من مرحلة مخلّفات دمار الاستعمار إلى تحدّي التصدير والاستثمار يجمع المختصون في عالم الاقتصاد والاجتماع، أن الاقتصاد الجزائري قطع أشواطا كبيرة منذ الاستقلال السياسي الذي حرر الجزائر من قيود الاستعمار الفرنسي الذي رحل تاركاً وراءه اقتصادا منهكا، من الصعب استدراكه وإعادة بنائه، غير أن إرادة الرجال استطاعت أن تخرج الجزائر من محنتها، فتم تبني نظام اقتصادي اجتماعي، واسترجاع الممتلكات والأراضي الفلاحية ومنحها لمن كافح الاستعمار، كما تم توفير احتياجات السكان الضرورية؛ كإنشاء المدارس والمستشفيات وتوفير الماء والكهرباء وغيرها، واستمر الاقتصاد الجزائري يجتاز عدة مراحل كانت تتحكم فيه الظروف الصعبة التي تركها المستعمر، وكذا التوجهات والأزمات العالمية، وآخرها “نفق العشرية السوداء” التي ساهمت في تأخير الجزائر وتوقيف عجلة التنمية بها، ناهيك عن الضغوطات السياسية والمالية.
عرف الاقتصاد الجزائري منذ الاستقلال، عدة تغيرات ساهمت بشكل كبير في تغيير المفاهيم الإيديولوجية وكذا الاستراتيجية، وبالتالي تغيير القرارات والأنظمة، وتعتبر المؤسسة الاقتصادية الجزائرية بمختلف قطاعاتها، القلب النابض للاقتصاد الوطني، بالرغم من أنها كانت ولازالت مختبرا لتجارب اقتصادية مستوردة من اشتراكية وتوجه رأسمالي، فالواقع الحالي للتسيير الاقتصادي الجزائري يستوجب علينا الرجوع إلى التحولات التاريخية الماضية لتفسير الوضعية الحالية. الاستقلال ورفع التحدي لإعادة اقتصاد دمرته فرنسا عند خروجها خرجت الجزائر من الحرب واقتصادها شبه مدمر، فبعد الاستقلال، غادر 90 من العاملين بالإدارة والمراكز الحساسة مناصبهم من معمرين وأجانب، تاركين المؤسسات والإدارات مهملة، حيث غادر خلال ستة أشهر فقط 800 ألف شخص، وكان القصد من وراء هذا الهروب، خلق مشاكل أمام الدولة الجزائرية المستقلة حديثا، إضافة إلى المشاكل الموضوعية التي كانت تواجهها البلاد، كالبطالة التي فاقت نسبتها تفوق 70، والأمية التي بلغت 98 بالمائة، إلى جانب ضعف القطاعات الصناعة، الزراعة والتجارة التي كانت شبه مدمرة. ولذلك، رفع قادة الثورة التحدي وكان نمط تسيير الاقتصاد الوطني واستراتيجية التنمية الاقتصادية التي يجب اتباعها، إحدى اهتماماتهم، بالرغم من التوجه والصورة التي لم تكن واضحة حول نموذج التنمية، لكن في مؤتمر طرابلس، بدأت ملامح هذا النموذج تسيير نحو التوجه لإعطاء الأولوية لقطاع الفلاحة واعتباره محرك القطاعات الأخرى، وكذا تقليص الملكية الخاصة وتشجيع الشكل التعاوني، وهي الخطوة التي مهدت لنمط التسيير الاشتراكي للاقتصاد الوطني، وخلال هذا الوقت، حاول العمال على اختلاف فئاتهم وقدراتهم، ملء الفراغ الذي تركه المسيرون الأجانب بهدف حماية الاقتصاد الوطني ومواصلة العملية الإنتاجية في المؤسسات، قصد مواجهة احتياجات المجتمع، وهذا التجاوب من طرف العمال سهل عملية تجسيد “التسيير الذاتي للاقتصاد، وهو التوجه الذي لم يكن وليد تفكير عميق، وإنما كان استجابة عفوية لظروف اقتصادية، سياسية واجتماعية معينة فرضت العمل بهذا النمط، حيث وصل عدد المؤسسات الصناعية في 1964 إلى 413 مؤسسة كانت تسير ذاتيا. ولم يدم هذا المنهاج طويلا حتى بدأ العمل على التقليل من انتشاره، وما قرارات التأميم إلا تأكيد على ذلك، وقد عرفت الجزائر بعد تاريخ 19 جوان 1965 تغييرا حقيقيا، حيث بدأتها بمرحلة التأميمات لقطاع البنوك والمناجم في سنة قطاع المؤسسات ما بين 1966 و1970 قطاع المحروقات 24 فبراير 1971، وقد تزامن ذلك التفكير في خلق شركات وطنية، ففي سنة 1965 تأسست كل من الشركة الوطنية للنفط والغاز، الشركة الجزائرية