يستأنف المجلس الأعلى للغة العربية اليوم الأربعاء أعمال ندوته العلمية في موضوع اللغة العربية والتخطيط اللغوي . يأتي هذا متزامنا مع احتفال الجزائريين بذكرى مرور نصف قرن على الاستقلال السياسي للبلاد مما يضع علامات استفهام كبيرة حول نجاعة السياسات التعليمية في بلد يعترف دستوريا - بالعربية لغة رسمية للدولة . فماذا يعني أن تبحث مؤسسة تابعة لرئاسة الجمهورية موضوع التخطيط اللغوي وهل نضج لدى واضعي السياسات الاقتصادية في الجزائر الاحساس بفشل نموذج التنمية المبني على اللغة الأجنبية ؟ وما المطلوب عمله لاستدراك الفرص الضائعة جراء تهميش لغة الأمة في مسارات العمل الوطني ؟ حصيلة ضعيفة خلال 50 سنة تقدمت فرنسا خطوات واسعة على سلم التنمية حتى صارت باريس قطبا سياسيا واقتصاديا محترما ، فهي تتزعم حاليا قاطرة الاتحاد الأوربي في جانب الديبلوماسية بين الدول ، وهي مهندسة مشروع «الاتحاد من أجل المتوسط» الذي يستهدف قيادة منطقة جنوب أوربا وشمال افريقيا والشرق الأوسط ، وهي من حسم الموقف في أزمة ''ساحل العاج'' قبل ساعات لصالح الرئيس المنتخب «حسن وتارا». وفي الجانب الاقتصادي تتصدر باريس موقع المهيمن على السوق الافريقية في قطاعات : صناعة السيارات ، الدواء ، الغذاء ، الخدمات المالية ، المياه والري ، وتستثمر حاليا في تسويق الصناعة النووية السلمية ، وتفعل فرنسا هذا باستخدام لغة واحدة هي اللغة الفرنسية . وفي نفس الفترة وبنفس اللغة بل بتوظيف أكبر لنفس اللغة تراجعت الجزائر كثيرا على سلم التنمية البشرية من المنظور النسبي حيث خسرنا نقاطا مهمة على صعيد جودة التعليم حسب مؤشر الترتيب العالمي ، وخسرنا نقاطا أخرى على صعيد اعتماد الاقتصاد الوطني على الريع النفطي بعد أن تراجع نصيب السلع في صادراتنا الخارجية من مستوى 40 بالمائة عند الاستقلال الى 2 بالمائة اليوم ، وتراجع نصيب الصناعة في الانتاج الوطني من 25 بالمائة الى 5 بالمائة خلال 30 سنة ، وتخلفت الادارة الجزائرية المبنية على اللغة الفرنسية حتى صارت مضرب المثل في أثرها المعيق للتحرر الاقتصادي ومن ذلك الجهاز المصرفي الذي نراه يراوح مكانه بل يزداد تراجعا أمام الطلب على الخدمات البنكية : لماذا يحقق بنك «بي أن بي» الفرنسي في الجزائر نجاعة بنكية بعيدة عن نظرائه من البنوك الجزائرية مع أن اللغة الفرنسية هي الساحة المشتركة بينها ؟ الجواب غير مفهوم إلا عند البحث في الدور التنموي والاقتصادي للغة أي المحتوى الفني للتواصل اللغوي لأن للغة بعدا نفسيا لا يعدم تأثيرا مباشرا على القيم الاجتماعية للاقتصاد ، ومهما اجتهدت أمة في استخدام لغة غيرها فإنها لن تتحكم فيها كما يفعل أهلها ، وعلى صعيد التواصل فإن اللغة محور رئيس في تسويق الأفكار والتوجهات والمفاهيم والمنتجات ولو كانت منتجات مادية كما يذهب الى ذلك الدكتور كارم غنيم ''إن معرفة أكثر المشتغلين بالعلوم باللغة الانجليزية لا ترقى الى مستوى معرفة أهلها أنفسهم ، فهم يستخدمون لغة لا يحسنونها ويهملون لغتهم التي يمكن أن يحققوا بها مستوى أفضل ، فيزدادون ضعفا على ضعف . حقيقة ، لقد ورثت الادارة الجزائرية جيلا كاملا من الموظفين التابعين للمدرسة الفرنسية واستخداما شاملا للغة الفرنسية وللوسائل الفرنسية ولكن بعد نصف قرن من الزمن تستغرق أحيانا - عملية مراقبة الجوازات عند الدخول في المطار الرئيسي للجزائر 3 ساعات كاملة أي ضعف الوقت اللازم لرحلة جوية بين الجزائر وباريس مثلا ، أما عن خدمات الصرف والعبور والتلخيص والمعاملات القضائية