الإضطرابات التي عرفتها بريطانيا مؤخرا وبالتحديد في منطقة »برودوترقام ايستايت« بالعاصمة لندن، أين شهدت إحتجاجات واسعة بين شبابها من السود والشرطة، ما تزال محل ذهول وتساؤل واسع ليس في أوساط الشارع المحلي وإنما على المستوى العالمي، وهي إن جاءت كصدى لثورات الربيع العربي، فإن مستوى العنف والإجرام المسجل، الذي فاجأ الجميع يفضح مرة أخرى نمط العيش الغربي عامة والليبرالية الغربية خاصة، إذ أنها لم تعد الحلم الوردي لحل مشاكل البشرية كما أنه ينحى باللائمة على الإئتلاف الحاكم في بريطانيا بقيادة ديفيد كاميرون رئيس الوزراء، الذي لم يعد الرجل المناسب لهذا المنصب، ويتوقع أن يدفع المحافظون ثمن إجراءاتهم غير الشعبية التي إتخذوها منذ وصولهم إلى الحكم، التي جاءت لتزيد من ثراء الأغنياء وتوسع من دائرة الفقراء في المجتمع، يؤكد ذلك تعاملها مع الأحداث الأخيرة، حيث إنتقدت كاميرون لاستعانته بخبير أمريكي في مكافحة الجريمة، رغم إعلانه الاصلاح للمجتمع البريطاني المكسور لمكافحة الجريمة والحيلولة دون تكرار ما شهدته البلاد من أسوأ أعمال الشغب التي إجتاحت الأسبوع الماضي لندن منذ عقود. النظام السياسي على المحك والمعلوم أن الاضطرابات التي إندلعت بعد قتل الشرطة بالرصاص لمارك دوغان المواطن الأسود اللون، إذ إندلعت أعمال شغب ونهب واسعة بمنطقة توتنهام الفقيرة بشمال لندن، سرعان ما إمتدت إلى شتى أنحاء العاصمة لندن، لتنتقل بعدها إلى عدة مدن إنكليزية، وسجل خلالها مقتل خمسة أشخاص، بالإضافة إلى فاتورة بمليار جنيه إسترليني أي ما يعادل 1.6 مليار دولار ثمنا لخمس ليال من أعمال الشغب والنهب، وحسب صحيفة »ديلي ميرور« فإن الناس العاديين سيدفعون الثمن كالعادة، فيما سيواجه أصحاب المحال التجارية الصغيرة أضخم فواتير أعمال الشغب والنهب التي مست نحو 6000 متجر ومخزن ومطعم بشكل قد يجعلها لا تتعافى رغم المساعدات التي تعهدت حكومة كاميرون بتقديمها لهم. وتم لحد الآن إعتقال 2800 شخص من مثيري الشغب، وتقديم المئات منهم إلى العدالة، التي عملت لساعات متأخرة من الليل وخلال أيام العطل لإصدار أحكام سريعة بحقهم، مما أثار انتقادات بخصوص احترام حقوق المتهمين في دفاع حقيقي. فاتورة الانزلاق في الحرب العدوانية على العراق هزت الاقتصاد ورغم أن بريطانيا العظمى التي كانت إلى وقت قريب يطلق عليها المملكة التي لا تغرب عنها الشمس جعلت ألسنة اللهب الناتجة عن إجتجاجات الشباب تغرب عنها الشمس في واضح النهار بفعل الدخان الناتج عن نهب وإحراق العديد من المتاجر الكبرى، لا تعيش أزمة إقتصادية خانقة فهي مازالت من الدول الغربية المتقدمة، التي تسعى جاهدة للاحتفاظ بمكانة مرموقة حتى خارج دول الاتحاد الأوروبي، بحيث لم تندمج كليا بعد فيه، ومن ذلك فإن نسبة البطالة لا تتعدى في المجموع 7.7٪ وهي نسبة معقولة بالعالم الغربي، إذ تبلغ هذه النسبة 9.9٪ بمنطقة اليورو مقابل 9.1٪ بالولاياتالمتحدة. إن هذا الوضع الاقتصادي المستقر، نسبيا يكاد يجعلها بمنأى عن مثل هذه الاضطرابات، لم يكن ليصمد أمام لا عدالة النظام السياسي والاقتصادي، خاصة بعد دخول بريطانيا في الحرب العدوانية ضد العراق بدون وجه حق، وبتأييد كامل من »توني بلير« رئيس الوزراء السابق مع جورج بوش الابن رئيس الولاياتالمتحدة، الذي تبنى مع إدارته المرتكزة على طروحات المحافظين الجدد الصهيو أمريكي كلفت بريطانيا ملايير الدولارات التي بدأت تبرز إنعكاساتها على أكثر من صعيد سواء فيما يخص تخفيض ميزانية الدفاع وتسريح الجنود