سئل : هل تنفي المعصية الإيمان عن صاحبها حال تلبسه بها ؟ وما معنى قوله عليه الصلاة والسلام : " لا يزني الزاني وهو مؤمن ..." ، فأجاب : قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يزني الزاني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" حمله شارح الحديث على أنه لنفي الكمال أي لا يزني وهو كامل الإيمان، نحو لا علم إلاّ بما نفع أو نفي نوره، وقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من زنى نزع الله نور الإيمان من قلبه فإن شاء ردّه إليه رده".
2 وسئل عن النصب التذكارية الموضوعة عند القبور هل لها أصل في الشرع ؟ فأجاب:
لعلّ الأصل في ذلك هو ما فعله النبي عليه الصلاة و السلام من وضعه على قبر عثمان بن مظعون رضي الله عنه حجرا ، قائلا : أعلّم به قبر أخي و أدفن إليه من مات من أهلي، فبناء على ذلك أجيز وضع حجر أو خشب عند رأس الميت، و أما وضع حجرين للذكر وثلاثة للأنثى فإنما هو للفرق بين الشخصين.
3 وسئل عن مقطوعة الرأس بنحو عصا هل تؤكل أم هي ميتة ؟ فقال : مقطوعة الرأس بنحو عصا وقيذة ميتة لما في صحيح مسلم عن عدي بن حاتم قال : سألت رسول النبي عليه الصلاة و السلام على صيد المعراض فقال : " مَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْهُ ، وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَهُوَ وَقِيذٌ".
وكان إذا لم يجد الدليل في كتاب الله وسنة رسوله بحث عنه في مصادر الاستنباط الأخرى من أصول الفقه فكان إما يدلل بقول الصحابة، أو إجماع العلماء .
وما يلفت الانتباه أن الشيخ لم يكن أسير المذهب المالكي فقط في فتاويه، فكان في بعض الأحيان ورفعا للحرج و إيجادا للرخص بقصد التيسير على الناس يُفتي بما جاء في المذاهب الأخرى ومن ذلك مسألة ( تحليل المبتوتة) والقصد هنا المرأة المطلقة ثلاث في عبارة واحدة، ورغم أن الشيخ كان متشددا في هذه المسألة، إلاّ أنه تيسيرا لرجل استفتاه وله أولاد، فرخص له انطلاقا من فتوى ابن تيمية في المسألة والتي يجيز فيها إرجاع المطلقة ثلاث في عبارة واحدة.
كما أفتى بما ذهب إليه الشافعية في مسألة ( ذكر الله جهرا ) فأجاب بقول الإمام السيوطي حينما قال بعد ما أورد الأحاديث الدالة على استحباب الجهر بالذكر : إذا تأملت ما أوردنا من الأحاديث عرفت من مجموعها أنه لا كراهة البتة في الجهر بالذكر بل فيه ما يدل على استحبابه إما صريحا أو التزاما.
ومن جماليات ملكات الشيخ، نباهة العقل وسلامة المنطق، وهو ما جعله يتميز في الكثير من الفتاوى بصياغة الحجج و الأدلة انطلاقا من استخدام العقل وحسن توظيف وسائل العصر ونتائج علومه ومن نماذج ذلك:
1 أنه سئل عن بلوغ الصدقة للميت فقال الشيخ للسائل : لو أننا أعطيناك رسالة لتضعها في البريد فهل تفعل ؟ فأجابه سأفعل ذلك ، فقال له الشيخ : أنت متأكد من أنك لن تهمله في أثناء الطريق ، فقال له بالتأكيد ؟ ، فقال له على الفور: عندما نحمّل الله صدقة ليبلغها لفلان فهل نشك في أنه لا يفعل، فكذلك الصدقة للأموات ، فقد جاء رجلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم و قال له يا رسول الله أبويّا ماتا و أنا صغير فهل لي أن أبرهما ، فقال له عليه الصلاة و السلام : " زر قبرهما وتصدق عليهما تكتب بارا عند الله".