للحديد والصلب، الشركة الوطنية للصناعات النسيجية، الشركة الوطنية للتأمين، إن هذه الشركات وغيرها اعتبرت آنذاك كأدوات أساسية لتحقيق إستراتيجية التنمية وخلال فترة، أصبحت هذه الشركات لا تستطيع حصر أهدافها والتي كانت محددة ومسطرة من قبل الجهاز المركزي والوصاية، لأن هناك أهدافا أخرى تتعارض وطبيعة نشاطها بسبب عوامل عدة، من بينها قلة الإطارات ونقص الخبرة، تلبية المطالب الاجتماعية وكذا خلق شروط الاستقرار السياسي، وفي هذه المرحلة، كانت أهداف الاقتصاد الوطني غير محددة حسب قانون العرض والطلب، وإنما حسب منطق الخطة الاقتصادية الموضوعية، وهذا ما جعل التحكم في عملية التصنيع واتخاذ القرارات يتم خارج الشركات الوطنية من قبل الجهاز المركزي، وهذا ما دفع بالسلطة إلى تغيير نمط آخر للتسيير. التسيير الاشتراكي ... توجّه اقتصادي أمْلته الظروف وقد تغير التوجه بعد ذلك نحو مرحلة التسيير الاشتراكي للاقتصاد، والتي تعتمد على أساس النظام الاشتراكي الذي يرتكز على الملكية العامة لوسائل الإنتاج وتدخل الدولة، التخطيط المركزي وتحقيق المصلحة العامة، وأن يكون العمال طرفا مهما في تسيير ومراقبة هذه الشركات، وبالتالي، أصبح العامل يتمتع بصفة (المسير المنتج)، ولم يكن تطبيق النظام الاشتراكي في الجزائري، لم يكن بطريقة دوغماتية متعصبة، بل كان بخصوصية جزائرية، لكن هذا التوجه في التسيير قد واجه عدة مشاكل، أهمها نقص الإطارات واليد العاملة المؤهلة، لأن العمال الجزائريين خلال الفترة الاستعمارية لم يكونوا يعملون في المناصب التقنية، فالرحيل الجماعي للمعمرين ترك فراغا كبيرا، يضاف إلى نقص الموارد المالية اللازمة لتمويل النشاطات، وكذا تداخل الصلاحيات وتقاسمها بين مختلف التنظيمات المتواجدة داخل المؤسسة، التي تسعى إلى أخذ القرارات، وخلال هذه الفترة، بدأ العجز المالي الإجمالي يتجلى. وكان الانتقال من مرحلة الانتظار إلى تبني النظام الاشتراكي خيارا سياسيا بقرار من مجلس الثورة سنة 1966، يكرس مبدأ التنمية الاقتصادية والاجتماعية المبنية على التخطيط المركزي ومبدأ التدخل المباشر للدولة في الاستثمارات الإنتاجية، والبحث عن استقلال اقتصادي صناعي حقيقي مستقبلي بعد الحصول على الاستقلال السياسي، ولذلك جاءت السياسة الاقتصادية في شكل مخطط اقتصادي شامل وطويل المدى (إلى غاية 1980) يحدد الاتجاه العام للتنمية في الجزائر، وهو موزع على خطط اقتصادية ثلاثية ورباعية، والهدف من ذلك هو القضاء على التخلف والخروج من دائرته في آفاق الثمانينات. واعتمدت الجزائر آنذاك على الصناعات الثقيلة، لاسيما في مجال الحديد والصلب والطاقة وتثمين قطاع المحروقات، حيث أُنشئت مؤسسة عمومية صناعية تحتكر نشاط الفرع، ومؤسسة عمومية للتسويق تحتكر نشاط التوزيع والاستيراد والتصدير، وبهذه الصورة توسع القطاع العام وتقلص نفوذ البرجوازية الناشئة، كما تم في المجال المالي تأميم جميع البنوك والأجهزة المالية بهدف التحكم في آليات الاعتمادات المالية وتوجيهها للتنميةّ، ثم تجميعها بعد ذلك في سنة 1969 بعد تأسيس البنك الوطني الجزائري، البنك الخارجي الجزائري والقرض الشعبي الجزائري، تأميم الشركات البترولية الأنجلوسكسونية في جوان1967، ثم مجموع السوق البترولية في ماي وجوان 1968. كما ركزت الدولة في مجال الزراعة على تحسين وتنظيم القطاع الزراعي (إعادة توزيع الأراضي، هيكلة المزارع، تخطيط الإنتاج…) وزيادة الطاقة الإنتاجية الطبيعية (تقليص نظام التبوير، استصلاح أراض جديدة…) وزيادة التشغيل وتنظيمه (زيادة كفاءة العمل، إعادة توزيع الملكية، محاربة التغيب عن الأرض، أما في مجال التجارة