أو من حيث إنتشار الاضطرابات الأخيرة بين الشباب السود والشرطة مؤخرا. إنعكاسات إضطرابات 1985 لم يتم معالجتها بالكيفية المطلوبة وإذا كانت منظقة »برودوتر قارم ايستايت« هي الموقع الذي شهد إضطرابات واسعة، فقد شهد حوادث مماثلة من قبل في عام 1985، كانت بين الشباب السود والشرطة، فإن إضطرابات الأسبوع الماضي توسعت إلى شن هجمات من الشباب السود على ممتلكات تعود إلى أشخاص من أبناء جلدتهم، وهو ما يعني أن هناك إختلال في معالجة الإختلالات بالمجتمع. إذ رغم إنفاق الحكومات البريطانية المتعاقبة ملايين الجنيهات الاسترلينية على منطقة »برودوتر« خلال الفترة ما بين 1985 و2011، فإنها لم تنجح في مواجهة مشكل البطالة. فزاعة الإرهاب تحول إهتمامات الشرطة عما يجري في المجتمع ولعل هذه الاضطرابات التي لم تقتصر على العاصمة لندن لوحدها وتوسعها إلى العديد من بؤر الفقر والتهميش بالمدن الأخرى لا تعود لمشكل البطالة لوحده وإنما إلى أسباب أخرى منها طبيعة النظام التعليمي الحالي وأنظمة الضمان الاجتماعي والتعامل بليونة مع المنحرفين والمجرمين، الذين يتزايد أعدادهم باضطراد، مما أصبح يشكل خطرا حقيقيا على المجتمع، في حين أن أجهزة الشرطة ركزت أعمالها في السنوات الأخيرة على مواجهة فزاعة الإرهابيين الاسلاميين التي أبدعها الرئيس بوش وأجهزة مخابراته بالتنسيق مع المخابرات الغربية وفي مقدمتها أجهزة المخابرات البريطانية ذاتها، فإنها تجاهلت مثل هذه الأخطار المتنامية داخل المجتمع. وتعيش بريطانيا اليوم مشاكل حقيقية يأتي في مقدمتها المشاكل الأخلاقية التي أصبحت تنهش النسيج المجتمعي كإنتشار المخدرات وكثرة السكارى، الذين أصبحوا يشكلون خطرا حقيقيا إلى درجة أن المواطنين أصبحوا يخافون الخروج من بيوتهم ليلا خوفا من الاحتكاك بمجموعات السكارى الذين لا يراعون حرمة كبير أو صغير حسب »تيودور داريمبل« وهو طبيب بريطاني أوضح في مقال بصحيفة »وول ستريت جورنال« الذي يسكن بمنطقة »بريجنوث« بمقاطعة »شروبشاير« حقيقة الرعب الذي ينشره الشباب المستهتر بمدينته حيث يسكن بمنطقة بريجنوت بمقاطعة »شروبشاير« ويقول في هذا السياق: »أن بلدته التي تعاني من مشكلة السكارى والخطر الذي يمثلونه والإزعاج الذي يتسببون فيه بحاجة إلى ما يردع هؤلاء الشباب، إلا أن مجلس »شروبشاير« قام بمعالجة الموضوع بطريقة غريبة بأن أعطى رخصة لحانة لبيع الخمور حتى الساعة الرابعة صباحا«. الصرامة في مواجهة المشاغبين لاستعادة ثقة الشعب ومن جهة أخرى لا يمكن أن نتناسى أن ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني الذي تولى السلطة على رأس إئتلاف قبل 15 شهرا قد إتخذ جملة من الإجراءات غير الشعبية لخفض النفقات كانت في مجملها على حساب الفقراء، وتركت المجال واسعا أمام الأثرياء لتحقيق المزيد من الثروة وتأتي الأحداث الأخيرة لتجعل مستقبله مع المحافظين في خطر، لهذا يسعى للإستفادة سياسيا من هذا الوضع المتأزم من خلال إستغلال الغضب العارم إزاء هذه الإضطرابات. ومن تم تفادى تعويض ثقة الشعب في حكومته، وذلك بالرد الصارم في معالجة مشكل الاضطرابات والحيلولة دون تكراره. ويأمل »كاميرون« أن تقوم حكومته بإصلاح المجتمع البريطاني المكسور للحيلولة دون تكرار ما شهدته البلاد من أسوأ أعمال شغب منذ عقود، بإعتبار أن ما جرى يشكل جرس إنذار لتخليص البلاد حسبه من المشاكل الاجتماعية المتفاقمة منذ عقود والتي »إنفجرت في وجهنا«. ويؤكد في هذا السياق بالقول: »أن الناس لايطالبوننا فقط بمواجهة المجرمين بقوة في