الشعر العربي العاصر وأساطير الخصب والنماء عن شعر عز الدين المناصرة وجمالياته بقلم الدكتور وليد بوعديلة* - الجزء الثالث والأخير- بعد أن توّحد في الرمز الأسطوري ومزج بين الذات والآخر/ تموز يعود الشاعر ليقدم عنصرًا آخر من أسطورة الخصب إنّه عنصر تجدد الحياة وعودة النماء إلى الأرض ولنتأمل شعرية الماء هنا كيف حضر في وسط النموذج الشعري بين لحظات الضياع والخوف (الحب – السيف) وأزمنة الولادة وعودة الحبيب وموضوعة الخصب (القمح- السهل- الربوع) فيكون (الماء) طريقا نحو المرأة والانبعاث الشعري/ الاجتماعي ومن ثمة تنفتح القراءة على علاقة الماء/ المرأة /الحياة ف (إن الماء رمزٌ من رموز الأمومة وهو الحركة التي تدعونا إلى السفر لأنّ المياه الجامدة توحي بالموت وتدعو له لهذا يمكن اعتبار الأم والماء من رموز المسيح التي تشير إلى ميتة الموت والانبعاث) وقد احتضنه المناصرة وشكّل به نصه الشعري وحوّل عوالمه من الموت إلى الحياة بعد أن تجاوز أزمنة/ أمكنة الثبات وعانق الولادة والانطلاق انطلاق الذات/ الأمة من عمقها الأسطوري-التاريخي نحو المستقبل. إنّ الشاعر في توظيفه للماء – بما فيه من محموُلات دلالية – يواصل ما قام به السياب في قصيدة (أنشودة المطر) وقد اهتم النقد العربي بما فيها من تجلّيات أسطورية أمّا عند المناصرة فإنّ الماء يأتي ليؤسِّس تقابلاً بين المحور الأسطوري/أسطورة الخصب والمحور الواقعي/الذات – فلسطين وهو ما يجعله يرتقي بالنص ليكون هذا الشاعر الفلسطيني/ الكنعاني هو الشاعر النبي ويكون نصه هو الإبداع/النشيد الرمزي وذلك هو جوهر التحوير في الأسطورة بصورة خلاّقة/ شاعرية. فتتجدُد الأسطورة وتحتفظ بروحها وعمقها وينجح المناصرة-بذلك- في المزج بين علامات الطبيعة وبين الذاكرة الجمعية فيلتقي الواقعي مع التخييلي والحاضر مع الماضي والتراث الفلسطيني مع غيره... فالشاعر (يهرب إلى الماضي ولكنه ليس هروبًا رومانسيًا وإنما هروب فني إيهامي ليقيم علاقة تقابلية بين عالم المُثل والنقاء والأحلام وبين واقع الانهيارات المفاجئة وسقوط التطلّعات الكبيرة والوثُقيات العنيدة). تعدُّ قصيدة (دموع الكنعانيات) من أبرز قصائد الشاعر وهي تنزع منزعًّا أسطوريًا- ملحميًا يتحاور فيها الشاعر مع تيمات الأرض والخصب والتغيير والحياة(...) وهي تتشكل من مجموعة موضوعات يمكن ترتيبها هكذا: 1- الذاكرة/ كنعان/ الأرض 2- طقوس الصلاة/ المرأة 3- النهر/ الخصب/ الإنسان الفلسطيني 4- المرأة الكنعانية/ الرقص/ الطبيعة 5- القمر/ الطفولة/ الفرس 6- الدم/ الطبل/ الزيتون 7- الصلاة للإله (أيل) 8- عودة الميت/ الفرس/ الدم/ الحياة. وتتخذ القصيدة بناءً أسطوريا يستفيد من الملامح والعناصر الأسطورية كما أنها ذات بناء دائري ينطلق من الأرض ليعود إليها وهي من الخصائص البنائية الجمالية للقصيدة الطويلة فمن جهة نجد البناء المركّب الذي يتميّز بالوحدة والتناغم ونجد – من جهة أخرى – البنية الدائرية التي تنطلق من نقطة لتعود إليها في الختام الشعري ونحن في هذا السياق سنتوقف عند الملامح الأسطورية التي تحيلنا على أسطورة الخصب لنقرأ: الكنعانيات يجئن يُصلّين على الجبل المبْتلِّ بدمع الآباء المجروح بسيف الأعداءْ الجبل المبتلُّ بدمع الآباء المجروح بسيف الأعداء يُصلِّي أيضًا للطلل الواقف فوق الرأس المعشوشب دمعًا ودمًا والباكي وحشته يحاور الشاعر المرأة الكنعانية ويتبع خطاها/مجدها وهي تتجه نحو أداء الصلاة على الجبل وقد أشرنا سابقًا إلى أن الكنعانيين يقدمون القرابين في الأماكن العالية/السامية فالجبل هنا لا يكون مكانًا هندسيًا له الأبعاد الدينية فقط وإنما هو مكان شعري إيحائي يتحوّل في شعر المناصرة إلى عابد وخاضع أمام الآلهة وهي هنا آلهة