الخارجية، فقد تم التركيز على تنويع التجارة الخارجية (حصة فرنسا في المبادلات التجارية تقلصت إلى 45 بالمائة من الواردات و53 بالمائة من الصادرات لصالح شركاء مثل ألمانيا، الولاياتالمتحدةالأمريكية و إيطاليا)، واحتكارها من طرف القطاع العام لمنع هروب رؤوس الأموال إلى الخارج، وتوجيه جل الاعتمادات المالية لصالح التنمية، اعتماد سياسة جمركية تحارب الاستهلاك الطفيلي و ترشيد الاستهلاك الوطني، تهيئة وحماية سوق المنتجات المحلية الجديدة. ااقتصاد السوق لمواكبة التحولات في العالم إن الأزمة التي عاشها الاقتصاد الجزائري سنة 1986، والتي كانت ظاهرة خطيرة على الاقتصاد الوطني، حيث انخفض سعر برميل البترول وتدهورت قيمته، بالإضافة إلى سوء تسيير المؤسسات، ولأجل هذه النتائج، سعت الجزائر إلى البحث عن أحسن السبل لبناء اقتصاد وطني عصري وإخراج المؤسسة الوطنية من البيروقراطية، وإعطائها الحرية اللازمة لإصدار قراراتها الخاصة لتسيير مواردها المالية والمادية، ومن ثمة، تم مناقشة قضية النظام الرأسمالي أي استقلالية المؤسسة، وفي بداية 1988، بدأت مرحلة تطبيق بعد دراسة مشاريع وقوانين حددت الحكومة شروطها ومخططاتها. وقد عرفت العشرية الأخيرة من القرن الماضي، مرحلة خطيرة لم تعرف البلاد انزلاقات أمنية مثلها، حيث أثرت الأوضاع السياسية غير المستقرة بصورة سلبية على كل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وشهد الاقتصاد الوطني خلال هذه المرحلة، عدة هزات نتيجة تخريب العديد من ممتلكات الدولة كحرق المصانع، هجرة الإطارات والكوادر من جهة، إفلاس المؤسسات وغلقها، وكذا تسريح عمالها من جهة أخرى، التدهور في قيمة العملة، ولكن رغم هذا وذاك، بقيت الدولة صامدة أمام هذا الوضع واستمر مسؤولي القطاعات الاقتصادية في اتباع أنظمة جديدة تخرج البلاد من الأزمة. وفي سنة 1990، أصدرت الدولة قانون 90 /10 الخاص بالقرض والنقد، وبموجبه أنشئ مجلس النقد والقروض والذي يعتبر مجلس إدارة البنك، فمن خلال هذا القانون، كان أول قانون صدر في تلك المرحلة أدركت الدولة أن السير الأفضل للتنمية والنهوض باقتصادها هو الانتقال إلى تحرير الاقتصاد الوطني، بإتباع سياسة السوق الحرة ورفع يد الدولة عن العديد من الأمور الاقتصادية وإبراز نية توجهها السياسي نحو ما يسمى ب “اقتصاد السوق” الذي يستند إلى مبدأ كمال السوق، وهذا المبدأ مفاده سيادة الحالة الطبيعية للسوق، ونعني بها المنافسة الكاملة، وفيه يكون تدخل الدولة ما هو إلا دور منظم ومسير، مع ضبط تحرك السوق عن طريق القوانين لتفادي وجود احتكارات. عهد الرئيس بوتفليقة.. التحرر من المديونية والإقلاع الاقتصادي لم يكن بمقدور الحكومات المتتالية، ورغم خبرتها، أن تصل إلى حلول للنهوض بالاقتصاد الوطني الذي وقع فريسة بين مطرقة الضغوطات الخارجية والديون من جهة، وسندان الإرهاب من جهة أخرى، ولعل مجيء الرئيس عبد العزيز بوتفليقة كان بمثابة الروح التي تبعث من جديد والاستقلال الذي لم يستشعره أبناء جيل الاستقلال الذين تحملوا تبعات خدمات المديونية، وفشل التمويل وضغوطات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وتوصياتهما التي تخضع للجانب المالي، دون الأخذ بعين الاعتبار الجانب الإجتماعي والمطالب الشعبية. وساهمت إرادة الرئيس بوتفليقة وحنكته السياسية وعزمه القوي على إخراج الاقتصاد الجزائري من دوامة الانهيار في بروز بوادر أمل جديدة، عبر توجهات جديدة سواء من الناحية الأمنية من خلال تشديد الخناق على الإرهابيين وبسط يد الأمن والمصالحة لهم على حد سواء، أما من الناحية الاقتصادية التي باشرها الرئيس، فتتمثل