إسقاط النظام الذي يحظر لسقوط الدول من العراق الساقط في العنف المذهبي الطائفي واستدامة الاحتلال، إلى الصومال الذي أعدمت فيه الدولة بلا رجعة، إلى ليبيا المقبلة على حرب أهلية تفجر منطقة المغرب العربي إذا حصل التدويل، مرورا بالديمقراطيات العشوائية التي يبحث لها عن مخارج في تونس ومصر، لا يراد لنا أن نلتقط أنفاسنا لمعرفة حقيقة ما يجري ومن يلعب بمن، ومن يريد إسقاط ماذا، وبأية أحجار أو طوب براد لنا أن نعيد بناء دولنا بعد أن تسقط الدول بعد الأنظمة. * لم يعد في أحداث ليبيا الدامية ما يحتاج إلى التحليل، لأن الإناء بما فيه قد طفح، وتكشفت مفردات الكارثة التي كانت متوقعة في سياق الفوضى الخلاقة التي تجوب رمال صحاري العالم العربي المتحركة بحبل من قيادات ونخب العرب المتهارشة على أحجار الإمارة، وحبل من امبراطورية الشر الأمريكية التي اكتسبت في عهد أوباما قدرات على الفتك أخطر من التي جربها جورج بوش الابن في العراق وأفغانستان. * هل كان ينبغي أن تفاجئنا أحداث تونس ومصر واليمن وعمان، أو نؤخذ على حين غرة بالحرب الأهلية التي نتابع فصولها الأولى في ليبيا، أم أن الواقع العربي المتآكل من الداخل والمستهدف من الخارج مند عقود كان يبعث بالرسالة تلو الأخرى محذرا بما نراه اليوم؟ *
* عندما "تشرق" الشمس من مغاربها * على المستوى الشخصي لم تفاجئني هذه الأحداث، ولا حتى هذا العبث الفظيع بالرأي العام العربي الذي تقوده الفضائيات الساقطة مهنيا. فقبل اندلاع أحداث تونس كتبت بتاريخ 10 / 12 / 2010 مقالا بعنوان "قبل خراب البصرة وضياع الشام بعد الأندلس"، "البحث عن تسوية تاريخية بين الشعوب العربية وحكامها" قدمت له بما يلي: "حين تكون سبل التغيير والإصلاح مغلقة ومعطلة كما هو الحال في العالم العربي، ويمتنع التغيير بالطرق السلمية، ويكون مكلفا بالطرق العنيفة وغير آمن، فلا بد أن تقتنع الشعوب بوجوب البحث عن تسوية تاريخية مع النخب الحاكمة، والاستفادة من هدنة طويلة الأمد ينبغي للنخب التي لم تسقط بعد أن تستثمرها في إنتاج فكر سياسي جديد، ومشروع نهضة عربية يعلم العقلاء أنها مستحيلة وممتنعة في ظل الكيانات القطرية" وقتئذ، لم يكن بن علي قد رحل، ولا كان مبارك قد تخلى، ولم تكن باب التغيير بالقوة العنيفة على بال أحد بالجماهيرية الليبية، لكن الوضع العربي كان مشحونا بنذر كثيرة لمن ألقى السمع وهو شهيد. * ولعله من المهم أن أذكر القارئ بما أضفته وقتها كتحذير مبكر مما سيأتي فكتبت: "في ظل هذه المعالجة الكيدية لواقع العالم العربي، يكون من قبيل الجناية على ما بقي من فرص النجاة استثارة الحمية عند الشعوب، ودعوتها إلى حراك غير محسوب ضد السلطة والأنظمة. فقد كانت الكلفة باهظة في جزائر التسعينيات، ورأينا كيف ينتقل الاحتجاج المشروع ضد الظلم والاستبداد إلى حراك مآله انفصال أجزاء من جغرافية الدول العربية، في العراق والسودان، واليمن، والصومال، سوف تصيب عدواه بقية الدول العربية". *
