عندما خرج زعيم حركة النهضة الإسلامي، راشد الغنوشي، من مركز الاقتراع، تفاجأ بمجموعة من التونسيين تصرخ في وجهه وتدعوه للرحيل قائلة له (ديڤاج)، وردّ عليهم بابتسامة هادئة رافعا أصبعه الذي يحمل حبر الختم، وكأنه يقول لمعارضيه بأنه مارس حقه في التصويت كغيره من التونسيين في يوم مشهود لم تعشه تونس من قبل، وكان ذلك بفضل »ثورة الياسمين«. لكن الرد الحقيقي والبراغماتي لحزب الغنوشي المعتدل عقائديا، جاء في أولى النتائج التي كشفت عن شبه اكتساح للحزب الإسلامي الوحيد الذي دخل بقوة في الانتخابات وخرج منها منتصرا في أول تجربة ديمقراطية تعرفها تونس، والتي قد تؤهله للانفراد بتشكيل الحكومة القادمة. لم تكن نتائج الاقتراع مفاجأة، لا للرأي العام الداخلي في تونس ولا خارجه، حيث رشحت كل التوقعات فوزا سهلا لحركة النهضة الإسلامية، على اعتبار أنه أقدم حزب سياسي عانى ويلات النظام البائد، فضلا على أن التركيبة السوسيولوجية لمجتمعات المغرب العربي عموما، تعتمد على الأعراف والتقاليد والقيم الروحية المستمدة من الدين الاسلامي الحنيف، خاصة وأن النظام السياسي السابق في تونس، لم يدخر أي جهد لفصل الدين عن الدولة وإلغاء كل تشريع إنطلاقا من الشريعة الاسلامية إلى درجة، التدخل المباشر في ممارسة الشعائر الدينية وسن قوانين علمانية ولائكية، تتعارض مع أبسط المبادئ والقيم الاسلامية. استخلص الغنوشي الكثير من العبر من تجارب التيارات الاسلامية في البلاد العربية والاسلامية، مقترحا نموذجا حداثيا ومتفتحا، ينبذ العنف ويفتح آفاقا واسعا لتقبل تياره المعتدل حتى لو أدى به الأمر إلى التحالف مع العلمانيين لبناء مستقبل تونس، مثلما صرح به عقب بروز مؤشرات قوية باحتلاله المركز الأول في انتخابات الأحد الماضي، وباحتمال حيازته على أغلبية المقاعد في المجلس التأسيسي، التي أسندت له مهمة صياغة دستور البلاد الجديد. ويبدو من خلال تصريحات ومواقف الحركة، أنها تتجنب الانفراد بالسلطة في الظرف الحالي، خشية تحمل أية نتائج وتبعات محتملة لمسار العمل السياسي التعددي الأول من نوعه في تونس، خاصة وأن تجربة "الفيس" المنحل وتداعياتها الوخيمة على استقرار الجزائر خلال الحقبة السوداء، لا تزال ماثلة للعيان، ولا يعتقد أن وصول تيار اسلامي متشدد إلى السلطة سينظر إليه بعين الرضا داخليا وخارجيا. تونس الهادئة، التي كانت أول من انتفض في الوطن العربي في ظل ما يشهده من ربيع عربي، جرف معه ولا يزال أنظمة ديكتاتورية، لا تزال تمثل مرجعية لثورات أخرى وما بعد هذه الثورات، وقد تعرف تجربتها الديمقراطية التي رافعت لصالح التيار الاسلامي، استنساخا في دول أخرى أنهى البعض منها ثورته على غرار مصر، وليبيا، في انتظار استكمال الثورات التي تعرفها دول أخرى في المنطقة العربية. أما في مصر التي تشهد حاليا، عملية تحضير واسعة للانتخابات القادمة، فإن شهية الإخوان المسلمين فيها وعبر حزب العدالة التابع لهم، قد تفتحت ويستعد لاكتساح الساحة السياسية من خلال رسم خطة عمل للسيطرة على أغلبية المقاعد في البرلمان القادم، بعد ثورة شعبية قادها شباب مصر، أفضت إلى حكم عسكري منذ تنحي الرئيس مبارك عن السلطة، ويبدو الإخوان المسلمين في رواق مناسب للعب الأدوار الرئيسية في الخارطة السياسية القادمة لمصر. وليس بعيدا عن مصر وتونس، أنجز ثوار ليبيا ثورتهم وأعلنوا تحرير البلاد بعد الاغتيال الوحشي للزعيم السابق معمر القذافي، الذي تم التنكيل به على طريقة الجماعات الإرهابية المسلحة في الجزائر، بل ذهبت التعاليق إلى اعتبار ثوار تحرير سرت بالوحوش الآدمية المتجردة من أبسط القيم الاسلامية، وهي تحمل راية الاسلام وتكبّر مع كل عمل مشين ودنيئ. موازين القوى في ليبيا ما بعد القذافي ترجح سيطرة الثوار على مقاليد الحكم مستقبلا، بعد أن يتلاشى ويضمحل عناصر المجلس الإنتقالي، مثلما بدأت تتحلل وتتعفن جثة القذافي قبل دفنها، وعبد الجليل مصطفى الذي أعلن في أول تصريح شعبي له على أن الشريعة الإسلامية ستكون مصدر تشريع لقوانين البلاد مستقبلا، حتى يكون في انسجام مع الثوار وعقيدتهم، نسي أو تناسى أن الغرب وكل الغرب تقريبا مدان له وهو الذي ساهم في الاطاحة النهائية بالقذافي، وتقديمه فريسة سهلة لثوار تحرير سرت بعد قصف الناتو لموكبه الهارب من بلدته والذي تحول إلى حطام مثلما توضحه الصور والفيديوهات. اضطر عبد الجليل مصطفى إلى التراجع عن تصريحاته الأولية، بعد أن أيقن أن مصير ليبيا لم يعد في أيدي الليبيين فقط، وأنه عليه أن يدرك أن الغرب الذي ساهم إلى حدّ كبير في الإيقاع بالقذافي، ستكون له اليد العليا في رسم معالم ليبيا الجديدة، حتى لو سعى الثوار ومن يتزعمهم من بعض المتشددين الاسلاميين والإرهابيين إلى فرض منطقهم للاستحواذ على مقاليد الحكم من خلال حكومة ذو توجه اسلامي، علي غرار ما سوف يحدث في تونس، ولكن بفارق كبير، وهو أن اسلاميي تونس أبدوا الكثير من الاعتدال، بخلاف ثوار ليبيا الذين لطخوا المجلس الانتقالي بالدماء، وهو الذي يستعد لفتح صفحة جديدة في ليبيا الحرة!! كل الثورات العربية التي حققت أهداف إنتفاضاتها تتجه نحو سيطرة الاسلاميين على الحكم من خلال انتخابات لا شك أنها ستسير في ظروف عادية، مثلما كان عليه الحال في تونس، وسيتم تزكيتها بطريقة أو بأخرى من الدول الغربية. هذه الأخيرة ستضطر إلى ايجاد صيغ مناسبة للتكيف مع الوضع الجديد الذي أفرزته الثورات الشعبية، التي تحولت من الربيع العربي إلى الربيع الإسلامي.