في فتح المؤسسات وإنشاء المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وكذا التنمية الفلاحية التي انتعشت بشكل كبير بدليل الأرقام الإيجابية المسجلة خلال السنوات السبع الأخيرة، والأهم من هذا، تخلص الجزائر من عبء المديونية وتصفية مشاكلها العالقة مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ونادي باريس ونادي لندن، وهي الخطوة التي اعتبرها المحللون الاقتصاديون بمثابة التحرر الفعلي للاقتصاد من قيود المديونية والضغوط الخارجية. وقد ذهبت الجزائر إلى أبعد من ذلك، فقد أصبحت قادرة على ضمان أكثر من ثلاث سنوات من الاستيراد لتغذية المواطن وتسيير الاقتصاد، بناء على استيراد المواد الصناعية والتكنولوجيات الحديثة، بالإضافة إلى فتح المجال للبنوك الجديدة لخلق جو من المنافسة النوعية التي دفعت المواطن إلى العمل برؤية جديدة وقوية، وقد تحولت الجزائر اليوم إلى أكبر ورشة عمل في حوض المتوسط وشمال إفريقيا بفضل برنامج الإنعاش الاقتصادي الذي رصد له مبلغ يفوق 145 مليار دولار، وهو أهم مشروع اقتصادي منذ مخطط مارشال الأمريكي عقب الحرب العالمية الثانية، وذلك ما يؤكد أن بلادنا قد دخلت نهائيا في الخدمات الكبرى وبناء سوق قوي يبوئها مكانة محترمة من ناحية السياسة الخارجية والدبلوماسية. وبفضل جهود الإنعاش الاقتصادي، احتلت الجزائر مكانة هامة على الصعيد المغاربي أيضا، بحيث أصبح اقتصادها يشكل 67 من اقتصاد المنطقة، أي بدونها لا حديث عن وجود اقتصادي أو مالي مغاربي، وهذه نقطة جد حساسة يأخذها بعين الاعتبار الأوروبيون والأمريكان وحتى العرب، بدليل تواجد أكثر من 140 شركة عربية بالسوق الجزائرية. وإجمالا، فإن القوة المالية، الموقع الجيواستراتيجي، الإصلاحات والمشاريع الكبرى، المستوى العلمي والثقافي والأهم التسيير الرشيد، جعل من الجزائر قوة اقتصادية وطنيا، إقليميا ودوليا يحسب لها ألف حساب، وتؤخذ بعين الاعتبار خلال المواعيد الدولية المالية الاجتماعية والاقتصادية، على اعتبار أنها عضو اقتصادي قوي. المؤسسات الصغيرة والمتوسطة حل للاستثمار خارج ريع المحروقات وكان آخر توجه اقتصادي اعتمده الجزائر، هو خيار إنشاء المؤسسات الصغيرة والمتوسطة حلا لإخراج الاقتصاد من الاعتماد على مصدر واحد للدخل، إلى تنويع مصادر الدخل خارج قطاع المحروقات، والتي من شأنها توفير مناصب الشغل وزيادة معدلات النمو والمساهمة في رفع الكفاءة القدرة التنافسية في عالم سريع التطور لا يرحم الضعفاء، بالإضافة إلى توفير مناخ استثماري مناسب باتخاذ إجراءات علمية ملموسة في اتجاه تحفيز الإنتاج واجتذاب رؤوس الأموال المحلية والأجنبية، مع وضع استراتيجيات تنافس السلع الأجنبية تضمن بقاءها على الساحة الدولية، خاصة مع وشك إتمام انضمام الجزائر إلى المنظمة العالمية للتجارة. ولذلك، تبقى الجزائر مطالبة بالتكتل إقليميا، سواء في إطار اتحاد المغرب العربي أو السوق العربية المشتركة، قصد تكوين قوة توازن اقتصادية وسياسية مستقبلا، فالنموذج الأوربي خير مثال على التكتل الاقتصادي، فرغم تحقيق الاقتصاد الجزائري نسبة نمو تقدر ب 68 بالمائة سنة 2003، كانت وراء تدعيم التوازنات الكبرى واستقرار الأسعار وإنعاش سوق العمل، وقد أوصى المجلس الاقتصادي والاجتماعي آنذاك بضرورة وضع مخطط على المدى المتوسط لدعم النمو الاقتصادي وإعادة تنشيط الورشات الكبرى للأشغال العمومية وتنفيذ الإصلاحات حتى لا تضيع الديناميكية التي تولدت عن برنامج الدعم الفلاحي وبرنامج الإنعاش الاقتصادي، ولعل ذلك يخدم التوجه الحقيقي المتمثل في تحقيق الاكتفاء الذاتي والتصدير وتحقيق التنمية المستدامة.