علينا أن نطرح الكثير من الأسئلة عند البحث في الشعر العربي المعاصر وتفاعله مع أساطير الخصب، فما هي أصول هذه الأساطير؟ وما هي عناصرها؟ ما هي الآلهة التي تحضر فيها؟ وبعد ذلك عندما تقف القراءة أمام النص الشعري المناصري يحق لها التساؤل: ما هي تجليات هذه الأساطير في الشعر؟ وكان الشاعر إليوت قد نقل في (الأرض اليباب) همومه الذاتية وتصوراته الفكرية حول الحياة الغربية المعاصرة، وعبر السياب في (أنشودة المطر) عن أوجاعه الشخصية وأحوال الذات العربية في عصره، فما هي الهموم الذاتية والرمزيات الوطنية والإنسانية لتوظيف أساطير الخصب في شعر كثير من الأسماء الشعرية العربية المعاصرة؟ سننجز سفرا في بعض شعر الشاعر الفلسطيني والدكتور المتخصص في الدراسات المقارنة عز الدين المناصرة للتمثيل لهذا الحضور الأسطوري. المناصرة والخصب / تجدّد الحياة: إنّنا نعجز عن تأويل تجلّيات توظيف الأسطورة في الشعر دون العودة إلى أصولها، ونعجز عن قراءة رمزية التوظيف لأن الشاعر عندما يستعين بالأسطورة فهو يطمح إلى نقل مشاعره وأفكاره، في بُعدها الذاتي أو الوطني أو الإنساني، ويكون الأمر الشعري / الأسطوري أكثر اتضاحًا مع أسئلة الحياة والموت، فلا يمكن تأويل الشعر دون الوعي بالأصل الأسطوري، بخاصة وقد (أصبح العديد من الآلهة والإلهات كبعل إله الخصب والقوة، وعشتار نظير أفروديت، وتموز نظير أدونيس في الميثولوجيا اليونانية وثيق الصلة بالجانب الروحي الثقافي في النهضة العربية، وقد أصبحت الأجهزة الأسطورية أو الميثولوجيات الشرق أوسطية بالنسبة إلى الشعراء المحدثين رموزًا أساسية للحياة والموت في لغة صور الشاعر الحديث). ومن هذا الأفق ندخل في تحليل تجلّيات أسطورة الخصب والنماء في شعر المناصرة، من حيث توظيف الآلهة أو عناصر تجدّد الحياة وعودة النماء إلى الأرض/ الإنسان. يتأمل المناصرة الأسطورة ويكتشف عناصرها، ليضع رمزه الذي يحيل على مشاعره وأفكاره، فمن الجفاف إلى الخصب، يظل الترقب الشعري/ الإنساني: سنة بعد سنة ستعيشين مع الحزن سنة وانتظار الحب أن يرجع من غُربته، بعد سنة يذرع الحانات والمقهى الذي يعرفهُ، باحثًا عن سوسنه في عيون الخُطب الجوفاءِ، في بحر الوعود الآسنة هو ترقب الحب، ليس بمفهومه الحسي / اليومي، ولكن بمفهومه المعنوي / الأسطوري، ذلك الذي يُغير الوجود بحضوره، فيرتقي به في فضاءات الحركة والحيوية، حركة الإنسانية وحيوية قيمها وأفكارها، وهذا التأثير يشمل المشهد الثقافي، وينتقل إلى المشهد الاجتماعي-الشعبي، من حيث الشوق إلى الزمن / الحب، وتجاوز الزمن / الحزن، فيتحول الحب هنا إلى عنصر أسطوري يفتح أمام القراءة الفضاءات الأسطورية للخصب وتجدد الحياة. وقد وظّف الشاعر أسطورة تموز وعشتار توظيفًا جزئيًا، فرغم غياب أسماء الآلهة، فإنّ الدلالة الأسطورية حاضرة، وقد تألق النص الشعري عبر شعرية المقابلة بين الحب / الغياب، والحزن / الحضور، ويظل كل الشوق وكل الأمل في تغيير المشهد، ليتحوّل غياب الحب وغُربته إلى حضور في الذات والفكر، وكذلك في الأرض والوطن، كي يتجاوز الشاعر الاغتراب بكل