2 وفي موقف آخر لمّا سئل لماذا لم يُقيّض لنا الله خليفة مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه تعالى في عدله وإخلاصه وتقواه، فقال الشيخ: نحن لسنا الصحابة، ولهذا فالذي يحكمنا ليس عمر بن الخطاب .
3 - وفي أحد الأيام جاءه أحد المهندسين الكهربائيين وقال له وهو في غاية الاستغراب كيف يمكن لملك الموت أن يقبض أرواحا متعددة في أماكن متفرقة متباعدة في لحظة واحدة؟ فأجابه الشيخ في الحال: عندما يريد العامل في مركز توزيع الكهرباء أن يطفئ النور على عدة مناطق من المدينة وفي لحظة واحدة هل يستطيع ذلك؟ فقال المهندس : باستطاعته أن يفعل ذلك، فقال الشيخ رحمه الله ، لم تستغرب فعل المخلوق، فكيف تستغرب من الخالق تعالت قدرته، أن يأمر بقبض الأرواح في شتى أنحاء العالم، فاقتنع الرجل بمثل هذا المثال الحي.
4- وقال له أحد المسؤولين : لماذا نرسل إليك ولا تأتينا؟ فقال له الشيخ على الفور، لقد رأيت من هو أعظم مني ومنكم يرسل إليكم خمس مرات في اليوم ولا تأتونه، فلماذا تطلبون مني الإتيان إليكم؟ أتريدني أن أكون من شرار العلماء ؟ حيث قال الحسن البصري رضي الله عنه ، شرار العلماء الواقفون عند باب الأمراء، وخيار الأمراء الواقفون بباب العلماء.
5- وسئّل عن الربا هل هو حرام ؟ فقال لسائله بغضب وانفعال، تضعون الجمر في أيديكم وتسألونني إن كان يحرق أم لا ؟ إنكم تسخرون مني بطرح هذا السؤال.
6- وبعد الاستقلال جاءه ثلاثة رهبان مسيحيين وطلبوا منه أن يتحاوروا في أمور الدين، فلم يعارض المرحوم وإنما قال لهم : آمنا بما أنزل إلينا وما أنزل إليكم ، فقال أحدهم هل يعارض الله تعالى ما قاله بالأمس بما قاله اليوم ؟ فقال الشيخ : كلام الله صادق لا يتعارض ولا يتناقض وإنما قوله الحق المبين، فقال أحد الرهبان : ولكن مادام قد بعث عيسى عليه السلام ، فلماذا يبعث بعده بغيره ؟ فرد الشيخ ببداهته المعهودة : من هو رئيس الدائرة الحالي ؟ فقالوا له اسمه فلان فقال لهم من هو رئيس الدائرة السابق فذكروا له اسمه فقال لهم : إذا أرسل لنا كل من الرئيس السابق والحالي فلأمر أيهما نستجيب ؟ فقالوا: لرئيس الدائرة الحالي، فقال هكذا تكونون قد أجبتم أنفسكم ، ففهموا مقصده واستأذنوا بالانصراف.
7 وفي حادثة أخرى، اعترض أحدهم في أن يكون الموتى يحسّون بنا ولا نحسّ بهم، فقال له الشيخ لقد أعطاكم الله مثالا من الواقع ومن صنع الإنسان ، فالتلفزيون نحن كلنا في بيوتنا نشاهد المذيع ولكنه لا يشاهد أحدا منا.
وينبغي الإشارة بأن الشيخ لم يعتلى منبر الفتوى لحب ظهور أو لطلب جاه، أو ليقال أنه عالم فيشار إليه بالبنان، ولكن كان منطلقه في كل ذلك هو واجبه الشرعي الذي سيسأله الله عنه إذا لم يؤدي حقه مصداقا لقوله تعالى : "إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ" سورة البقرة الآية (158).
