** الكل يتحدث عن الوسطية، فهل يمكن أن تكون هناك معايير يمكن تطبيقها حتى يصل المفتي إلى ما يمكن أن نطلق عليه وسطية الفتوى؟ أو كيف تكون الفتوى وسطية بين التساهل والتشدد؟ * بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبعد يقول الشيخ عبد الله بن بيه عضو المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث: الوسطية في الفتوى تعني المقارنة بين الكليّ والجزئيّ والموازنة بين المقاصد والفروع والربط بين النصوص وبين معتبرات المصالح في الفتاوى والآراء فلا شطط ولا وكَس· وهي ناموس الأكوان وقانون الأحكام تتعامل مع الوقائع من خلال النصوص والواقع مما سماه بعض العلماء فقه الموازنات وهو في حقيقته توازن بين الثوابت والمتغيرات· وتقوم وسطية الفتوى على أربع ركائز: الأولى: قاعدة تغير الفتوى بتغير الزمان وكان عمر رضي الله عنه ممن له نصيب في تأصيل هذه القاعدة، فمن ذلك أنه لم يعطِ المؤلفة قلوبهم مع ورود ذلك في القرآن ورأى أن عز الإسلام موجب لحرمانهم· وكذلك إلغاؤه للنفي في حد الزاني البكر خوفاً من فتنة المحدود والتحاقه بدار الكفر لأن إيمان الناس يضعف مع الزمن· ومن ذلك أمر عثمان بالتقاط ضالة الإبل، مع ورود النهي عن هذا الفعل، وذلك لما رأى من فساد الأخلاق وخراب الذمم وورث تماضر الأسدية لمّا طلقها عبد الرحمن في مرض موته· وأمير المؤمنين علي رضي الله عنه يضمن الصناع بعد أن كانت يد الصانع أمانة قائلا: لا يصلح الناس إلا ذاك· وقد وردت هذه القاعدة في مجلة الأحكام العدلية بعنوان: (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان)· غير أن هذه القاعدة ليست على إطلاقها، فالمأموريات والمنهيات المعلومة من الدين بالضرورة لا تخضع لقاعدة التغير بسبب الزمان· فالذي يتغير هو الأحكام الاجتهادية وأما القطعيات من الأحكام فلا تتغير فلا يمكن أن تتغير المواريث بدعوى أن المرأة أصبح لها شأن ولا يمكن أن يتغير تحريم ربا النسيئة في بلاد الإسلام ولا تحريم أكل الميتة والخنزير· وتغير الفتوى لا يكون إلا لترجح مصلحة شرعية لم تكن راجحة في وقت من الأوقات أو لدرء مفسدة حادثة لم تكن قائمة في زمن من الأزمنة· والأمثلة في المذاهب كثيرة، منها ما نقله ابن عابدين في حاشيته من أن المتقدمين من فقهاء المذهب يرون بطلان الإجارة على الطاعات، ولكن جاء المتأخرون، وصححوها على تعليم القرآن، ثم جاء من بعدهم وصححوها على الأذان والإمامة، وذلك للضرورة، والحفاظ على تعليم القرآن وإقامة الشعائر· وفي مذهب الأحناف أيضا أن المرأة إذا قبضت معجل المهر، فعليها اتباع زوجها حيث شاء، ثم جاء المتأخرون وأفتوا بخلاف ذلك، ورأوا بأن المرأة لا تُجبر على السفر مع زوجها إلى مكان إذا لم يكن وطناً لها وذلك لفساد الزمان والأخلاق· ثانياً: قاعدة العرف وهذا أصل هام من أصول الفتوى، نطق به العلماء، حيث قال ابن عابدين: ليس للمفتي ولا للقاضي أن يحكما بظاهر الرواية ويتركا العرف، والله أعلم· وقال الإمام القرافي في حديثه عن العرف (وعلى هذا القانون تُراعى الفتاوى على طول الأيام فمهما تجدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده وأجره عليه وأفته به دون بلدك والمقرر في كتبك فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبداً ضلالٌ في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين، وعلى هذه القاعدة تتخرج إيمان الطلاق والعتاق وصيغ الصرائح والكنايات، فقد يصير الصريح كناية يفتقر إلى النية، وقد تصير الكناية صريحاً مستغنية عن النيّة)· ثالثاً: قاعدة النظر في المآلات ومما يصب في جداول المصلحة ويسير في دربها قاعدة النظر في المآلات في الأقوال والأفعال وقد نص الشاطبي على أن المفتي عليه أن ينظر في مآل فتواه· وقد فصل الإمام الشاطبي في هذا الأمر، ورأى أن المفتي عليه أن يتمهل وأن ينظر ما يؤول الأمر في فتواه، فقد يكون هناك شيء مشروع لجلب منفعة، أو لدرء مفسدة، ولكن له مآلاً على خلاف ما قصد، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ولكن له مآلاً على خلاف ذلك· وتأصيل ذلك قوله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم)، وقوله صلى الله عليه وسلم (لولا قومك حديثو عهد بكفر لأسَّست البيت على قواعد إبراهيم) وقوله في تعليل انصرافه عن قتل المنافقين: (دعه، لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، أخاف أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه) البخاري· والصحابة رضوان الله عليهم كانوا يفهمون مقصد الشارع، ويتصرفون وفقا لهذا الفهم، فهذا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يترك تغريب الزاني البكر مع وروده في الحديث حيث قضى