شوارعنا، بل يريدون أيضا أن يروا تلك المشكلات تعالج وتحل، مشيرا إلى أن »صحوتنا الأمنية لابد أن تضاهيها صحوة اجتماعية«. قادة الشرطة: خطط كاميرون للإصلاح مرفوضة ولكن.. هل تصلح خطط » ديفيد كاميرون« في إصلاح الوضع في بريطانيا بالكيفية والفعالية والسرعة المطلوبة.. بطبيعة الحال، فإن الرد بالإيجاب ليس سهل المنال. إذ تعرض رئيس الوزراء البريطاني إلى جملة من الانتقادات حتى من داخل حزبه، باعتباره لم يكن صارما بما يكفي تجاه الجريمة والعقاب. ولم يتخذ موقفا متشددا إلا بعد أربع ليال من عمليات النهب والحرق العمدي، التي شهدتها عدة مدن بانكلترا، غيرأنه قال من جهته، أن الاستجابة الأولية للشرطة تجاه أعمال الشغب كانت ضعيفة إلى حد كبير. ومن جهتهم انتقد قادة الشرطة البريطانية »ديفيد كاميرون« في استعانته بخبير أمريكي في مكافحة الشغب »وليام براتون« وهو القائد السابق لشرطة نيويورك ولوس أنجلوس وبوسطن، لتقديم النصح في كيفية التعامل مع عصابات الشوارع. ويقول بهذا الخصوص »هيو أوردى«، رئيس جمعية ضباط الشرطة، وهو مرشح بارز لقيادة شرطة لندن: »يبدو لي أنه إذا كان لديك 400 عصابة، فإنك لست فعالا جدا إذا نظرت إلى أسلوب الشرطة في الولاياتالمتحدة، ومستوى العنف هناك يختلف إختلافا جذريا عن هنا«. كما شكك قادة الشرطة في الجدوى من خطط الحكومة التي يقودها حزب المحافظين لتخفيض تمويل الشرطة، وقالوا: »إن إتباع سياسة نابعة من داخل بريطانيا سيكون الأفضل«. الحل على نهج رجال المصارف المطالبين بالإفلاس وإذا كان ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني، يرفض أطروحات معارضيه من أن المظالم السياسية والاجتماعية، هي المسؤولة عن أعمال العنف الأخيرة، وإختزاله للأمر ببساطة ووضوح بكونه سلوك إجرامي، فإن الكثيرين في بريطانيا لا يتجاوبون معه في طرحه هذا، ويعتبرون حكومته تضلل نفسها، لأن رؤية شبان يخرقون القانون ويخربون الممتلكات كما أكدت ذلك مجلة »تايم« لا يحتاج إلى ذكاء كبير لمعرفة أن هنالك خللا ما ينخر الدولة في بريطانيا. وفي حقيقة الأمر، أن كل محاولات الاحتجاج على إجراءات حكومة كاميرون غير الشعبية، فيما يخص تخفيض نفقات التربية والصحة والخدمات العامة، بدأت سلمية وتحولت إلى إصطدام وحشي مع الشرطة في مارس الماضي، بعد خروج نحو نصف مليون شخص في مظاهرات سلمية. مما يؤكد وجود خلل في العقد الإجتماعي، أي أن الإلتزام بالقواعد والقوانين لم يعد سبيلا إلى الرفاهية وضمان المستقبل في الدول الغربية، حيث أدى حسب مجلة »تايم« الاقتصاد النيوليبيرالي إلى إمتصاص كل الثروات المجمعة في العقود الأخيرة ووضعها بيد النخبة، لتنهار معها مستويات الطبقة الوسطى، وليدخل خمس الشبان في البطالة بدون أي أمل في الحصول على عمل في المستقبل القريب. وباختصار، فإن هذا الوضع يمثل أكبر إخفاق للنظام الديمقراطي الغربي، إذ عجزت حكومة كاميرون مع غيرها من الحكومات الغربية في إيجاد المخرج للأزمة العالمية الراهنة، من غير إتخاذ إجراءات غير شعبية تزيد من وقع الأزمة، ما جعل صدى الاحتجاجات المضادة للتقشف تنتقل من شوارع مدريد وروما ولشبونة وأثينا وتل أبيب إلى لندن لتعمق أكثر بطابع لا أخلاقي من قبل المحتجين، الذين يؤكدون أن سلوكهم لا يختلف عن ممارسات رجال المصارف، ذلك أنهم يطالبون بالإفلاس لإنقاذ أنفسهم من عواقب سياساتهم الكارثية، فيحلون بذلك مشاكلهم على حساب زيادة مديونية الدولة التي يدفع أعباءها الطبقة المتوسطة والفقراء المطالبين بالإلتزام بإجراءات التقشف..!