تتزاحم الأحداث في الوطن العربي وتتلاحق تطوّراتها ومستجدّاتها، حتى أصبحنا عاجزين عن فهم كُنْهها أو إدراك خبايا هذا الزلزال الذي يهزّ عروش بعض الأنظمة التي خرّ بعضها صريعا مستسلما في رمشة عين، ويتشبّت البعض الآخر بالسلطة لمختار المجابهة بالقوة والتلويح بشعار: “عليّ وعلى أعدائي”. أي دور للفضائيات لتأجيج الأوضاع العربية..؟ بكل صدق لم أعد أستوعب ما يجري في سوريا وليبيا واليمن، ولا حتى في تونس ومصر رغم ما يقال من نجاح ثورتيهما، ولم أعد قادرة على تحديد موقف أو تحليل وضع، فالحابل اختلط بالنّابل. ومازاد من تعقيد الأوضاع وغموض الصورة والرؤية معا، هي تلك الفضائيات التي نزعت عنها ثوب المهنية والحياد، ودخلت الحلبة طرفا مؤجّجا للاضطرابات، حيث تُقدّم الأخبار التي تَخدِم وجهة نظرها وأهدافها، وتفرض التعتيم على كل ما يتعارض مع هذه الأهداف، إنّها تفتح نشراتها ليل نهار للمتدخلين الذين تنتقيهم ليقولوا ما تشتهي سماعه، وتقصي كل صوت يعارض ما تسعى لترويجه، وتعمل دون كلل أو ملل على صبّ الزيت على النيران المشتعلة في البلاد العربية. وتصعّد ولا تهدّىء، كما تسخّر كل إمكانياتها لسدّ منافذ الحلول السلمية والدفع بدل ذلك نحو التصعيد والتدويل، ممّا أصبح يبعث فينا الشك حول أهداف هذه الفضائيات، ويجعلنا نطرح علامات استفهام كثيرة عن مقاصدها وعن الجهات التي تقف وراءها وتحركها كالبيادق لتحولّها إلى معاول لتهديم الأنظمة العربية التي نقرّ جميعا بأنها هرمت وتآكلت وفقدت صلاحيتها، وأصبح رحيلها حاجة ملحّة لا جدال حولها..! من هم الجرذان..؟ رغم مرور نصف عام كامل على اندلاع الأزمة الليبية التي تحوّلت إلى حرب أهلية، أجّجها التدخل العسكري الأجنبي، فإنّ نظام القذافي مازال صامدا رافضا رفع راية الاستسلام والهزيمة. وفي المقابل مازالت المعارضة رغم الغطاء العسكري الجوي الذي تتلقّاه من الناتو عاجزة عن تحقيق النصر الذي كانت تعتقده في مرمى اليد لمّا قرّرت في منتصف فيفري الماضي الاقتداء بالشعبين التونسي والمصري للتخلص من الزعيم الذي غرس جذوره في باب العزيزية. لقد تأثّر المتمرّدون الليبيون بانتصار “الثورتين” المصرية والتونسية في الإطاحة بالديناصور مبارك وبن علي، واعتقدوا بأنها الفرصة التي لا يمكن أن تتكرّر للانقضاض على نظام القذافي، فأعلنوا حركتهم في 17 فيفري الماضي دون تخطيط أو ترتيب وبحماس مبالغ فيه. وبدا جليّا منذ البداية بأن هذه المهمة تتجاوز إمكانياتهم وقدراتهم، وتتجاهل قدرات خصمهم. ومع أول حركة تلقّوا صفحة قوية من القذافي الذي قالها صراحة بأنه ليس الرئيس التونسي ليفرّ ولا المصري ليتنحّى ولا حتى رئيسا ليستقيل، وفرض عليه المواجهة العسكرية قصد إبادتهم كالجرذان كما سمّاهم. ووجد هؤلاء المتمرّدين أنفسهم في مأزق حقيقي لا هم قادرين على العودة إلى الوراء، ولا باستطاعتهم الانتصار على خصمهم الذي بدا أقوى وأكثر شعبية ممّا كانوا يعتقدون. وفي الوقت الذي بدأوا يعضّون فيه أصابعهم ندما على المأزق الذي وضعوا أنفسهم فيه، جاءهم المدد من الذين يقفون وراء الأحداث التي تهزّ الوطن العربي ويحرّكونها عبر “الفايس بوك” و«اليوتوب” و«التويتر”، فانتفضت أوروبا وفي مقدّمتها فرنسا وتحرّكت بعض البلدان العربية التي لها حساباتها الخاصة لتُصفّيها مع القذافي قصد تدويل الأزمة الليبية، وتحوّلت قضية الإطاحة بالقذافي إلى قضية العالم أجمع وليس قضية المتمرّدين فقط، الذين استعادوا أنفاسهم وثقتهم بعد يأس وبأس، واستحلوا “الثورة بالوكالة” التي تبنّاها بدلا عنهم حلف شمال الأطلسي، لكن دوام الحال من المحال، حيث خاب ظن الناتو بعد أن عجز عن تصفية القذافي والإطاحة بنظامه رغم أطنان القنابل والصواريخ التي أمطره بها. وبدأ الأعضاء المشاركون في العملية العسكرية ضد ليبيا يسحبون أنفسهم، ويتملّصون من إكمال المهمة المكلّفة ماديا، وهم الذين يغرقون في أزمات مالية بدأت تشعل النيران داخل بيوتهم مثلما حصل في لندن من احتجاجات وأعمال عنف دموية... ومع الفتور الذي بدأ الغرب يُبديه تجاه الأزمة الليبية، والانقسامات التي أصبحت تنسف صفوفها، وجدت المعارضة نفسها في كرّ وفرّ مع القذافي الذي يوجد هو الآخر في وضع لا يحسد عليه، ومصيره مشؤوم بدون أدنى شك وهو يسعى لإطالة الأزمة، ومن خلالها لإطاله عمره وعمره أبنائه لا أكثر ولا أقل. وفي خضّم هذه الصورة القاتمة، مازال الإعلام العربي يصبّ الزيت على النار، ويصرّ على تأجيج الخيار العسكري رغم أن الحل السلمي وتسوية الأزمة وتقليص خسائرها المادية والبشرية مقدور عليه، خاصة وأن هنالك مبادرات قدّمها الاتحاد الإفريقي، ويمكن أن ترضي جميع الأطراف وتكفي الشعب الليبي شرّ هذه المصيبة التي ألمّت به. صالح...هل يعود..؟ اليمن هو الآخر مازال يعيش أطوار أزمته المستمرة منذ بداية العام، وذلك في ظل تعنّت كل الأطراف وتمسّكها بمواقفها، فالرئيس صالح لا يبدو مكترثا بمحاولة الاغتيال التي كادت تقضي عليه وتركته محروقا مشوّها فاقدا لملامحه الحسنة، وها هو يؤكد من العاصمة السعودية الرياض حيث يعالج، بأنه عائد لا محالة لمّا يُشفى، أمّا المعارضة فهي تصرّ على غلق كل أبواب اليمن في وجهه، بل وتطالب بمحاكمته أسوة بالرئيس المصري المخلوع. وبين الموقفين تتواصل في الميدان المواجهة المسلّحة بين قوات الطرفين، ويدفع الشعب اليمني المغلوب على أمره الثمن غاليا دون أن يدري متى ستعود الأوضاع لطبيعتها في هذه الدولة العربية، التي تعيش حالة الفقر والعوز المزمنين على مقربة من دول تعيش في رفاهية ورغد كبيرين. ورغم أن على عبد اللّه صالح الذي خرج من المشفى ويمضي فترة تفاهة بالرياض، يتمسك بكرسيه المغروس به منذ ثلاثة عقود، فإنّني أتوقّع بأن خروجه إلى السعودية مرغما للعلاج سيكون مثل خروج بن علي من تونس هاربا، أي أنّ احتمالات عودته ضعيفة، وقد يضطر إلى التوقيع على المبادرة الخليجية التي