أبعاده الدينية والحضارية والفلسفية، وباختصار، بكل أبعاده في العاطفة وفي الكون. السّرد الأسطوري وفي ذات القصيدة التي يحضر فيها المشهد الشعري السابق (قصيدة أغنيات كنعانية) نقرأ بناءًا فنيًا يشبه البناء الأسطوري، وكأنّ السرد الأسطوري يتحوّل إلى سرد شعري: يا إليوت، من أقصى البرية جاءت تسعى، فاصطادت أغنيةً بدوية خلعتْ أزهار الحنّون الأحمرْ طلتْ السّفح دماً من ورْكِ أدونيس المذبوحْ وسقتنا نَدَما تتأخر الغنائية وتتقدم الدرامية، وينادي المناصرة (إليوت) الشاعر الإنجليزي (الأمريكي الأصل)، لا يناديه شخصًا، وإنما رؤيةً وذاكرةً وحداثةً شعرية، وصراعًا من أجل مواجهة الخراب والفناء، وبدل أن يمارس الشاعر/الإنسان طقوس احتفاليات الخصب / الحياة، فهو يعيش الحزن الإنساني ويمارس طقوسًا مأساوية في ظل احتفالية دموية فجائعية، تأتي لتقرأ هذا الذبح الرهيب المفزع لأدونيس، وبدل أن تسقى الأرض بالماء والنماء، ها هي تسقى بالدماء، فأي شعرية هذه؟ وأي رمزية هذه؟ إنّنا نكاشف شعرًا يقابل الدماء ورمزيات الحياة بالدم ورمزيات الموت، ويسرد لنا كيف تذبح رؤيا الانبعاث التموزي / الأدونيسي، وهي رؤيا حضرت في الشعر العربي بخلفية التأثر بإليوت، وقد كانت القصيدة التموزية حوارًا مع الذات والأمة، ووظّفها المناصرة بكل جزئياتها من حيوية الخصب إلى ثبات الجفاف، عبر آلية التكثيف الدلالي، وهي كثافة تعتمد اختزال المعنى الأسطوري وتجعله خادمًا للرؤية الشعرية، ومن هنا، ف (إنّ الكثافة تلعب دورًا رئيسيًا في نصوص المناصرة، حيث لا تعتمد القصيدة على تداعيات سهلة متوقعّة، بل تعبأ بشحنتها الدلالية المتراكبة، عبر عدد من التحوّلات، والانتقالات في إثراء الدلالة بسياقاتها المختلفة)، وهي التحولات التي تتحدّى القارئ وتصدمه، وكأن الطقوس الأسطورية، تعانق الآلهة بحثًا عن خصوبة الأرض، أما تحولات الدلالة فتعانق آلهة شعرية بحثًا عن حياة الوطن الفلسطيني/الأمة العربية، كما أنّها الانتقالات التي ترفض الراهن /العجز، وتحلم بالآتي / القداسة. الشّعر والمقاومة لذلك نجد الشاعر يُحوّل نصّه من مشهد الرضوخ والهزيمة إلى مشهد المقاومة والانتصار، ومن وقائع أسطورية تقول الجدب والموت، إلى أخرى تقول التجدّد والحياة: أحببتُ الموت هنا حيث أموتُ وحيًدا منفردا ابتعدي عني، ابتعدي عن ذاكرتي ما زلت أُقارعُ هذا الخنزير البرّيْ وعلى رأسي ينهمر المطر الكنعاني من بطن سحابة من قلب الغابة تأتيني عشتار تلملمني تشع – هنا – الأسطورة علينا، وتمنح النص توهّجًا، من خلال جعله قريبًا من بناء النص الأسطوري، لكن مع بعض التحوير والتغيير، كي يتلاءم العنصر الأسطوري الأدونيسي – التموزي مع دلالات المطر الكنعاني، فمن جهة تتجلىّ الخلفية الأسطورية (صراع تموز مع الخنزير ودور عشتار في إحيائه من جديد)، ومن جهة أخرى يتحقق التباعد / تعدّد الرؤية (دور الذاكرة الكنعانية)، وعبر هذا التقابل النصي يتجلّى التقابل بين الموت والانبعاث، وتتجلّى عمليات الصراع وفاعليات المقاومة. ويمثل (الخنزير) في هذا السياق النصّي الأسطوري الخطر والخراب، وفي