* رجفة المغاربة التي تتبعها الرادفات بالمشرق * لقد استعدت هذه المقتطفات الطويلة من المقالة التي نشرت شهرا ونصف شهر قبل ترحيل بن علي، وأكثر من شهرين قبل تخلي مبارك عن السلطة، واندلاع أحداث ليبيا. فقد جاءت الأحداث متسارعة في تونس لتؤكد ما كان عندي محض مخاوف من قراءة موضوعية للواقع العربي، ولأنني كنت مزودا بهذه الخلفية، فقد خرجت في أول مقال حول الأحداث في تونس تحت عنوان: "شعوب المغرب الكبير تحرك مياه برك العرب الراكدة" قدمت له كالتالي: "في الوقت الذي تتسارع فيه، من البحر إلى البحر، مسارات التفكيك المنهجي للعالم العربي، جاءت الرجفة الأولى من المغرب العربي الكبير، لتحرك مياه برك العرب الراكدة، في انتفاضات يائسة لشعوب، قد ترضى في الحد الأدنى باستبدال الأحصنة النافقة، في انتظار أن تتولى نخبها التي لم تسقط بعد في الفساد، تجديد عربات الحكم المعطلة، وصياغة بدائل تؤمن للأوطان السلامة، وللشعوب الشغل، وقوت اليوم، والحد الأدنى مكن الكرامة"، وقلت تحديدا: "الأحداث الخطيرة التي تعيشها معظم الدول العربية اليوم مع مطلع السنة الجديدة حبلى بمآلات مفتوحة على المجهول حتى بالنسبة للأطراف والقوى التي تعمدت ذلك التسارع المفاجئ في أكثر من إقليم، وكأنه يراد الوصول إلى تفجيرات متتابعة تؤدي غرضا ما زال غامضا". *
* تغييب العقل عند واجب التشخيص * هنا أيضا علي أن أذكر القارئ بالتشخيص الذي خرجت به في وقت مبكر فكتبت: "دعونا لا نخطئ في التشخيص، كما كنا نفعل دائما حيال أزمات العالم العربي، ونسلم بلا جدال بالتالي: * 1- أن العدوان الأمريكي على العراق واحتلاله، وتهيئته للتقسيم لم يكن حدثا معزولا، وسوء تقدير من قبل إدارة مجنونة، بل هو مقدمة لسياسة غربية أمريكية لوضع اليد على العالم العربي، وإخضاعه لعملية تفتيت وتفكيك منهجية، يوظف فيها هذا القصور المخيف عند النخب الحاكمة، والأوجاع التي بلغت مداها عند عموم الشعوب العربية. *
* 2- أن أنظمة الحكم اليوم في العالم العربي غير قادرة على إدارة هذه المواجهة، ومآلاتها، لا مع القوى الغربية التي تقود جهارا برنامج الأضعاف والهدم المنهجي لدولنا، قبل البدء في إعادة صياغة خريطة جغرافية سياسية جديدة، تتولد فيها دويلات كما يتولد الفطر في الدمن، ولا مع شعوبها التي تتحرك اليوم بلا قيادات تؤطر حراكها وتؤمنه من الانفلات العدمي. *
* 3- أن الشعوب العربية هي اليوم بلا قيادة حقيقية رغم هذا العدد الكبير من الأحزاب التي تولدت في المسارات التعددية الساقطة، وأن من يدعوها اليوم إلى الثوران وإسقاط الأنظمة خارج أي مشروع بديل يستبدل العربات الراشية مع الأحصنة النافقة، إما هو جزء من اللعبة الكبرى التي تديرها القوى الظلامية الأمريكية كما وصفها الزعيم الدرزي اللبناني، أو أن ما لحق بها من إقصاء وتهميش قد أعمى بصيرته، حتى أنه لم يعد يحلم بأكثر من إسقاط النظم التي حرمته من المشاركة في الريع. *
* 4- أن أنظمة الحكم في العالم العربي باتت تتعامل مع شعوبها ومع القوى المنافسة لها بمنطق "علي وعلى أعدائي" ولتسقط الدويلات العربية بأيدي السادة من الغرب، أو بأيدي وكلاء جدد لهم، على أن تؤول إلى قوى أهلية ممثلة للشعوب، تماما كما كان خيار الرئيس الراحل صدام الحسين، واليوم مع عمر البشير، والحريري، وعلي صالح وحسني مبارك. *
* 5- أن نسلم بأن هؤلاء السادة ليسوا فاسدين بالضرورة، ولا أنهم كلهم موصوفين بالجهل والقصور، فليس العيب في الأحصنة، بل في العربات التي اختاروها، وفي الدروب التي سلكوها، حتى أني أكاد أجزم أنه لو كتب لنا اليوم استبدال حكامنا بأشرف الناس وأتقاهم، وأكثرهم وطنية وغيرة على سيادة الأوطان وسمعة الأمة، وأبقينا على هذه العربات الراشية المعطلة، لكنا وصلنا إلى ما أوصلنا إليه علي صالح ، والبشير، ومبارك، وبن علي، والحريري. *
