على خلاف الرؤية الليبرالية الكبيرة فإنّ الدّولة ستلعب دورا هامّا كجهاز ضابط عبر قنوات التوزيع المتخصصة لحماية القطاعات الحساسة في مجال التوفيق والمصالحة بين التكاليف الإجتماعية والتكاليف الخاصّة للوصول إلى الذروة الإقتصادية. في هذا الإطار نشير إلى أنّ مناهضي العولمة يرفضون العودة إلى إقتصاد دولة بيروقراطية وإلى الأنظمة الشمولية فيما تؤيد قوى مضادة للسلطة ينشط فيها المجتمع المدني بفعالية أكثر وتسمح بإعادة توزيع للثروة وطنيا ودوليا وعدالة إجتماعية أكبر تحرّكها تكتلات خاصّة مع المحافظة على طابع وخصائص الخدمة العمومية. انطلاقا من هذا يمكننا التفريق بين أنصار الرّأسمالية التقليدية الذين يثقون ثقة كبيرة في اقتصاد السوق وأنصار الإشتراكية (الإشتراكيين) الذين يتخوفون من الأسواق ويراهنون على ملكية الدّولة لوسائل الإنتاج. يبرز هذا في وعي الشعب مفهومان هما: اقتصاد سوق يعني الرّأسمالية واقتصاد مسير ومخطط يعني الإشتراكية فيما يسبب شعار اقتصاد اجتماعي تابع للدولة نظرة أكثر تعتيما. يبقى إقتصاد السوق لا يتناقض، لا مع الإشتراكية ولا مع الرّأسمالية التقليدية، لا بل فإنّ إقتصاد السوق يدمج بين رأس المال والعمل ويرتبط بالليبرالية التي تنتهي إلى أهداف إجتماعية وهكذا يمكننا تعريف إقتصاد السوق بأنّه تنظيم إجتماعي الذي يعطي دورا أساسيا لقواعد وقوانين السوق من أجل التكيف وتصحيح المسار الإقتصادي. يرتبط إقتصاد السوق مع اتّجاه ثالث بين الرّأسمالية المتوحشة واشتراكية الدّولة يجمع بين النجاعة الإقتصادية بتحرير الطاقات المبدعة من جهة والعدالة الإجتماعية بفضل دور الدّولة المنظم، كما أنّ إقتصاد السوق يعيد الإعتبار للعمل والعبقرية المبدعة ويكون بذلك مصدرا لإنتاج الثروات، ويعرف إقتصاد السوق أيضا بأنّه مجموعة من النساء والرّجال الذين يجدون في المساهمة في نفس النشاط التسويقي والتجاري وسيلة لتحقيق طموحات مختلفة. 2 إقتصاد سوق يشجّع مجتمعا متعددا على خلاف الرّأسمالية المتوحشة واقتصاد الدولة الاحتكاري، فإنّ اقتصاد السوق يرتكز على المنافسة التي بدونها لا يمكن أن يكون هناك اقتصاد سوق حقيقي مما يبعد ويلغي كل إشكال الاحتكار والكارتلات. في هذا الإطار يبقى على الدّولة الدّور المنظم لحراسة المواقع المسيطرة وفرض إذا اقتضت الحاجة عمليات التفكيك، لأنّه داخل اقتصاد السوق لا يوجد للسلطات العمومية دورا تلعبه في التسيير الدّاخلي للمؤسسات لكن دورها يشمل تأطير المجموعة الإقتصادية باعتبارها منظمة لتسيير النقد ومراقبة القروض في الإستثمارات وعمل الهياكل القاعدية وفي التربية من أجل تأمين وتكوين يستجيب لاحتياجات المؤسسات والشروع في سياسة تهيئة للتراب الوطني ترتكز على لا مركزية حقيقية واقعية تساهم فيها الجماعات المحلية وشبكات مجتمع المدني. هكذا فإنّ الأمر يتعلّق بتشجيع المجتمع المدني حتّى يعبر عن أفكاره وآرائه مثل النقابات سواء العمّال التابعين للباترونا (أرباب العمل) التي يجب على العملية أن تتمّ عبر الفروع وفيما يخص العمال يتم العمل النقابي داخل المؤسسة لكن دون المساس بوحدة مديرية المؤسسة وبشكل شامل يجب أن يتوفر تعايش بين مختلف الشركاء الإجتماعيين داخل المؤسسة لأنّه يرجى دائما أن تندمج المؤسسة في مجتمع ديموقراطي. 