الأسطورة الفرعونية، نجد (ست)، عدو (حورس) وقاتل (أوزيريس) تَشَكّل في صورة خنزير لكي (يصيب الإله ذا العيون الزرق، ولهذا السبب يعتبر رعاة الخنازير في مصر منبوذين ملوثين، محرمًا عليهم دخول المعابد وتقديم القرابين للآلهة، ولا يتزوج أبناؤهم وبناتهم من أبناء الشعب الأطهار)، وهذا الرفض الديني - الاجتماعي للخنزير امتد إلى الشعر، وجاءت (عشتار) لتساند تموز وتعيده إلى الحياة. وجاء المناصرة ليستعين بالأسطورة ويعيد الحياة إلى شعره ووطنه وأمته، وقد تحوّل - في العُمق النصي - إلى تموز أي الشاعر/ تموز، الذي تخلَّصه المرأة الأسطورية من الموت، فيتوحَّد الرمز الشعري مع الأسطورة ، ويواصل المناصرة بحثه في الذاكرة الأسطورية، شوقًا إلى الحياة وحُلمًا بالديمومة له ولوطنه وأمته، إنه يحتضن الطبيعة، مسافرًا في جزئياتها قصد بناء عوالم شعرية للولادة في الزمن الآتي: أتأرجح بين الحب وبين السيفْ يتوّرد في الشارع وجهي لرحيق الصيفْ اقرأ لافتةً عن بيع لعُيون حبيبي.. شراءْ أسقط في مجرى الماءْ في الزمن الآتي نولد، في الزمن الآتي ألمح طيف حبيبي يولد في جسدي قمحًا، سهلاً وربوعْ فبعد أن توّحد في الرمز الأسطوري ومزج بين الذات والآخر/ تموز، يعود الشاعر ليقدم عنصرًا آخر من أسطورة الخصب، إنّه عنصر تجدد الحياة وعودة النماء إلى الأرض، ولنتأمل شعرية الماء هنا كيف حضر في وسط النموذج الشعري بين لحظات الضياع والخوف (الحب – السيف)، وأزمنة الولادة وعودة الحبيب وموضوعة الخصب (القمح- السهل- الربوع)، فيكون (الماء) طريقا نحو المرأة والانبعاث الشعري/ الاجتماعي، ومن ثمة تنفتح القراءة على علاقة الماء / المرأة / الحياة، ف (إن الماء رمزٌ من رموز الأمومة، وهو الحركة التي تدعونا إلى السفر، لأنّ المياه الجامدة توحي بالموت وتدعو له، لهذا يمكن اعتبار الأم والماء من رموز المسيح التي تشير إلى ميتة الموت والانبعاث)، وقد احتضنه المناصرة وشكّل به نصه الشعري، وحوّل عوالمه من الموت إلى الحياة، بعد أن تجاوز أزمنة / أمكنة الثبات وعانق الولادة والانطلاق؛ انطلاق الذات / الأمة من عمقها الأسطوري-التاريخي نحو المستقبل. إنّ الشاعر في توظيفه للماء – بما فيه من محموُلات دلالية – يواصل ما قام به السياب في قصيدة (أنشودة المطر)، وقد اهتم النقد العربي بما فيها من تجلّيات أسطورية، أمّا عند المناصرة، فإنّ الماء يأتي ليؤسِّس تقابلاً بين المحور الأسطوري / أسطورة الخصب، والمحور الواقعي / الذات – فلسطين، وهو ما يجعله يرتقي بالنص، ليكون هذا الشاعر الفلسطيني / الكنعاني، هو الشاعر النبي، ويكون نصه هو الإبداع/النشيد الرمزي... تلجأ الكنعانيات في الزمن القديم إلى ممارسة طقوس الابتهال في الجبل الذي بلّلته دموع الآبار وجرحته / دنّسته سيوف الأعداء، لتجعله أسطوريًا يلتفت إلى الكنعانيين ويتأثر تحت ضربات الراهن الهمجي الوحشي، لكن الحضور الأنثوي يُغير الرؤية من الرمزية الانهزامية إلى الرمزية الانتصارية، وهي علامة (المرأة) في الإبداع وفي الأساطير، و(هي أعظم رمز للحياة، يعكس حاجة الإنسان الأصلية للأمان في عالم