* قابلية الشعوب للاستدمار الذاتي * لقد كنت طوال الشهرين الماضيين أقاوم على جبهتين: فعلى المستوى الشخصي لم يكن من السهل الخروج عن ذلك الإجماع التام في الرأي العام العربي الذي وقف بجميع أطيافه الفكرية والسياسية والدينية، وقد تبنى الأحداث على أنها ثورة تحريرية عربية تعد بالإنعتاق وبسقوط النظام العربي الرسمي، وبانفتاح آفاق تغيير حقيقية لصالح الشعوب. وعلى مستوى العلاقة مع القراء، وجدت صعوبة كبيرة في إقناع الكثير منهم على الأقل بواجب النظر إلى احتمال آخر يكون فيه هذا الحراك الذي يشهده العالم العربي بفعل فاعل، أو أكثر من فاعل ينبغي علينا رصد مفرداته حتى لا نستفيق غدا ونحن في حالة إحباط غير مسبوقة بعد أن تتكشف لنا الخدعة. * مجددا أعتذر للقارئ على هذا الاسترسال المطول لأني أردت أن ألفت انتباهه إلى أن ما يحدث لم يأت من عدم، وأن الساحة العربية كانت مهيأة لواحد من المآلين: اندفاع نحو التغيير والإصلاح بالطرق الآمنة، أو الثوران المفتوح القابل للعبث والركوب. ولأن شروط قيام مسار إصلاحي آمن كانت غائبة، مع إصرار النظم على غيها وخياراتها الإقصائية، وتقاعس النخب السياسية والفكرية عن تصور وإنتاج فكر بديل، والتعويل على رغبة الشعوب الصادقة والحقيقية في التغيير والإصلاح، لأن هذه الشروط كانت غائبة فإننا صرنا إلى مآل الثورات المنفلتة التي وضعت العربة قبل الأحصنة، ونراها تندفع خلف شعار "إسقاط النظام" بل وفي الحالة الليبية إسقاط الدولة بالقوة المسلحة التي تضع اليوم ليبيا على مشارف حرب أهلية * مدمرة. *
* فقه ولاية شباب الفيس بوك * تدافع الأحداث ما زال يمنعنا من استشراف اليوم التالي، والوقوف عند الأهداف التي خطط لها اللاعب الكبير، حتى لا أقول اللاعب الأوحد، ومع ذلك فإني أقامر باستشراف سبعة عناوين تحتاج جميعها إلى تفصيل سوف أعود إليه لاحقا، ويراد لنا نقبل بها كمسلمات لا تقبل النقاش: * 1- أن جيل الشباب المتفتح على الغرب وتقنيته وثقافته هو الذي استطاع أن يحقق في أيام معدودات الثورة التي لهثت وراءها أجيال من كهول العرب كانت منغلقة على ثقافتها التقليدية ومفرداتها البالية الإسلامية والقومية والوطنية، بما يعني وجوب الإقلاع عن هذه الخلفية الثقافية التي لم تكن فقط سببا في التخلف، بل سببا في تأخر التغيير واستحالته أو هكذا يراد لنا أن ننظر لقوى التغيير في المستقبل. * 2- شعار "إسقاط النظام" في دول "النظام فيها هو الدولة" يعني في النهاية إسقاط الدول وعقدها الاجتماعي، لإعادة تشكيل العقد الاجتماعي بمفردات تخضع للنتيجة الأولى أي بمفردات الجيل المتفتح على الثقافة الغربية (انظر إلى طلبات شباب ميدان التحرير) لا وجود فيها لمطلب قومي واحد، وتدور جميعها حول حقوق الفرد، وليس حقوق الأمة وواجباتها، أو التفكير في أدوارها الإقليمية. * 3 - "الرحيل" شعار تفجيري خطير، لأنه متنقل يتسع أفقيا وعموديا، ليس رحيل رأس النظام، بل رحيل رؤوس ورموز النظام في جميع مستويات المسؤولية بمؤسسات الدولة السياسية والأمنية والإدارية والاقتصادية: بما يفتح المجال للفوضى ويخرب الدولة. * 4- الاستهداف المبكر لأجهزة الأمن والشرطة كمؤسسة، بقدر ما كان له دور في تسريع نجاح التغيير، يمنع أو يصرف النظر عن الجهة التي شجعت ودربت وسلحت الأجهزة الأمنية ووظفتها لقمع الشعوب، وأعني القوى الغربية، والأخطر من ذلك خلق كراهية عند المواطنين تجاه أجهزة الأمن، تمنع الشرطة من العودة إلى أداء وظائفها الأمنية الاعتيادية، بكل