رفض المصادقة عليها في ثلاث مناسبات، رغم أنها تمدّه وعائلته بقارب النجاة وتحصّنهم من أيّة متابعة قضائية. ومن المرجّح أن يرفع صالح الذي شهد الموت بأمّ أعينه راية الاستسلام، ويلتحق بنظيره التونسي الهارب في منفاه بالسعودية. ولا يمكنني أن أتصوّر الخيار البديل، فعودة صالح إلى اليمن ستغرق الشعب اليمني في دمائه، والرابح هناك سيكون خاسرا بكل تأكيد. لهذا يجب التعقّل وتغليب المصلحة العليا للوطن والشعب، والمبادرة إلى نقل السلطة سلميا كما تقتضيه الأعراف الديمقراطية الحقّة. سوريا..الطريق الوعر مثلما حصل للقذافي، فإن الرئيس السوري بشار الأسد لم يكن هو الآخر يتوقع مطلقا بأن تصل النار إلى بيته، ومثله تماما أعتقد بأنه قادر على إخمادها وبأن سياسة القبضة الحديدية والحسم الأمني كفيلان بجعل الأزمة تمرّ مرور الكرام دون أن تعمّر طويلا، كما ظنّ بأنّ تقديم بعض التنازلات هو كل ما يريده المنتفضون، وغاب عنه بأن الذي يمرّ بالوطن العربي يتجاوز مطلب الإصلاح وإقرار الديمقراطية ليصل إلى المطالبة برحيل الأنظمة التي لا تبرح كراسيها إلاّ إلى اللحد، وبعد أن تورّثها لأنجالها. لقد غاب عن الأسد بأن المنتفضين من شعبه، والذين دخلوا على الخط للاستثمار في انتفاضتهم قصد تصفية حساباتهم مع سوريا، التي يعتبرونها حليفة لما يسمّونه بالشيطان الفارسي، لا يريدون غير رأس النظام فأعتقد بأنه يحوز الامكانيات التي تمكّنه من تجاوز هذا الامتحان الصعب بأقل الخسائر، لكن الحسم الأمني لم يزد النار إلاّ التهابا، ومنح المتربّصين بسوريا الذريعة لجعل أنفسهم طرفا في الأزمة إلى جانب المعارضين، فأخذوا يهدّدون ويتوعّدون ويشدّدون الخناق على بشار. وكعادتها منذ جانفي الماضي وتنفيذا للمهمة التي أوكلت إليها، حرّكت الفضائيات العربية ترسانتها الإعلامية لتأجيج الوضع في سوريا وتأزيمه واللعب على أعصاب رئيسها الذي أدرك بأن الأزمة أكبر ممّا يتصور، فعمد إلى تقديم جملة من التنازلات غير المسبوقة، حيث أصدر في أفريل الماضي مرسوما يقضي بإنهاء حالة الطوارئ، وآخر ينص على إلغاء محكمة أمن الدولة، ومرسوما يقرّ بتنظيم حق التظاهر السلمي للمواطنين، وأقال مسؤولين أمنيين تلبية لمطالب المحتجين، وأطلق سراح جميع من اعتقلوا على خلفية المظاهرات، وأعطى مرسوما بتشكيل حكومة جديدة تقود إصلاحات حقيقية، ومنح الجنسية للأكراد، بعدما كانوا مسجّلين كأجانب، وعيّن وزيرا جديدا للدفاع، وتمّ الإعلان عن تشكيل لجنة لإعداد قانون جديد للانتخابات العامة. لقد قدّم الأسد العديد من التنازلات التي لم تكن تخطر على بال، لكنها لم تشفع له، وتواصلت الاضطرابات وكثرت أخطاء النظام الذي يبدو جليا بأنه وقع في المصيدة التي اقتيد إليها، وها هي سوريا تشتعل دون أن نرى طرفا محايدا نزيها يتدخل لإطفاء النار ودون أن نرى نهاية للنفق المظلم. ويبقى “الرّبيع” العربي مريعا وعملية تهديم الأنظمة العربية فوضوية ودموية.