لا يتصالح مع مخاوفه، وحيثما يظهر التوثر بين الخير والشر والتجدّد والفناء، يظهر رمز المرأة جامعًا في إهابه كل بواعث الحياة والموت والحب والغربة والثقة والخوف...). وفي ظل ذلك التوتر تبرز المرأة الكنعانية التي تتحول إلى قدّيسة، بل هي (عشتار) تعطينا الحياة والحب، فيتحرك الإنسان الكنعاني معانقًا الحياة، وتواصل المرأة طقوس الابتهال للآلهة، من خلال الرقص: يذكرني حتمًا في اللّيل حبيبي قالت إحدى عذراوات الساحلْ ثم رقصنَ، رقصنَ، رقصنَ، إلى أن شققت الأرضُ غشاء الأقدامِ، وضجّ الإعياء من الإعياءْ ضجَّ الإعياءُ من الإعياءِ، تعانق دمع الكنعانيات وحنّاء الأشجار سيعود عريساً...يا شجر الزيتون، يعودْ مازالت المرأة الكنعانية تمارس الصلاة وتدعو بالحياة لهذه الأرض، فيتجاوز المكان - مرة أخرى - المستوى الجغرافي / اليومي، ويسمو ويتشكل في عالم سيميائي مفتوح، فمع الرقص نكتشف الأرض، ويكتشف المكان سحره وأسطوريته، فهو (صيغة فكرية وحضارية ودلالية متسعة الاتجاهات والرؤى، تغيّر تأثيراتها وفق الأنثولوجيا الثقافية للحضارات، وفقًا للمادة الإبداعية المدونة أو المادة الفلكلورية الدرامية...). الأرض واحتفال الفلسطيني وتحضر طقوس الاحتفال الكنعاني في قصيدة (جفرا في سهل مجّدو)، وهي قصيدة طويلة تضم الموضوعات التالية: 1- الليل / الورد 2- الشاعر / الحب 3- أسْطرة جفرا 4- طقوس الاحتفال الكنعاني 5- جفرا / الخصب / عشتار 6- أسْطرة جفرا / الدهشة، وهي موضوعات تنفتح على تواصل شعري مع الطبيعة / رمزية المكان، وتكشف عواطف وأفكار الشاعر في علاقته مع الأنا الفلسطيني، ذاكرة وجغرافيةً وقيمًا وأساطير...كل ذلك في سهل مجدو، وهو (أحد مناطق التمركز السكاني القديم، حينما مارس كنعان طقوسه الزراعية في أخصب سهول فلسطين، حيث مرج بن عامر، تحرسه مجدو بخرائبها وبامتدادها التاريخي، ففي سهل مجدو سطّر الكنعانيون أسطورتهم وحوّلوها إلى واقع يومي)، وعلى دربهم يسير الشاعر المناصرة منشدًا أغاني الخصب والنماء: سأدندن أنشودة سهل مجدُّو، عُودي هذا عودي الأخضر فوق شفاه الكنعانيات هذا درب البرقوق على خارطة مهترئة هذا مفرق معصرة الزّيتون يتغنّى الشاعر بأنشودة هذا المكان ويتألق به نحو عوالم الدهشة، لأنّه مكان انطلاق الخضرة والانبعاث الطبيعي / الاجتماعي لهذه الأرض ولأهلها، ولأنّه موطن المزارع الكنعاني الأول، كما أنه موطن الطقوس الاحتفالية للكنعانيات، حيث (مشهد الكنعانيات بين حقولهن يتوزعن البهاء الجميل وأساطير الخصب والحياة)، فتتجدّد أمام القراءة – مرة أخرى- حوارية الماضي والحاضر، وانفتاح فلسفي / صوفي على توحّد المكان والزمان، ومكاشفة جمالية للواقعي / الأسطوري من غير أن تتخلّف جمالية العلاقة بين المرأة والأرض. في الختام..لقد سافرنا في بعض النماذج الشعرية للمناصرة، واقتربنا من أساطير الخصب، وستكون لنا وقفات أخرى لتجلي أسطورة عشتار وغيرها من الملامح الأسطورية عند شاعرنا ن، قصد كشف الخصوصيات الفنية والدلالية، وطريقة التفاعل مع الراهن الفلسطيني و العربي بتوظيف الأساطير. ملاحظة: للدراسة مراجع