في البداية دعنا نشير إلى أن اختيارنا لقراءة الموقف التركي بخصوص موجة التغيير التي يشهدها الوطن العربي، لم يأت صدفة أو اعتباطيا، بل أملته عدّة معطيات مرتبطة أولا بالدّور المتعاظم لوريثة الإمبراطورية العثمانية على الساحة الدولية، وثانيا لتميّز موقفها بخصوص التعاطي مع الأزمات العربية ومبادرات الحل، وثالثا للأصوات المتعالية التي أصبحت تدعو الدول العربية إلى تبني نموذج النظام التركي لبناء ديمقراطية قوية ومتقدمة، واربعا لتنامي المكانة التركية في وجدان الشعوب العربية .
تسونامي التغيير في العالم العربي يفاجئ أنقرة مثل كل الدول تفاجأت تركيا بموجات تسونامي التغيير وهي تضرب الدول العربية الواحدة تلو الأخرى. وقد أبدت أنقرة ترددا كبيرا في اتخاذ أيّ قرار بخصوص ما يجري خشية أن يكون القرار الخطأ، لهذا لم نسجّل لها أيّ ردّ فعل تجاه الإطاحة الشعبية بالرئيس التونسي، واكتفت في الحالة المصرية بدعوة الرئيس المخلوع حسني مبارك إلى ضرورة الإصغاء إلى مطالب شعبه. ومع اندلاع الأزمة الليبية بدى التردد التركي أكثر وضوحا، ممّا أثار سخط العديد من الأوساط التي استنكرت عدم إسراع أنقرة إلى إصدار تصريح قوي يندّد بالنظام الليبي ودعم المعارضة. وقد برّرت تركيا تأخرها هذا، بحرصها على سلامة رعاياها المتواجدين بالجماهيرية، وسجّلت أن مهادنتها لنظام العقيد لم يكن إلاّ مراوغة لتحقيق مصلحة مباشرة في ليبيا، إذ مكّنتها هذه المهادنة من إجلاء أكثر من 30 ألف مواطن تركي من دون أن يلحق بهم أيّ أذى وفي وقت قياسي مقارنة مع الرعايا الغربيين. ومع تأزّم الوضع الليبي والضغط الغربي، بدأت أنقرة تحسِم موقفها وتحدّد موقعها. وأخذت تطالب القذافي بتلبية رغبة شعبه حتى وإن كان بصوت خافت مقارنة بالدول الغربية، ولم تعارض القرار الأممي رقم 1973 بشأن فرض حظر طيران فوق ليبيا، والسماح باتخاذ كافة الإجراءات لحماية المدنيين رغم تحفّظها على استعماله وبسرعة خارقة كغطاء للتدخل العسكري، من منطلق معارضتها الجذرية لأيّ استعمار غربي جديد تحت مبرر التدخل في مسار الحركة الاحتجاجية الشعبية. لكن بالموازاة مع انتقال موقفها تدريجيا إلى صف المعارضة التي اتّصلت بها واستقبلت رموز منها، فإن تركيا لم تقص الخيار السلمي لحل الأزمة الليبية، وعرضت الوساطة مرارا وتكرارا، بل ووضعت خارطة طريق تضمّنت وقفا فوريا لإطلاق النار، وإقامة مراكز إنسانية آمنة لمساعدة الشعب الليبي، والشروع في إجراء تحوّل واسع النطاق نحو الديمقراطية ووصولا إلى انتخابات حرة، لكن الغرب سدّ الطريق أمام “خارطة الطريق” هذه، كما سدّ كل منافذ الحل السلمي ولم يترك إلا خيارا واحدا وهو التدخل العسكري للإطاحة بالقذافي.