3 أهميّة الدّولة المنظمة تلعب الدّولة المنظمة دورا أساسيا في التوظيف وفي الأسعار والمداخيل والسياسة النقدية وتتمثل خصائص سوق الوظائف في الإستجابة لقانون العرض والطلب، وفي هذا المجال مع أنّنا نشهد إشكالات جديدة للتوظيف، تماشيا مع التغيرات الدّولية والعالمية خاصة في مجال التسويق والتجارة مما يفرض تكيف وتأقلم جهاز التكوين لزيادة المرونة من خلال تكوين دائم، كما أنّ تشريع العمل يجب أن يأخذ بعين الإعتبار هذه التغيرات والتحولات والدولة عليها بالمساهمة. وفي مجال مراقبة الأسعار والمداخيل تساهم الدولة من خلال مراكز التحليل والمراقبة في توجيه سياسة الأجور ونسب الفائدة والأسواق النقدية والمالية عبر تأطيرات مرنة بعيدة عن أيّة نظرة بيروقراطية ويبقى الهدف الأساسي هو التوفيق بين النمو والعدالة من خلال سياسات إعادة توزيع المداخيل عبر الميزانية كما أنّ محاربة الإقصاء والفقر ستدعم الإلتحام الإجتماعي والنجاعة الإقتصادية التي تضمن أخلاق الدّولة ذاتها وبهذا تستجيب التدخلات العمومية إلى عدّة أهداف منها : - تسيير النقد والعمل. - تأمين التضامن بكل أشكاله المختلفة مع أنّ هناك دور مهم تلعبه مؤسسات التعليم الخاصة وشركات التأمين الخاصة لتجسيد هذه التضامنات. - توزيع التكاليف المشتركة عبر سياسة ضريبية نشطة. - تحديد وفرض إحترام قواعد اللعبة بفضل لجان أخلاقية مثل مجالس مراقبة البورصة (لحماية أصحاب الأسهم) والمنظمات غير الحكومية. - كبح الحركات المشوشة، فالدّولة مطالبة هنا بإصدار العملة المستقرة وتقديم خدمات جيّدة خاصة في مجال التربية والصرف. 4 الدّيمقراطية واقتصاد السوق كأولويات العولمة: اللاّمركزية والدّور الجديد للدّولة إنّ كل سياسة إقتصادية وإجتماعية مستقبلية يجب أن تأخذ بعين الإعتبار التحولات والتغيرات التي يشهدها العالم حتى نتأقلم مع هذا العالم الدائم التغيير والحركة ومن أجل تجنب أن نهمش، لأنّه في هذه الحالة لا يمكننا تجنب تدعيم الفضاءات الإقتصادية سواء كان ذلك في آسيا (أبيك) أو أمريكا (ألينا) أو في أوربا التي تتوسع شرقا وجنوبا من خلال الخارطة الأورومتوسطية المستقبلية، حيث أنّ عملنا باتّجاه الخارج من خلال تشجيع إنشاء مركز ثقافي وجامعة أورومتوسطية يكونا مقرا للحوار بين الحضارات وتلاقح الثقافات وإنشاء بنك وبورصة أورومتوسطية في آفاق 2018 /2020 /2025 لتسهيل إنتقال الأملاك والأشخاص والإستثمار في هذا الفضاء الأورومتوسطي. في مرحلة إنتقالية فإنّ العمل الإستيراتيجي سيتمثل في دعم الفضاء الأورومتوسطي لأنّ محاولة العمل فرديا يعد إنتحارا وتكون نتيجة هذا الدعم تنسيق للسياسات الإجتماعية التربوية والإقتصادية والضريبية والجمركية والمالية من خلال عملة وبنك مركزي مع الأخذ بعين الإعتبار الإمتيازات الخاصّة بكل بلد. لأنّ القارة الإفريقية تمثل مبادرة النيباد(NEPAD) فضاء مهما للإستثمار فإنّ الجزائر باعتبارها من الدّول التي تبنت هذه المبادرة وكانت من الذين يدعون إليها، ستبذل جهودا هامة دبلوماسيا لمواصلة ما بدأته بين عام 2000 / 2017 من عمل من أجل استرجاع الجزائر صورتها على الصعيد الدولي بتكثيف الإتّصالات الدبلوماسية مع قارة أمريكا وخاصة الولاياتالمتحدة وفي أوربا وفي آسيا (روسيا والجمهوريات السوفياتية سابقا) وكذلك العالم العربي وإفريقيا لدعم وتوطيد