فالأحسن ألا نكتب عنها وإلا اشتعل الرأس شيبا. بين توظيف اللغة والتوظيف باللغة ما لم يفهمه بعض مسؤولينا حتى اليوم أن هناك فرقا شاسعا بين توظيف اللغة كأداة فنية والتوظيف باللغة كمبدأ وطني . وهكذا ، استبدلت الادارة الجزائرية توظيف اللغة بالتوظيف باللغة على عكس الفيتنام وكوريا الجنوبية مثلا حيث نجد اللغة الأجنبية أداة تقنية لتوطين التكنولوجيا ولم تكن أبدا أداة تواصل داخل الدولة أو المؤسسة ، ولقد حضرت قبل أسبوع منتدى عالميا للأعمال في الامارات حيث حاضر فيه ممثل الصين باللغة الصينية في حين كانت أشغال المنتدى تسير باللغتين العربية والانجليزية ولم يكن هناك استعداد للترجمة الفورية من قبل المنظمين وفي ذلك دليل على أن للغة محتوى اقتصاديا ونفسيا هو الذي دفع بممثل الصين الى الابداع بلغته ويدفع الصينيين أيضا الى التحرر من عقدة اللغات الأجنبية . إنها العقدة التي ماتزال تطبع يومياتنا كجزائريين سائلين ومسؤولين حتى صار التوظيف باللغة الوطنية محصورا في قطاع الشؤون الدينية والتعليم الابتدائي والاعلام المعرب ، وضيعت البلاد كفاءات علمية راقية تكونت داخل منظومة التكوين الوطنية منها مسيرون وباحثون وأطباء يعملون بالخارج وبكفاءة عالية . وتمددت تلك العقدة في مجتمع الأعمال والسياسة والحكومة والادارة حتى صارت اللغة الفرنسية الوسام الذي يعلقه بعض المسؤولين إذا تعلق الأمر بتصريح أو خطاب وكلمة في مؤتمر مع أن هناك إجماعا عالميا على تخلف هذه اللغة على سلم استيعاب التكنولوجيا وتطبيقات المعارف والانتشار الجغرافي ، والعكس تماما يحصل إذا تعلق الأمر باستخدام اللغة الوطنية حيث يقرأ ذلك قراءة سلبية ويضيع المحتوى في اعتبارات الشكل ، وهذا ما يفسر استمرار تراجعنا على منحنى التنمية وأداء المؤسسة وتحقيق النجاعة . لقد ميز الله لغتنا الوطنية بأنها أغنى لغات العالم اشتقاقا ، وأغناها مفردات مما يساعدها على التواصل السريع في عصر السرعة ، وهي أول لغات العالم تعبيرا عن المفردات الاقتصادية في التاريخ حيث اشتقت كلمة «الشيك» من «الصك» ، و«الكريدي» من «القرض» و«التاريف» من «التعريفة» ، و«المقازان» من «المخزن» ، و«الكونتابيليتي» من «الحسبة» ، وحتى في السلع الاقتصادية اشتق «الكابل» من «الحبل» ، و«السيكر» من «السكر» ، و«الكوفي» من «القهوة» العربية ، وحتى في الوظائف الاقتصادية اشتق «الأميرال» من «الأمير» و«الكابيتان» من «القبطان» و«الجستيونار» من «التسيير» . أغلب المصطلحات الفنية في الاقتصاد في السياق التاريخي جذورها عربية ولا أحد يفهم لماذا تحرص الجزائر على التوظيف والتواصل الرسمي باللغة الفرنسية في حين يعطينا المثل الصيني والياباني أن اللغة عامل تنموي أساسي ولوكانت لغة معقدة وصعبة في حروفها ورسومها ، وأن من النباهة اللغوية تعلم اللغات الحية واسعة الانتشار كما دل الى ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «من تعلم لغة قوم أمن شرهم» وهي نفسها اللغات التي لا يحسنها جل مسؤولينينا وإطارات دولتنا . يبدو لي أن الوقت قد حان ليعلم الشعب الجزائري بأنه تأخر كثيرا في توظيف لغته توظيفا تطبيقيا وأن لغة المستعمر التاريخي للبلاد لم تقدم لنا شيئا سوى أنها طردت لغة جميلة وفعالة وكاملة وسهلة وغنية من دائرة الاقتصاد ولكن بأيدي جزائريين هذه المرة ، وأن مصالحة مستعجلة مع أنفسنا وثقافتنا ومع الأنا الاجتماعي للأمة تفرض نفسها علينا اليوم ، وغير ذلك استمرار للتأخر على سلم التنافسية والقيم الاقتصادية لا أحد يعلم مداه إلا الله .