كثيرة هي تصريحات المسؤولين الأمريكان، التي أكّدت عكس الواقع على استمرار العلاقات المميزة مع حليفتها باكستان، الشريك الرئيسي في الحرب على الإرهاب، سواء في أفغانستان أو باكستان ذاتها، إذ تحت ضغوط الإدارة الأمريكية وضمن بند المساعدات، قدمت إسلام آباد التنازل تلو التنازل في ظل صمت الطبقة السياسية، لتدخل بذلك مع القوات الأمريكية والدولية لمواجهة طالبان أفغانستان، التي عادت مع ثبوتها في الميدان بأقوى ممّا كانت عليه، وتغوص بذلك في مستنقع لم تستطع الولاياتالمتحدة إليه سبيل منذ عقد. رفع الغطاء عن طالبان أدخل البلاد في متاهات إنّ الوضعية التي توجد عليها باكستان اليوم لم تكن محسوبة بدقة، إذ أن تقسيم المجتمع والاقتتال الذي يكاد يفتت البلاد يهدّد بقوة مستقبلها، فالخسائر المادية والبشرية عسكرية كانت أو مدنية لا يمكن تعويضها، سواء من حيث سمعة الجيش وإتلاف النسيج الإجتماعي، وتشريد مئات الآلاف من المدنيين الأبرياء، وتدمير البنية التحتية، أو العجز المالي والاقتصادي لا يمكن تعويضه بالمساعدات التي تقدّمها واشنطن بقيمة ملياري دولار سنويا خلال السنوات العشر الماضية. ومنذ العملية التي استهدفت تصفية أسامة بن لادن زعيم القاعدة، تكشّفت حقيقة العلاقات الأمريكيةالباكستانية القائمة على الشك ومنطق القوّة، بحيث تحوّلت الأخيرة إلى دولة شبه مستعمرة، رغم أنها دولة كبرى تنتمي إلى عالم القوى النووية. وفي سابقة خطيرة لمثل هذه الدول الممتلكة للسلاح النووي، وأمام ضعف سياسييها وانتشار الفساد، وعدم تمكّنها من التحكم في أوضاعها الداخلية، أصبحت منظومتها للرّدع النووي محلّ رقابة شديدة من واشنطن التي وضعتها نصب عينيها، تنتظر فرصة الاستيلاء عليها في أيّة لحظة بدعوى الخوف من سقوطها في تنظيم القاعدة أو حركة طالبان. فمنذ الهجوم الكارثي على المسجد الأحمر، ورفع الغطاء السياسي عن حركة طالبان، وفتح المجال للمواجهة العسكرية في إطار الحلّ الأمني استجابة لرغبة الإدارة الأمريكية، دخلت باكستان في نفق مظلم، دفعت ثمنه غاليا. ورغم الضربات الموجعة التي وجّهها الجيش لحركة طالبان، خاصة بالمناطق الحدودية مع أفغانستان، فإن هذه الأخيرة نجحت بدورها في توجيه ضربات نوعية مؤلمة، لم تقتصر على إلحاق الضرر بقوات الجيش وقوى الأمن فقط، وإنما امتدّت إلى ثكنات أجهزة المخابرات أيضا، حيث تم اختراق العديد منها بفضل عمليات انتحارية ناجحة، أدت إلى تدمير العديد منها مع سقوط العشرات من القتلى خلالها. تصفية بن لادن فتح ثغرة في العلاقات الأمريكيةالباكستانية والواقع أن عملية تصفية أسامة بن لادن الغادرة لرجل قد وهنت قواه، لم يكن يحمل سلاحا، من قِبَل قوات أمريكية خاصة كانت قادرة على اعتقاله وتقديمه للمحاكمة، في الثاني من ماي الماضي في مدينة ايت باد بشمال غرب باكستان، التي كان يتابعها الرئيس أوباما وكبار مسؤوليه في الإدارة والجيش الأمريكي، مباشرة عبر الشاشة، قد شابها الكثير من الغموض، ولا يمكن بالتالي إخفاء عواقبها، ممّا أدى للشكّ في حقيقة تعاون قيادة الجيش والاستخبارات الباكستانية مع واشنطن، وما تبعها من اعتقال عدة باكستانيين بتهمة التجسس لصالح المخابرات المركزية الأمريكية، ممّا زاد من تعكير جوّ هذه العلاقات. لقد أحرجت كثيرا القيادة في إسلام آباد سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، وصاحبها تبادل للاتهامات بين الطرفين، عقب تصفية بن لادن، التي تعدّ في الواقع عملية إعدام بدون محاكمة، وانتهاك للسيادة الباكستانية. وتجاهلت بذلك واشنطن شريكها الرئيسي في محاربة الإرهاب، الذي فقد ثقتها. ولم تتردد الكثير من الدوائر الأمريكية في توجيه النقد والتهم علنا إلى باكستان، باعتبارها أخفت أمر بن لادن، ولم تقم بقتله