التعاون بين الجزائر والشمال وبين الجزائر والجنوب. أنّ المؤسسات تتركز في الأماكن التي تكون فيها المصلحة الأكبر. ففي منطق الأعمال لا يوجد مكان للمشاعر خاصة أنّ القرن الواحد والعشرين يشهد سيادة وغلبة الشبكات المتقاطعة في العلاقات الدّولية مما يتطلب سياسة خارجية متميزة بإعادة تكيف لدبلوماسيتنا. حتى تصبح أكثر نشاطا فعليها أن تعتمد بشكل كبير على المنظمات غير الحكومية لاستعادة الجزائر لصورتها وسمعتها وتشجيع الأعمال. على الصعيد الدّاخلي، يتعلّق الأمر بإعادة بناء الثقة بفضل دولة القانون وتطبيق قرارات التقرير الخاص بإصلاح هياكل الدّولة ووضع حد للإنطلاق الذي يحكم العلاقة بين المواطن والدّولة الذي تتمثل أسبابه في عدم احترام السلطات العمومية لالتزاماتها منذ عقود طويلة، وكذلك تدهور ظروف حياة المواطن الذي تزيد من معاناته السياسات الإقتصادية والإجتماعية غير المناسبة والفوضوية التي تتسبب في التبذير المتزايد للموارد الضعيفة المتوفرة. وهكذا فإنّ اللّغة الحقيقية بواسطة إعلام نشط يتبنى لغة يفهما الشعب خاصّة وأنّ العالم قد أصبح منزلا من زجاج بسبب ثورة عالم الإتّصالات هذه اللّغة يجب أن تظل إنشغالا دائما للدّولة. يدخل تحرير وسائل الإعلام والفن والتسلية والثقافة في إطار تفتح الطاقات المبدعة، إذ يتعلّق الأمر بإعطاء الأمل من جديد للشعب، كما أنّ إقامة دولة القانون المرتكز على العود إلى الأمل، تتطلب أعمال مجسدة في مكافحة الرشوة والمحاباة والجهوية وعلاقات العمل التي ابتعدت كثيرا عن الشفافية. من ثمّ فإنّ تجسيد طموحات المواطنين الجزائريين يستلزم وضع ميكانيزمات جديدة لتنظيم الحياة السياسية والإجتماعية، باشتراك المجتمع المدني وتوفير إستقلال واقعي وحقيقي للجهاز القضائي بإعادة النظر ومراجعة عمل المفتشيات العامّة للمالية وكذا محكمة الحسابات وأنّ هذه الأعمال تبقى مرتبطة بحماية الأملاك والأشخاص واشتراك المجتمع المدني، في ذلك لتجنب التصادم المباشر بين الدّولة والمواطن ويضاف إلى هذا ضرورة عصرنة وتحديث جيشنا الوطني وقوات الأمن عندنا بإعطائهم الوسائل اللاّزمة لأداء مهامهم بدون عقد، مثلما يجري في كل إصقاع العالم. هكذا فإنّه من المرجو أن يوضع قانون حول الأمن وهو متوقع في الدّستور ويكون ثمرة تشاور واسع بين الهيئات المعنية الأساسية ويأخذ بعين الإعتبار الوضع الدّاخلي بالجزائر وكذا التطوّرات الدّولية. من أجل السماح بعمل منظم ومنسق في الزمن يجب وضع قانون برمجة مدّته خمس سنوات لضمان تجنيد الوسائل المالية والبشرية وتخطيط إستراتيجي لعصرنة الجيش وقوات الأمن كما يحدث في أي بلد ديموقراطي بالتناغم والتنسيق مع إقامة دولة القانون. إنّ العلاقات بين الجزائر وحلف الشمال الأطلسي (ناتو NATO) واللّجنة الأوروبية للدّفاع والإقتصاد يجب أن تتدعم من أجل جعل حوض المتوسط منطقة سلام ورفاهية لصالح شعوب المنطقة ودائما في مجال إقامة دولة القانون ونظرا لما يشهد من خلل في مجال التشريعات نقترح ما يلي: أ إعادة التفكير في مجموع النصوص التشريعية خاصّة منها قانون الولاية لتحقيق لامركزية وجهوية القرارات الإقتصادية التي تعتبر أساس إقتصاد السوق، ويتمّ ذلك على خمس مستويات. - اللاّمركزية على مستوى المجالس البلدية وإلغاء الهياكل الإدارية الوسيطة مع الأخذ بعين الإعتبار خصوصيات مناطق الجنوب. - تقليص العدد المتزايد لشركات تسيير المساهمات وكذا شركات المساهمات وكل الهياكل الإدارية المشابهة (كالهولدينغ الشركات القابضة مثلا) التي تحد من التسيير الذاتي واستقلالية المؤسسات العمومية وحركة رؤوس الأموال إذ تعتبر عائقا أمام تحرير هذه المؤسسات. ب إنشاء مجالس جهوية تفتح ملف التسيير الجهوي الذي لا يجب دمجه في مصطلح الجهوية وهذه المجالس عليها أن تنشط في مختلف القطاعات في إطار تعاون وثيق بين غرف التجارة الجهوية. بما فيها رجال الأعمال الخواص أو العموميين ويشمل هذا التعاون والتنسيق البنوك ووكالات التأمين والجامعات ومخابر البحث والإدارة المحلية ويبقى الهدف هو إتاحة مشاركة الشعب في صنع مصيره دون إنتظار الهيئات الإدارية العليا. ومعلوم بأنّ المجالس الجهوية سوف تعمل في إطار الإمتيازات التي تخص كل جهة من خلال توجيه إنتقائي بحيث يكون الإستثمار لا مركزي على مستوى العملاء الإقتصاديين ويكون الوالي باعتباره ممثل الدّولة مكلفا بالهياكل الإدارية، ولي له صلاحية التدخّل في الجانب الإقتصادي. ج التأمين للدّولة مهمّة التنظيم (الضبط) الشامل وإعفائها من وظيفة المالك المسير، وبهذا تعمل الدّولة كهيئة منظمة في إطار تهيئة الإقليم بالمحافظة على البيئة بمساعدة المجالس الجهوية من خلال سياسة نشطة لمكافحة التصحر بالتشجير والتوجيه عبر نسب الربح والضرائب والتعريفات الجمركية. د إنشاء مختبر كبير لتلقي ومعالجة وتحليل المعلومات المتخصصة مستقل عن الحكومة لتفادي المناورات الحزبية بحيث تكون الجامعة طرفا فعّالا في هذا المختبر. 5 إصلاح العدالة والقانون إنّ إصلاح العدالة مرتبط بإقامة دولة القانون والأمن وعليه أن يستجيب لمطالب وطموحات المواطنين وهذا الإصلاح للعدالة يجب أن يوفق بين تسيير جيّد يأخذ بعين الاعتبار القانون الدّولي وبين اندماج المجتمع الجزائري في العولمة وفي الواقع الإقتصادي والإجتماعي الجديد خاصّة في مجال إقامة قواعد إقتصاد السوق المرتكزة على احترام العقد وإعطائه طابعا إنسانيا لتفادي صعوبات الولوج إلى هذا الإقتصاد. إنّ دعم استقلالية القضاء يجب أن يؤسس لمصداقية الدّولة في نظر المواطن، والعدالة في إطار تعاون وثيق بين مجموع المجتمع على أسس التشاور والحوار من خلال العائلات ومنظمات المجتمع المدني والمختصين في عدّة مجالات، كما أنّه يجب الاهتمام بالطموحات المشروعة للمواطن وهذا لمواجهة الانحراف لتسهيل إعادة اندماج السجناء في المجتمع، يتطلب أيضا تعاون كبير بين مختلف مصالح العدالة والشرطة وقوى الأمن المختلفة لمكافحة الآفات الاجتماعية كعصابات الأشرار وتهريب المخدّرات والاختلاسات المالية، ممّا يستلزم إقامة هياكل جديدة وتكوين متطور يتماشى مع التكنولوجيا والقواعد القانونية الدّولية. 6 مكافحة الرّشوة بميكانيزمات شفافة إنّ مكافحة الرّشوة تتمّ من خلال التنسيق بين المفتشيات العامّة خاصة المالية ومجلس المحاسبة وتنصيب شبكات الإعلام الآلي للربط بين الجمارك والضرائب وإدخال الإعلام الآلي لدى الجمارك والموانئ والمطارات والمؤسسات من أجل شفافية أكبر. ويضاف إلى هذا التخفيف من الإجراءات القانونية للحصول على السجل التجاري ممّا يتطلب تظافر جهود عدّة جهات. خبير دولي مساهمات : مقالات لا تلزم إلا أصحابها