الخصب أي (بعل) معطي الحياة وموّزع القوة والخصوبة إنّه (السيد) الذي يحضر في الأرض وفي السماء والمخلص للذات الشعرية والإنسانية من كل ملامح الضعف والهوان والجفاف. تلجأ الكنعانيات إلى ممارسة طقوس الابتهال في الجبل الذي بلّلته دموع الآبار وجرحته/ دنّسته سيوف الأعداء لتجعله أسطوريًا يلتفت إلى الكنعانيين ويتأثر تحت ضربات الراهن الهمجي الوحشي لكن الحضور الأنثوي يُغير الرؤية من الرمزية الانهزامية إلى الرمزية الانتصارية وهي علامة (المرأة) في الإبداع وفي الأساطير و(هي أعظم رمز للحياة يعكس حاجة الإنسان الأصلية للأمان في عالم لا يتصالح مع مخاوفه وحيثما يظهر التوثر بين الخير والشر والتجدّد والفناء يظهر رمز المرأة جامعًا في إهابه كل بواعث الحياة والموت والحب والغربة والثقة والخوف...). وفي ظل ذلك التوتر تبرز المرأة الكنعانية التي تتحول إلى قدّيسة بل هي (عشتار) تعطينا الحياة والحب فيتحرك الإنسان الكنعاني معانقًا الحياة وتواصل المرأة طقوس الابتهال للآلهة من خلال الرقص: يذكرني حتمًا في اللّيل حبيبي قالت إحدى عذراوات الساحلْ ثم رقصنَ رقصنَ رقصنَ إلى أن شققت الأرضُ غشاء الأقدامِ وضجّ الإعياء من الإعياءْ ضجَّ الإعياءُ من الإعياءِ تعانق دمع الكنعانيات وحنّاء الأشجار سيعود عريساً... يا شجر الزيتون يعودْ مازالت المرأة الكنعانية تمارس الصلاة وتدعو بالحياة لهذه الأرض فيتجاوز المكان -مرة أخرى-المستوى الجغرافي/ اليومي ويسمو ويتشكل في عالم سيميائي مفتوح فمع الرقص نكتشف الأرض ويكتشف المكان سحره وأسطوريته فهو (صيغة فكرية وحضارية ودلالية متسعة الاتجاهات والرؤى تغيّر تأثيراتها وفق الأنثولوجيا الثقافية للحضارات وفقًا للمادة الإبداعية المدونة أو المادة الفلكلورية الدرامية لكن المكان أبدًا ليس صيغة جامدةً أو هامشية في مستوى التخيّل الإبداعي وفي المستويات الاعتقادية لإثنيات متعددة تلك الاعتقادات التي تتمظهر عبر الحكاية الشعبية والأسطورة) وقد مزج المناصرة بين المكان/ الجبل والاعتقاد/ صلاة المرأة طلبًا للخصب وأحال القارئ على الخلفيات الأسطورية لأسطورة الخصب ويمكن كشفها بتأويل دلالة هذه الأرض/الكنز المفتوح. ويتأكد البعد الميتافيزيقي لثنائية الجبل/ الطقس الأسطوري من خلال تكرار البنية التركيبية/ الدلالية (ضجّ الإعياء من الإعياء) فيتحوّل المشهد من الجغرافية إلى الروح ومن الرجاء إلى التوحد في الإله كما أنّ الدلالة تعانق المساحات الدينية- الأسطورية بكل جلال الدين وعجائبية الأسطورة فمن زمن الرقص والدعاء إلى نشوة الخصب/ الحياة يتشكّل النص الشعري تشكلاً أسطوريًا ويمزج الكنعانيات بالأشجار وهنا أيضًا يجب تأمل الخفق الأسطوري لا الواقعي أي البحث عن لحظة مكاشفة فنية-فكرية للمرأة/ الأرض ينجز فيها المناصرة تحويلاً لمعنى المرأة قصد تشييد معنى المعنى. وهنا تمتزج الكنعانيات بالأرض والزيتون والهوية لتصبح المرأة هي ذاتها من المتعاليات الفلسطينية عند الشاعر الكنعاني لأنها (قوة مجددة للطبيعة ولقوى النفس بحيث تفتح الطريق أمام مكنونات أعماق النفس وتطلعات الإنسان الفكرية والروحية وتطلق قوى الوعي نحو المغامرة التي تتخذ شكل التحول من الطاقات الغريزية والعاطفية إلى ذروة السمو وتطور الكينونة) وإذا اتخذت المرأة/عشتار عند السياب دلالات العراق والأم فإنها عند المناصرة المرأة الكنعانية/عشتار التي تحمل دلالات الإشراقات الروحية/ اللاهوتية وقداسات المقاومة والرفض عبر أصوات تأتي من العمق الوجداني- الفكري الفلسطيني لتغير حال الأرض من الثبات إلى الحركة ولتكاشف زمن الأعراس بدل زمن الجنائز وتفتح يوميات الحب التموزي بدل الخراب والجذب ويأتي السطر الشعري (سيعود عريسًا...