أو تسليمه إلى الإدارة الأمريكية، الأمر الذي عزّز الشّكوك في الولاياتالمتحدة، بأن عناصر في المؤسسة الأمنية لباكستان ربما كانت وراء المساعدة في إخفائه. طالبان تصعّد هجماتها وأوباما يستعد لفترة رئاسية ثانية وفي ظل سيل الاتهامات المتبادلة هذه، دفعت باكستان على الصعيد الميداني ثمنا غاليا لمقتل بن بلادن، مقابل تسجيل الرئيس الأمريكي باراك أوباما نصرا معتبرا، يأمل من خلاله ضمان عهدة رئاسية ثانية. وسجلت ضمن هذا السياق عمليات متصاعدة قامت بها حركة طالبان باكستان، خلفت خسائر بشرية ومادية هامة من خلال إختراق المراكز الأمنية وتنفيذ العمليات الإنتحارية. الصراع الطائفي صورة أخرى للأزمة وفي هذا المناخ، زاد تدهور الوضع الأمني سوءا بفعل الصراع الطائفي المسلح، آخره ما حدث يوم الجمعة الماضي في مدينة كراتشي الساحلية عاصمة إقليم السند التي يقطنها 18 مليون نسمة حيث دعمت بألف عنصر من الجنود وحرس الحدود، وأعطيت لها التعليمات بإطلاق النار على من يثبت تورّطه في أعمال العنف التي خلّفت مؤخرا مقتل 70 شخصا خلال 3 أيام، علما بأن 490 شخصا قتلوا خلال الأشهر الستة الماضية مقابل 272 آخرين في عام 2009، مما يجعل النصف الأول من السنة الجارية الأكثر دموية بالنسبة لمدينة كراتشي خلال السنوات ال16 الماضية. ورغم هذا الوضع الأمني المتردي، الذي أكد بخصوصه »كامرون مونتر« السفير الأمريكي في إسلام آباد، بأن الاضطرابات بباكستان تثير القلق، فإن الإدارة الأمريكية، إستمرت في الضغط على الحكومة في إسلام آباد، مطالبة بمزيد من الجهد في محاربة الإرهاب ومواجهة طالبان باكستانوأفغانستان على السواء، وكأنها لا تدرك حقيقة ما آل إليه الوضع الداخلي، الذي ينذر بإضعاف البلاد أكثر فأكثر. غارات الطائرات بدون طيار.. تنديد شعبي ورفض حكومي وفي صورة أخرى، كشفت قبلها تدهور العلاقات الأمريكيةالباكستانية، التصعيد الأمريكي في استخدام الطائرات بدون طيار منذ العملية الانتحارية التي استهدفت عناصر المخابرات الأمريكيةبأفغانستان، إذ جاء الردّ سريعا بتكثيف عمليات استهداف العناصر المسلحة التابعة لطالبان باكستان، والتي كثيرا ما يسقط فيها المدنيين الأبرياء، ما فيها الأطفال والنساء والشيوخ، مما وسّع من دائرة الرفض الشعبي، وجعل السلطات في إسلام آباد تطالب بإغلاق القواعد التي تستخدمها وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية في شنّ الهجمات بطائرات بدون طيار، الأمر الذي رفضته الإدارة الأمريكية بشدّة، مؤكدة إلتزامها بمواصلة الغارات، مع البقاء بمطار قاعدة شمس في إقليم بولشستان. وتعدّ مسألة إستعادة مطار شمس أمر ذا حساسية للسلطات الباكستانية، باعتباره أمرا ذا سيادة، فيما تتمسك به القوات الأمريكية، نظرا لأهميته في الإغارة على الأهداف الباكستانية القريبة من الحدود مع أفغانستان، مما يتيح لها مواصلة الضغط على مسلحي تنظيم القاعدة وحركة طالبان وتقوم بذلك رغم أنف الحكومة الباكستانية وكأنها فقدت السيطرة على البلاد، وكذا رغم تصاعد الاحتجاجات الشعبية والشخصيات القبلية والسياسية والأحزاب، التي تندد جميعا بالتدخل الأجنبي، وتطالب بوقف الغارات الوحشية على مناطق القبائل، وكذا قطع خطوط الإمدادات للقوات الأمريكية وقوات إيساف المارة بباكستان في اتجاه أفغانستان. في اتجاه أفغانستان باكستان تطالب أمريكا بمكان الظواهري وواشنطن تتهمها بتقديم معلومات للمسلحين وفي إطار الرد على الاتهامات الأمريكية بعدم التعاون مع الاستخبارات وإفشاء المعلومات طالبت باكستان يوم الأحد الولاياتالمتحدة باطلاعها على مالديها من معلومات عن اختباء أيمن الظواهري الزعيم الجديد لتنظيم القاعدة، ويأتي هذا الطلب ردا على إعلان ليون بانيتا وزير الدفاع الأمريكي