عليه الصلاة والسلام بجلده مائة وتغريب سنة وذلك لما شاهد من كون التغريب قد يؤدي إلى مفسدة أكبر وهي اللحاق بأرض العدو وقال لا أغرب مسلماً· وقال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: كفى بالنفي فتنة· وأيضا فإن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لمّا تولى الملك أجَّل تطبيق بعض أحكام الشريعة فلمّا استعجله ابنُه في ذلك أجابه بقوله: أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعونه جملة ويكون من ذا فتنة· وهذا الإمام ابن تيمية رحمه الله حين رأى صاحباً له يكلِّمه عن التتار يشربون الخمر، وأنه واجب عليه أن ينهاهم لأنهم مسلمون، فقال له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصدُّ عن ذكر الله وعن الصلاة وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذّرية وأخذ الأموال فدعهم· وقد قال الشاطبي أنه ينبغي على المجتهد النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه بحسب وقت دون وقت وحال دون حال وشخص دون شخص إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزّان واحد، فهو يحمل كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها بناءً على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف· وسدُّ ذرائع الحرج والمشقة وقد يسميه البعض بفتح الذرائع لأنه ترك لبعض فضائل الأعمال خوفاً من إعْنات المكلفين كما ترك عليه الصلاة والسلام تأخير صلاة العشاء قائلا: هذا وقتها لولا أن أشق على أمتي)، وترك الأمر بالسواك عند كل صلاة، وترك بناء البيت على قواعد إبراهيم، وترك قتل أهل النفاق، خشية على صورة الإسلام· وعلى هذا ينبني كثيرٌ من قرارات المجلس الأوربي حيث يُمنع أئمة المساجد من عقد النكاح قبل أن يعقد عقداً مدنياً أمام السلطة لأن من شأن تلك العقود وإن كانت مستوفية الشروط أن تؤول إلى خصومات وربما حرمان المرأة من حقوقها وحرمان الأولاد من نسبهم لعدم توثيق العقد وهذا من باب النظر في المآلات· وليس في هذا تساهل، وبهذا نقرر أن التسهيل غير التساهل فالتسهيل مطلوب ومرغوب لإنْبنائه على قاعدة التيسير أما التساهل فمبني على الهوى· رابعاً: قاعدة تحقيق المناط في الأشخاص والأنواع وتحقيقُ المناط في الأنواع واتفاقُ الناس عليه في الجملة مما يشهد له كثير من الأدلة، من ذلك: ما ورد عن ابن سيرين؛ قال: كان أبو بكر يُخافِت، وكان عمرُ يَجهر -يعني في الصلاة- فقيل لأبي بكر: كيف تفعل؟ قال: أناجي ربِّي وأتضرع إليه، وقيل لعمر: كيف تفعل؟ قال: أوقِظُ الوَسْنانَ، وأُخثأُ الشَّيطان، وأُرضي الرحمن· فقيل لأبي بكر: ارفعْ شيئاً، وقيل لعمر: اخْفِض شيئاً· وفي (الصحيح): أن ناساً جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا نجدُ في أنفسنا ما يتعاظم أحدُنا أن يتكلَّمَ به· قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم· قال: ذلك صريحُ الإيمان· وقال عليُّ: حدِّثوا الناسَ بما يفهمون، أتريدون أن يُكذَّبَ اللهُ ورسوله؟) فجعل إلقاء العلم مقيَّداً، فَرُبَّ مسألةٍ تصلُح لقوم دون قوم، وقد قالوا في الرَّباني: إنه الذي يُعلِّمُ بصغارِ العلم قبل كِباره، فهذا الترتيب من ذلك· وقد فرَّع العلماء على هذا الأصل، كما قالوا في قوله تعالى (إنما جزاءُ الذي يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يُقتلوا) الآية· إن الآية تقتضي مطلق التخيير، ثم رأوا أنه مقيَّدُ بالاجتهاد، فالقتل في موضع، والصلب في موضع، والقطع في موضع، والنفي في موضع، وكذلك التخيير في الأساري من المَنِّ والفداء· وكذلك جاء في الشَّريعة الأمرُ بالنِّكاحِ وعدُّوه من السُّنن، ولكن قسَّموه إلى الأحكام الخمسة· والله أعلم * كان عمر رضي الله عنه أول من عمل بقاعدة تغيّر الفتوى بتغيّر الزمان ممن له نصيب في تأصيل هذه القاعدة، فمن ذلك أنه لم يعطِ المؤلفة قلوبهم مع ورود ذلك في القرآن ورأى أن عز الإسلام موجب لحرمانهم· وكذلك إلغاؤه للنفي في حد الزاني البكر خوفاً من فتنة المحدود والتحاقه بدار الكفر لأن إيمان الناس يضعف مع الزمن· * الذي يتغير هو الأحكام الاجتهادية وأما القطعيات من الأحكام فلا تتغير فلا يمكن أن تتغير المواريث بدعوى أن المرأة أصبح لها شأن ولا يمكن أن يتغير تحريم ربا النسيئة في بلاد الإسلام ولا تحريم أكل الميتة والخنزير· * سدُّ ذرائع الحرج والمشقة وقد يسميه البعض بفتح الذرائع لأنه ترك لبعض فضائل الأعمال خوفاً من إعْنات المكلفين كما ترك عليه الصلاة والسلام تأخير صلاة العشاء قائلا: هذا وقتها لولا أن أشق على أمتي، وترك الأمر بالسواك عند كل صلاة، وترك بناء البيت على قواعد إبراهيم، وترك قتل أهل النفاق خشية على صورة الإسلام·