وقد بين ذلك في كتابه لأحد قضاة المحكمة، حينما حذّره من الإفتاء لأنه في نظره يسبب للمحكمة ارتباكا في أعمالها ، فأجابه بما نصّه :
(الحمد لله وحده و الصلاة و السلام على رسول الله وآله وبعد : سلام الاحترام و التحية و التعظيم و الإكرام لجناب الأستاذ قاضي المحكمة و أعوانه وفّقهم الله وسدد خطاهم وأجزى على النهج القويم مسعاهم، فإنكم تعلمون ما ابتلاني الله به من معرفة مسائل الدين وواجب عليّا تبيينها للناس بمقتضى قوله سبحانه وتعالى : " وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ" سورة آل عمران الآية(187) وأوعد من كتم علما بقوله : "إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ" سورة البقرة الآية (158). وقول النبي صلى الله عليه وسلم:" مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ ، أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ" فخوفا من هذا الوعيد كنت أجيب السائلين بما أعلمه مع شدة التحري في أن لا أخرج عن حدود المفتي الذي هو الإخبار بالحكم الشرعي من غير إلزام، و أخيرا بلغنا أنكم مستاءون من إفتائي للناس فإن كان لضنكم أني متدخل في ما ليس من وظيفة المفتي مما يختص بالمحكمة فهو ضن غير مصيب، بل كثيرا ما كنت أحيل مسائل النزاع على المحكمة بشهادة كثير ممن يستفتونني واسألوهم إن شئتم يا إخواني. أنا أشفق على نفسي من أن أدخل فيما يغضب ربي ، أو يوجب عليّ لوما، ولست و الحمد لله ممن لا يعرف قدره أو يتعدى طوره، ومع ذلك فلو صدر إلي ّ منكم أمر بالمنع من الإفتاء لتلقيت ذلك الأمر بصدر رحب، و أرحت نفسي لأني كما قيل : " مكره أخاك لا بطل " والسلام).
كما ينبغي أن ندرك بأن إطّلاعه الواسع وفهمه الملفت للمسائل الفقهية وتنوّع مصادر معرفته بالعلوم الإسلامية مكّنته من أن يتبوأ مكانة مرموقة بين أقرنائه من المشايخ، وسمحت له في النهاية بأن يعالج قضايا الناس ومشاكلهم بروح المتمرّس المجتهد الذي يعرف متى تؤتى عزائم الله ومتى تؤتى رخصه، وهو لا يفعل ذلك محاباة لصاحب سطوة أو تقربا لذوي سلطة وجاه، ولكنه يفعل ذلك عملا بقول رسولنا صلى الله عليه وسلم : "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ".
من كل ما سبق، يتبين لنا بأن شيخ الجلفة الإمام "عطية مسعودي" الذي قال في حقه الشيخ محمد متولي الشعراوي عليه رحمة الله ، لما سمعه عن الشيخ من اتساع علمه و بداهة عقله في الفتوى : ( ليتني كنت فيها جذعا)، واستشهد بمسائله الشيخ محمد الغزالي عليه رحمة الله ، في محاضراته بالجامعة الإسلامية ( الأمير عبد القادر بقسنطينة ). قلت كان الشيخ الإمام (عطية مسعودي) عليه رحمة الله يدرك معنى الفتوى و أنها تكليف وليست تشريف، وهي عند الله عظيمة في الجزاء و العقاب، لذلك كان يتحرى فيها مراقبة الله له و أمانة الخلق فيه، لذلك نهج فيها منهجا وسطا فهو لم يذهب مذهب التشديد الخالص الذي يدعو إلى تجميد كل شيء في الحياة والتقوقع على ظاهر النص، ولا مذهب التخفيف المطلق المؤدي إلى الانحلال و التميّع وتفسير الحقائق حسب الهوى ومراد النفس، فقد كان معتدلا يعتمد على الكتاب و السنة دون أن يغفل عن روح التشريع ومراعاة المصالح و المفاسد كأصل من أصول مذهب الإمام مالك، و التي من بينها درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وكذا مبدأ التيسير ورفع الحرج و المشقة باعتماده على الأدلة العقلية كالقياس و المصلحة المرسلة و الاستحسان و سد الذرائع مع مراعاة ظروف العصر.
الجزء الأول: الفتوى ومنهجها عند الشيخ الإمام عطية مسعودي ( 1900 1989م)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.