يا شجر الزيتون يعود) ليتألق بمعنى الخصب من خلال استحضار عنصر العودة الأسطورية التموزية هذا العريس الإنساني- الإلهي. إنّ شعر المناصرة يطمح إلى زلزلة يوميات الأرض/الجفاف وكأنه يرفع رأسه/ شوقه إلى السماء راجيًا من الإله (بعل) أن يمنحه الحب والقوة وأن يحوّل الأرض إلى وهج الخصْب/ الحياة ويمكّن للقراءة أن تذهب بعيدًا في تحليل شعرية العريس/ العودة وهي شعرية تحمل قيمة طقوسية إيحائية تبتعد عن بساطات المعنى اليومي المألوف لأنها ستتحول إلى رمز أسطوري وإذا كانت بهذه الأهمية فستكون بحجم توظيف الشخصية الأسطورية هدفها الارتقاء بالمعنى و(ينبغي أن تحمل هذه الشخصية في السياق الشعري ملامح الشخصي والعام أو بعبارة أدق الفردي والجمعي فإذا فقدت وجودها الرمزي فقدت نتيجةً لذلك تأثيرها الشعري المنشود). بعد عودة الشهيد/ العريس تعود الحياة وتبدأ رحلة أخرى للبناء والمواجهة لذلك نقرأ النشيد الكنعاني الرمزي: يا دمَهُ افتح كل حدود الشوك فإنّي ألمحه طيلة أيام الأسبوع يُسافر بين الجذر الأخضر والجذر الأحمر ما بين عناق اللّونين يذوب وهكذا تصل القصيدة إلى نهايتها فبعد أن ابتدأت بابتهال للذاكرة الكنعانية ورمزية أرضها إنها تختم بالعودة إلى مجد وقداسة هذه الأرض فتعود ألوان الأمل والفرح ويتوحّد الإنسان الكنعاني مع جذر وروح التربة بكل الأبعاد السيميائية لهذا التوحّد. وتحضر طقوس الاحتفال الكنعاني في قصيدة (جفرا في سهل مجّدو) وهي قصيدة طويلة تضم الموضوعات التالية: 1- الليل/ الورد 2- الشاعر/الحب 3- أسْطرة جفرا 4- طقوس الاحتفال الكنعاني 5- جفرا/الخصب/عشتار 6- أسْطرة جفرا/الدهشة وهي موضوعات تنفتح على تواصل شعري مع الطبيعة/ رمزية المكان وتكشف عواطف وأفكار الشاعر في علاقته مع الأنا الفلسطيني ذاكرة وجغرافيةً وقيمًا وأساطير... كل ذلك في سهل مجدو وهو (أحد مناطق التمركز السكاني القديم حينما مارس كنعان طقوسه الزراعية في أخصب سهول فلسطين حيث مرج بن عامر تحرسه مجدو بخرائبها وبامتدادها التاريخي ففي سهل مجدو سطّر الكنعانيون أسطورتهم وحوّلوها إلى واقع يومي) وعلى دربهم يسير الشاعر المناصرة منشدًا أغاني الخصب والنماء: سأدندن أنشودة سهل مجدُّو عُودي هذا عودي الأخضر فوق شفاه الكنعانيات هذا درب البرقوق على خارطة مهترئة هذا مفرق معصرة الزيتون( يتغنّى الشاعر بأنشودة هذا المكان ويتألق به نحو عوالم الدهشة لأنّه مكان انطلاق الخضرة والانبعاث الطبيعي/ الاجتماعي لهذه الأرض ولأهلها ولأنّه موطن المزارع الكنعاني الأول كما أنه موطن الطقوس الاحتفالية للكنعانيات حيث (مشهد الكنعانيات بين حقولهن يتوزعن البهاء الجميل وأساطير الخصب والحياة) فتتجدّد أمام القراءة –مرة أخرى- حوارية الماضي والحاضر وانفتاح فلسفي/ صوفي على توحّد المكان والزمان ومكاشفة جمالية للواقعي/الأسطوري من غير أن تتخلّف جمالية العلاقة بين المرأة والأرض. وكذلك يرتفع –في العمق الشعري- صوت الرجاء وطقوس الاحتفال بالكلمة والحركة في الصلاة للآلهة وهذا يجعلنا نكتشف خلفية أسطورية لعشتار آلهة الخصب علمًا بأن المصريين عرفوا رقصات النساء بطْرق شعائرية معينة في وقت الربيع بحيث تختفي الآفات التي تهلك المحصول وقد شهدت المنطقة الممتدة من الشام إلى مصر أنواعًا كثيرة من الرقصات (رقصة الخصب الرقص الجنائزي رقصات النصر...) وفي هذا إشارة- مرة أخرى- إلى التفاعل التراثي- الأسطوري بين أمم المنطقة. في الختام ..لقد سافرنا في بعض النماذج الشعرية للمناصرة واقتربنا من أساطير الخصب وستكون لنا وقفات أخرى لتجلي أسطورة عشتار وغيرها من الملامح الأسطورية عند شاعرنا ن قصد كشف الخصوصيات الفنية والدلالية وطريقة التفاعل مع الراهن الفلسطيني والعربي بتوظيف الأساطير. ملاحظة:للدراسة مراجع