تقاطعت لندن وبغداد هذه الأيام لتلتقيا في محطة واحدة، حيث شهدت الاثنتان انتخابات مصيرية لتشكيل البرلمان ومن ثم الحكومة، وقادت الصدفة كلاّ منهما إلى مأزق سياسي حقيقي بعد أن أخفقت الأحزاب الكبيرة في بلاد الضباب والكتل الحزبية في بلاد الرافدين من تحقيق الأغلبية المطلقة التي تسمح بتشكيل الحكومة، ففي بريطانيا ولأول مرة منذ ما يقارب الأربعة عقود عجزت الأحزاب الرئيسية عن تحقيق الفوز الكاسح، مما عرقل تشكيل الحكومة ذات اللون السياسي الواحد الذي كان يتأرجح بين المحافظين والعمال وأدخل الفائز بأكبر عدد من المقاعد وهو «ديفيد كاميرون» في متاهة البحث عن حليف يقبل بالانضمام الى حكومة إئتلافية بعد أن انتجت الانتخابات برلمانا معلقا لا يحظى أي حزب فيه بالأغلبية. ولايزال «كاميرون» يسعى لاستمالة الحزب الثالث (الأحرار) لتكوين إئتلاف تبدو آفاقه البعيدة من الآن مسدودة، فجلّ المراقبين السياسيين يجزمون بأن البرلمان الذي سيقوم على حزبين وربما أكثر سيؤدي إلى تحالف غير مستقرّ، على اعتبار الاختلاف الكبير بين الديمقراطيين والأحرار في قضايا سياسية مصيرية كاختلافهما بخصوص التقارب مع أوروبا الذي يؤيده حزب «نك كليغ الديمقراطيون الأحرار » ويعارضه المحافظون والإصلاح الانتخابي الذي يصرّ عليه الأول ولا يحبّذده الثاني. وهذه التباينات كما يعلق مراقبون لايمكن تجاوزها، ومن المرجح أن تقود إلى أزمة سياسية عاجلا أم آجلا وتنسف بالبرلمان، مما سيدفع الى الاستنجاد بانتخابات أخرى بعد أشهر، مثلما حصل عام 1974 عندما أفضت الاستحقاقات إلى برلمان معلق وأدى الانسداد الحاصل الى إجراء اقترا ثاني بعد ثمانية أشهر.. ومثل المأزق البريطاني يعيش العراقيون على أعصابهم منذ مارس الماضي تاريخ إجراء الانتخابات، فبعد مضي شهرين مازالت الحكومة الجديدة لم تتشكل حتى النتائج النهائية لم تحسم بعد أن أخفق المتنافسون في تحقيق الأغلبية وأصرّ الذين يعتقدون بأن الفوز سُرِقَ منهم على إعادة فرز الأصوات وهي العملية التي لم تنتَهِ إلى اليوم.. تقاطعت لندن وبغداد في الانتخابات البرلمانية وأيضا في النتيجة التي لم تحسم لحزب أو كتلة معينة، لكن مع هذا التقاطع، يجب الاشارة الى ذلك البوْن الشاسع بين العملية الانتخابية في البلدين وأيضا المسار الذي اتخذه التعامل مع النتيجة، والذي عَكَس بما لا يد مجالا للشك بأن على العراق الذي يضع قدميه على أول درج من سلم الديمقراطية أن يتعلم الكثير من التجربة البريطانية المتجذّرة في عمق التاريخ. لكن إذا كانت لندن وبغداد التقتا في الموعد الإنتخابي وفي النتيجة فإنهما تفرّقتا في العديد من المحطات، أولها إعلان النتيجة الذي تم بسرعة البرق في بريطانيا، فبعد ساعات معدودة من نهاية الاقترا ظهرت النتيجة وكانت متقاربة مع ما تضمّنته الاستقراءات وعمليات سبر الرأي التي توقّعت فوز المحافظين دون إحراز الأغلبية، في حين أن النتائج النهائية للانتخابات العراقية لم تعلن الى اليوم وحتى تلك التي تم نشرها زادت من عمق الاختلافات بين المتنافسين. ثانيا: في بريطانيا، قبل المتنافسون بالنتائج المحصل عليها ولم يشكّك فيها أحد، عكس الحاصل في العراق، حيث رفضها المنهزمون وطعنوا فيها وطالبوا بإعادة الفرز ومنهم من لوّح بعصا التدويل. ثالثا، بدأت في بريطانيا الاتصالات والمفاوضات لتشكيل إئتلاف حكومي وتجاوز التباينات السياسية الحزبية في سبيل صيانة عظمة بريطانيا، في حين أن التحالفات الجارية في العراق تقوم على أسس طائفية ومذهبية تقصي الآخر، وعلى تعنّت هذا الطرف وذاك للإستئثار بتشكيل الحكومة، ليظهر جليا بأن الحديث عن أحزاب سياسية حقيقية هو ترف سياسي لم يبلغه العراق بعد، والواقع هو خريطة سياسية بألوان طائفية وعرقية وكتل وأحزاب مرتبطة بجهات خارجية تتجاذبها في الإتجاه الذي يخدم مصالحها. ويبدو الإنسداد العراقي أعمق وأكبر من الانسداد البريطاني الذي سيتم تجاوزه بشكل ديمقراطي، حتى وإن اقتضى الأمر إعادة الاقترا، إنما الانسداد العراقي ماضٍ إلى تأزيم الوضع الأمني وتأجيج العنف مثلما حصل قبل يومين. أدرك جيدا بأن المقارنة بين العراق وبريطانيا إجحاف في حق الأول، لكن الحالة العراقية ليست فريدة في الوطن العربي للأسف الشديد، بل هي مكررة هنا وهناك، وغالبا ما تكون الانتخابات محسومة لمن يتحكم بمقاليد السلطة والثروة. ومن الضروري على العراق أن يدرك بأن التعددية الطائفية والمذهبية والعرقية بقدر ما يمكنها أن تبني أعظم الحضارات إذا أحسن استغلالها مثل أمريكا، فهي يمكنها أن تقود إلى حروب مدمرة مثل ما حصل في لبنان قبل سنوات ومثل ما يحصل من تصعيد للعنف في بلاد الرافدين، والتلميذ النجيب هو الذي يستوعب الدروس.