ما يعني ذلك من خطر إضعاف الدول في الدفاع عن نفسها، حتى أن الديمقراطيات التي سوف تنشأ تكون تحت الضغط الدائم، دائمة الخوف من أتفه الاحتجاجات والحركات التي تحرك ضدها غدا بسهولة، بما يجعلها أكثر طواعية من الأنظمة العميلة التي أطيح بها. * 5- إعادة تأهيل المؤسسة العسكرية في مخيلة الإنسان العربي الذي كانت جيوشه قد سقطت في نظره مع الانتكاسات المتكررة في المواجهة مع إسرائيل ومع أمريكا من جهة، ولكونها كانت حتى الساعة منتجة للسلطة الفاسدة، وشريكا في الفساد، إعادة تأهيلها يشفع لها ما تقدم وما تأخر من التقاعس في الدفاع عن القضايا العربية، ويعاد إنتاجها كقوة محمودة، بل حامية لثورات وتطلعات الشعوب التي سوف تتردد حكوماتها المنتخبة في الخوض في قضاياها الداخلية، أو البخل عليها عند تحديد الميزانيات، وهي في كثير من الدول تأخذ ثلث الميزانية التي تذهب لشراء الخردة الغربية. * 6- إضعاف القوى التقليدية التي تحملها هذه الثورات مسؤولية الفشل في إدارة التغيير، سوف يطال تحديدا القوى الإسلامية والقومية، ويدفع بالأصوات المعادية للولايات المتحدة إلى التراجع، وخفض الجناح، وإنتاج خطاب سياسي مهادن للغرب، ويتعامل مع الملف الصهيوني على طريقة التركي أردوغان. * 7- إعادة الكلمة الأولى للشعوب في هذه الديمقراطيات التي تؤسس حالة من "ولاية الشباب" في وجه "ولاية الكهول" سوف تضعف في حسابات كتاب هذا السيناريو القوى الدينية والقومية المتطرفة، لكي يتحقق واحد من الأهداف الاستراتيجية الكبرى للإدارة الأمريكية والغرب، لم تتحقق لا بالحروب المباشرة، ولا بالحرب على ما يسمى بالإرهاب. فقد انتقل الغرب من الاعتقاد الذي كان يرى في البؤس دمنة لتفريخ الإرهاب، إلى الاعتقاد الذي يرى اليوم في الاستبداد دمنة للتطرف والإرهاب والعداء للحضارة الغربية. *
* الطريق إلى تطبيع العرب مع قيم الغرب * بهذه الحصيلة إذا ما تحققت ولو جزئيا، فإن الإدارة الأمريكية الحالية قد ضمنت عهدة ثانية، لتستكمل دمقرطة العالم العربي، وتحويله إلى كيان حليف وصديق، يساق بسهولة إلى سلام مع إسرائيل، لا يتوقف عند ما توقفت عنده كامب دافيد ووادي عربة، بل إلى القبول باندماج كامل لإسرائيل في الإقليم العربي، لأنه يكون وقتها من السهل حل مشكلة اللاجئين والأرض، وربما حتى القدس، إذا بقي وقتها من العرب من يلتفت أصلا لقضية اللاجئين والقدس. * مع هذا العالم العربي "المدمقرط" بدول وحكومات تأخذ من الديمقراطية الغربية علل الضعف والارتهان لإملاء الشارع، وضغوط صندوق الانتخاب، ومع ما في العالم العربي من ثروات كامنة، ومن سوق واعدة، فإن الغرب المقبل على أزمة كبرى سوف يجد هاهنا سوقا للتمدد والانتعاش في مشاريع كبرى، لعالم عربي يفتقر للمنشآت القاعدية، ولقاعدة صناعية وغذائية، ولحاجات ضخمة في أكثر أوجه الحياة. * لكل ذلك فأنا لا أشكك في "صدق" نوايا أمريكا في نشر الديمقراطية في العالم العربي "لمساعدة" الشعوب العربية على إحداث التغيير، ليس لأنها تحب الشعوب العربية، أو لأنها تريد إلحاق العالم العربي المتخلف بالركب، ولكن لتخليق المشرق الجديد الأفضل لأمريكا، عالم عربي تركب فيه ديمقراطية غربية صرفة، تدين "لولاية شباب الفيس بوك"، تخمد إلى أجل مسمى تطلعين لا يمكن للغرب أن يتعايش منها: القومية العربية، وحلم إعادة بناء الكيان الإسلامي ولو في صيغة عصرية ككيان فدرالي عربي أو إسلامي بمؤسسات حديثة.