أعطى د. سليم قلالة أستاذ بكلية العلوم السياسية والإعلامية بجامعة الجزائر مقاربة عن سبب تأرجح الدراسات الاستشرافية في الجزائر وعدم احتلال موقعها الطبيعي في محيط سريع التحول حبلى بالتعقيدات والطوارئ وهو محيط من المفترض أن تسقط فيه القاعدة السلبية »أحييني اليوم واقتلني غدا« التي هي مرسخة في الأذهان ولا تقبل التغيير تحت أي ظرف ومبرر مفضلة الركون إلى الجمود الأبدي دون وضع في الحسبان الآتي القريب والبعيد وما يحتمه من مواجهة وتحضير. وقال د. قلالة المختص في هذا المجال وله مؤلفات كثيرة فيه في ندوة فكرية بمركز ''الشعب'' للدراسات الإستراتيجية أمس أن الاستشراف اهتمت به الجزائر في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، وتولته مجموعة من الخبراء بإشراف الفرنسي ميشال غودي، لكن لم ينطلق بالكيفية اللائقة، ولم تظهر نتائج العمل في زمن كانت فيه البلاد تحمل مشروع بناء مجتمع يتطور في ظل الخصوصية. ووضعت اسبانيا مرجعية في اللحاق بركب نموها وتطورها اعتمادا على منظومة اقتصادية تلعب فيها المركبات دور المحرك القوي. وعادت التجربة في الثمانينيات مع مؤشرات أزمة عصفت بالاقتصاد الوطني، وولدت اهتزازات اجتماعية حس صانعو القرار آنذاك بحتمية اللجوء إلى الاستشراف وتجاوز الوضع العصيب باليات فكرية تطرح بدائل الحل قبل فوات الأوان. لكن 5 أكتوبر دمر كل شيء وأبقى على المشروع الإنمائي النهضوي في مهده بالرغم من الآمال المعلقة عليه واعتبار منطلق العمل السياسي الصحيح في مواجهة أزمات قبل وقوعها بتدابير علمية عملية واقعية بعيدة عن اعتبار مجرد فكر طوباوي فلفسفي لا يقوى على التجسيد الميداني. وعادت الكرة مع الرئيس علي كافي الذي قرر بعث المبادرة وإحيائها على أسس سليمة من اجل بناء جزائر أخرى لا تسير على الارتجالية وتعيش أسيرة يومياتها وحاضرها دون التملص إلى الأبعد في التحضير للآتي بروح الواقعية ونظرة فاحصة للأمور تستبق الأزمات والطوارئ وتضع منهج في تسوية تعقيداتها قبل وقوعها وتداعياتها الخطيرة. وعلى غرار الدول الكبرى التي تضع إستراتيجية عمل تحتل فيها قاعدة الاستشرافية موقع الحسم، قررت الجزائر السير على هذا المنوال مسندة المهمة إلى مجموعات عمل برئاسة الخبير الراحل جيلالي اليابس، لم يصل تقريرها إلى المستوى المطلوب بسبب غياب التناسق والتكامل بين أعضائها وطغيان التخصص على العمل، فكان الإعلامي ينظر إلى مسالة الإقلاع والتطور في الأفق البعيدة من زاويته، والنفساني يعطيها بعدا واهتماما وتركيزا غير الاقتصادي وهلم جرا. وهكذا توقف المشروع باغتيال عقله المفكر ومسيره الجامعي جيلالي اليابس صاحب مشروع الجزائر .2000 ومددت بعده إلى 2005 ثم 2010 لكن الأمور راوحت مكانها بدليل أن الجزائر لم تصدر سوى تقرير واحد في ظرف خمسينية من الزمن، ولم تجسد في الميدان رغم أهميته في تشريح الوضع الثابت والمتغير وعرض حلول لتعقيدات في مختلف أوجه الحياة الاقتصادية والتربوية والعلمية والنهضوية. وحسب د امحند برقوق مدير مركز ''الشعب'' الاستراتيجي فان مبادرة الاستشراف لم تنطلق في الجزائر لأنها لم شخصية ولم تكن رسمية مساندة بالشكل الكافي من قبل مؤسسات الدولة وهياكلها، فكانت الصعوبة اكبر في الحصول على المعلومات وتوثيقها وترتيبها، وان المركزين الموجودين لم يعملا بالقدر الكافي وكل واحد غالق على نفسه بعيدا عن روابط اتصال وتواصل. وحسب د. برقوق فانه لو توفرت للجزائر دراسات استشرافية لما عرفت ظاهرة الإرهاب الأعمى الذي اغرق البلاد في دوامة خرجت منها بشق الأنفس بفضل نجاعة السياسة الوطنية التي عالجت المسالة من زاوية شاملة بعيدة عن الطرح الأمني المحدود. والدراسة الاستشرافية بعد ما حصل من هزات ارتدادية تصبح من ضروريات الأشياء للجزائر لمواجهة الموجة الإرهابية التي تحاول إيجاد مكانة لها في الساحل الصحراوي في بدابة المهد قبل الاستقرار والتكاثر وتوليد الأخطار التي هي في غنى عنها.