من التردد إلى الحسم لقد انتقلت تركيا من التردد إلى الحسم، إذ لم تعد بإمكانها تجاهل ما يجري في الوطن العربي، خاصة وأن نُخبها بما فيها العلمانية والمستغربة، والتي كانت تدير ظهرها للتقارب التركي العربي. وطالما أبدت انزعاجا من مبادرات هذا التقارب التي بدأها رئيس الوزراء الراحل “تورغوت أوزال” مع بداية الثمانينات، وعزّزتها حكومة العدالة والتنمية بقيادة “أردوغان” مع مطلع هذه الألفية، من منطلق أن الأنظمة العربية ديكتاروية، بدأت تطالب قيادتها بتأييد الانتفاضات الشعبية العربية، وتحث على تضييق الخناق على الزعامات المطالبة بالرحيل لإرغامها على التنحي. وهكذا بدأت تصدر عن المسؤولين الأتراك تصريحات مؤيّدة لمطالب الشعوب العربية في ليبيا واليمن وسوريا، ولم يتوان بعضهم في الجزم بأن أيّا من الحكّام الديكتاتوريين لن يتمكّن من النجاة من هذه الرياح، وكل من يحاول مقاومتها سيخسر. وأبدى الموقف الرسمي التركي تبنّيه المطلق لشعارات الشعوب العربية من الحرية والديمقراطية، مع تسجيل رفضه لأن يستغل الغرب هذه الحركات الشعبية المشروعة للتدخل وفرض هيمنته الاستعمارية، ولتدمير المؤسسات القليلة الباقية أو البنى التحتية الفقيرة أصلا.
التحول التدريجي من الأزمة السورية من منطلق أن حركات التغيير التي شهدتها الدول العربية ليست حالة واحدة متكررة، فإن الموقف التركي منها كان مختلفا وخصوصا من الأزمة السورية. فموقف أنقرة من أحداث سوريا يختلف كثيرا عن الموقف تجاه الأزمة الليبية، بالنظر إلى عدة معطيات نلخّصها في علاقات الجوار التي تربط دمشقبأنقرة، والملفات الساخنة المشتركة مثل قضية الأكراد والعرب والأتراك والعلويين وأهل السنة وملف المياه، ثم وهو الأهم انعاكس وتأثير ما يجري في كل دولة على الأخرى، وأيضا العلاقات المميزة التي أصبحت تربط القيادتين السورية والتركية بعد فترة سوداء كادت تقود الدولتين إلى حرب ساخنة في أواخر التسعينيات من القرن الماضي. إن هذه العوامل الموضوعية تجعل تعاطي تركيا مع الأزمة السورية، أمرا حسّاسا وصعبا، بل إن البعض يعتبر بأن الأزمة السورية تشكّل مصدر إحراج وإزعاج كبير للحكومة التركية، التي لم تبد في بداية الأزمة أي موقف واضح، لكنها وبعد أن بدأت أمواج النازحين تغمر أراضيها والانتقادات تتهاطل على رئيس الوزراء “طيب رجب أردوغان”، وتتهمه بالكيل بمكيالين أي أنه يلتزم الصمت تجاه “الجرائم” التي يرتكبها النظام السوري، في حين أنه أقام الدنيا ولم يقعدها قبل عامين في “دافوس” لما أعلن على الملأ سخطه واستنكاره للجرائم الإسرائيلية في حرب غزة. ولهذا أخذت تنحاز تدريجيا إلى صف الشعب السوري، وتتخلّى عن سياسة الموازنة تجاه نظام الأسد عارضة أمامه لائحة من خمسة بنود ترى ضرورة تنفيذها كمدخل لأيّ حل للأزمة، رافضة في ذات الوقت أيّ خيار للتصعيد أو التدخل العسكري مثل الذي يجري في ليبيا. وتتمحور البنود الخمسة فيما يلي: 1 وقف العمليات العسكرية. 2 إعادة الأمن والاستقرار إلى المناطق التي تعرّضت لعمليات عسكرية وسحب القوات العسكرية منها. 3 الاستماع إلى المعارضة. 