الجديد بأن الظواهري مختبىء في المنطقة القبلية الباكستانية على الحدود مع أفغانستان، حيث دعا بهذا الخصوص الحكومة في إسلام أباد إلى وضعه ضمن قائمة أهدافها، في حين قال المتحدث باسم الجيش الباكستاني: نتوقع أن تطلعنا مؤسسة الاستخبارات الأمريكية على مالديها من معلومات تتعلق بالظواهري وغيره من أبرز المطلوبين بما يساعد الجيش الباكستاني في تنفيذ عمليات موجهة. وكان بنيتا وزير الدفاع الأمريكي قد واجه حسب وسائل إعلام أمريكية باكستان بأدلة تؤكد أن مسلحين أخلو مصانع لاعداد القنابل في وزيرستان بعدما تبادلت واشنطن وإسلام أباد معلومات بهذا الخصوص. الأمر الذي يعني ضمنيا إتهام هذه الأخيرة بتبليغ هذه المعلومات للمسلحين ويحمل وزير الدفاع الأمريكي الجديد طموحات جادة. إذ يعتقد أن الهزيمة الاستراتيجية لتنظيم القاعدة ممكنة إذا ما تمكنت بلاده من قتل أو إعتقال حوالي 20 قائدا متبقيا في قلب التنظيم والمنتمين إليه، ولكنه رفض الافصاح عن أسماء هؤلاء باستثناء اثنين وهما أيمن الظواهري وأنور العولقي، غير أنه أشار إلى أن هؤلاء القياديون موزعون بين باكستان واليمن والصومال والقاعدة ببلاد المغرب الاسلامي في شمال افريقيا. ولعل الآمال التي يعلقها ليول بانيتا الذي كان مديرا لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ينبع من إعتقاده وخبرته هذه في إلحاق هزيمة استراتيجية بالقاعدة والتي أصبحت في متناول اليد حسبه وذلك بالتركيز على العمل بوضوح مع وكالته الاستخبارية السابقة. وقال بخصوص العمل المطلوب ضد الظواهري بأنه يعيش في المناطق القبلية بباكستان. ونود أن نراه على قائمة الأهداف الباكستانية. التعليق الجزئي للمساعدات العسكرية الأمريكية للضغط على إسلام أباد لكل هذه الأهداف وغيرها قررت الادارة الأمريكية فرض المزيد من الصرامة وتقليص الوقت للتخلص نهائيا من عقدة تنظيم القاعدة وحركة طالبان بشقيها في باكستانوأفغانستان وهي من دون شك تعتقد بأن أقصر طريق لتحقيق ذلك يكمن في الضغط المادي على الحكومة في إسلام أباد التي تعاني أصلا من عجز مالي، وذلك بتعليق جزئي لمساعداتها المالية والمعدات بقيمة 800 مليون دولار للجيش الباكستاني عقابا على طرد إسلام اباد لمائة مدرب أمريكي خلال الأسابيع الأخيرة إذ كانوا يعملون ضمن برنامج تقوم بموجبه الولاياتالمتحدة بتدريب القوات الباكستانية شبه العسكرية. ومن جهتها هددت اسلام اباد بإغلاق القاعدة التي تستخدمها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية لشن غارات بطائرات بدون طيار على المسلحين بالمناطق الحدودية مع أفغانستان. ويبقى القول أن اسقاط باكستان كاملا في الشرك الأمريكي ليس بالأمر السهل لأن باكستان قوة نووية، وهي تتحكم في طرق التموين الحيوية لأفغانستان وأن أي حل للاقتتال الدائر بالمنطقة وضمان انسحاب آمن للقوات الأمريكية وحليفاتها لا يمكن أن يتم بمعزل عن باكستان، التي تبقى محورا اساسيا للضغط على المسلحين ومن ضمتهم في سياق الاستراتيجية الامريكية المرتكزة على محاربة الارهاب والبقاء بالتالي ضمن اللعبة الموقدة التي فرضتها على المنطقة والتي يدفع ثمنها غاليا من دماء المدنيين الابرياء. كما أن الحل العسكري الامريكي المفروض منذ 10 سنوات أثبت عدم جدواه، ولأن الاعتقاد بأن تنظيم القاعدة محكوم بالقضاء على 20 قائدا من تنظيم القاعدة قد لا يجد تطبيقه على أرض الواقع، وحتى في حالة تحقيقه، فإن هناك آخرين سيتولون المهمة طالما استمرت ممارسات الهيمنة الغربية على الآخرين. علاوة على أن حركة طالبان تعرف المزيد من القوة كل يوم، وآخرها قتل أخ حامد كرازاي رئيس أفغانستان والذي كان من أقوى الشخصيات في هذا البلد، مما يعطي المزيد من الأمل والقوة لتفرعاتها بباكستان.