4 إعلان جدول رسمي للإصلاحات التي أعلن عنها الأسد. 5 تطبيق القوانين المدنية أي تطبيق قرار رفع حالة حالة الطوارئ. ولم تتوقف تركيا عند هذه اللائحة، بل هدّدت بتصعيد الضغوط على النظام السوري، وأرسلت وفدا رفيع المستوى إلى دمشق لحث الأسد على الإصلاح، وعَقَدَ مجلس الأمن التركي اجتماعا في أنقرة لبحث الأزمة السورية، ودعا لوضع نهاية الأعمال العنف. واحتضنت تركيا اجتماعا للمعارضة السورية، وفتحت إعلامها أمام أشد أعداء نظام الأسد. وقد نتفهّم الحرص التركي على حل الأزمة السورية وضغطها على الأسد، انطلاقا من حرصها على تجنب تداعيات هذه الأزمة التي بدأت تمتد إليها من خلال موجات النازحين الذين يفوق عددهم العشرة آلاف، والذي سيشكل استمرار تدفقهم على أراضيها مشكلة حقيقية قد يصعب حلّها أوتسييرها. تركيا...حمل وديع أم ثعلب ماكر؟ يشير العديد من المراقبين السياسيين إلى أنه من الظلم والجور مقارنة الموقف التركي بمواقف الدول الغربية، وخاصة المنضوية تحت جناح حلف “الناتو”، والتي تحصر نظرتها للأزمات العربية من خلال مصالحها الضيقة. فتركيا كما يقول هؤلاء، لا تتعامل مع الأحداث العربية بسطحية، أو من خلال مصالحها وبمنطق الربح والخسارة، بل تنظر إليها بعمق ومن خلال تفاعلاتها الداخلية الطائفية والعرقية والقومية، لأنها خبيرة بهذه المشاكل التي عانت منها وبتبعاتها وتجاوزتها بحكمة وعزيمة كبيرين، وأيضا لأنها تعتبر نفسها قريبة من العالم العربي بموقعها، وبدين الإسلام الذي يربط شعبها بالشعوب العربية التي يتمنّى الكثير منها أن تتبنّى أنظمتها المستقبلية النموذج التركي في بناء ديمقراطيات متطورة تزاوج بين الإسلام والعصرنة. إن تركيا كما يضيف هؤلاء المراقبين وإن أساء البعض الظن بها، فهي مأمونة الجانب، ومساعيها لحل الأزمات العربية صادقة ولا تخفي أغراضا مبيّتة، غير حرصها الكبير على دعم الشعوب المطالبة بالتغيير والحرية ووقف إراقة الدماء والحفاظ على الوحدة الترابية والشعبية للبلاد العربية، ومعارضة التدخل الأجنبي تحت أيّ مبرر أو ذريعة، والتمسك بأن يجري التغيير وفق أجندات محلية صرفة، وليس وفق ما يريده الغرب الذي تحمّله أنقرة المسؤولية عن ترسيخ وحماية واستمرارية أنظمة ديكتاتورية في جلّ البلدان العربية من خلال معاداته للتداول السلمي على السلطة وإجهاضه لكل استحقاق وإن كان حرّا ونزيها يفضي إلى فوز إسلاميين، والمثال نراه واضحا في فوز “حماس” بشتريعيات 2006، حيث أُجهضت حكومتها وعاقبتها إسرائيل بحرب خلّفت أكثر من ألف وأربعمائة شهيد. وبعيدا عن النّياشين التي يلقيها هؤلاء المراقبين على نزاهة الموقف التركي من القضايا العربية، هناك من يشكّك في الدور التركي، ويعتبره نابع عن تطبيق حزب العدالة والتنمية للسياسة الأمريكية في إطار ما يسمى بمشروع الشرق الأوسط الجديد، وأيضا حرصه على عدم إغضاب أوروبا أو مناقضة ومعارضة مواقفها، حتى لا يضعف حظوظ تركيا في دخول الاتحاد الأوروبي، الذي مازال يصدّها ويغلق أبوابه في وجهها. وهناك من يذهب بعيدا ليجزم بأن تركيا وإيران تشكّلان عملة واحدة، وهما تسعيان وراء مصالحهما القومية لا أكثر ولا أقل.