كان العالم العربي على موعد مع انقلاب شامل، كان مفاجئًا في توقيته، وعميقًا في تأثيراته، حيث اجتاحت العروشَ العربية ثوراتٌ شعبية استطاع بعضها اقتلاع أنظمة حاكمة كان من غير المتصور أن تتزحزح من مكانها، مع تسلحها بكل أدوات العصر في القمع والدكتاتورية والاستبداد. وكان للطابع الشعبي السلمي والنجاح الذي تحقق للشعوب العربية، كما في مصر وتونس وليبيا، في إسقاط أنظمتها الحاكمة، دلالة شديدة الأهمية في أن الشعوب العربية قد بدأت، في إطار سعيها للحرية والكرامة والعدل والمساواة، في مرحلة الفعل والإرادة وتحقيق مصالحها التي سعت إليها منذ عقود، مؤسسة لإرهاصات نظام إقليمي عربي جديد. ومنذ بدايات هذا الحراك في نهاية عام 2010، ومطلع عام 2011، في تونس ومصر، شُغِلَتْ دوائر السياسة والإعلام في عالمنا العربي بالبحث عن أسباب هذا الذي يحدث ومستقبله، على كونه أمرًا مصيريًّا ولا مراء في ذلك، في صدد إعادة تشكيل منطقتنا العربية. ومن بين المحاولات المبكرة لاستكشاف ما يجري، وآفاق ومستقبل هذا الذي يجري، تلك التي قام بها مركز دراسات الشرق الأوسط بالأردن، حيث عقد المركز ندوة في مارس الماضي، بعنوان: “التحولات والثورات الشعبية في العالم العربي...الدلالات الواقعية والآفاق المستقبلية”. ناقشت الصورة العامة لما يجري في العالم العربي وأسبابه ومستقبله، من مختلف الزوايا السياسية والاجتماعية والثقافية. الندوة التي أصدرها المركز فيما بعد في كتاب يحمل ذات العنوان، شارك فيها عدد من الباحثين والشخصيات الأكاديمية والسياسية، ومن بينهم مدير المركز الدكتور جواد الحمد، والدكتور أحمد سعيد نوفل أستاذ العلوم السياسية بجامعة اليرموك والدكتور علي محافظة أستاذ التاريخ بالجامعة الأردنية والدكتور وليد عبد الحي -أستاذ العلاقات الدولية في جامعة اليرموك والمحلل الناشط السياسي إبراهيم علوش. ويتكون الكتاب الذي بين أيدينا من مقدمة وفصلَيْن رئيسيَّيْن، يرصد الأول منهما ظاهرة الثورات الشعبية العربية من حيث تداعياتها ودلالاتها المختلفة، والثاني يتناول رؤية مستقبلية حول تطورات الثورات ومآلاتها، مع التركيز على عام 2011، وغطّى كل قسم منها أربعة مباحث تباينت في تناولها الموضوعي للحدث الرئيسي الذي يتناوله الكتاب. الظاهرة وفي مقدمته للكتاب، يقوم الدكتور حامد عبد الماجد القويسي، الذي قام بتحرير أوراق الندوة، وتوظيفها في إطار الكتاب، بتصنيف البلدان العربية التي تشهد الظاهرة الثورية في الوقت الراهن إلى ثلاثة تصنيفات رئيسية، الأول، دول عرفت الثورة التي حققت قدرًا مهمًّا من النجاح في حالتها الثورية، وانتقلت في الوقت الراهن إلى المرحلة الثانية، وهي مرحلة تنازع القوى الثورية التي تسعى لاقتلاع النظام القديم، مع الحفاظ على الأوضاع الجديدة التي نشأت، كما في مصر وتونس. التصنيف الثاني، ويشمل الدول التي لا تزال فيها الثورة مشتعلة ومتنامية، أي إنها لا تزال تعيش المرحلة الأولى من الحالة الثورية، ووضع القويسي ليبيا والبحرين مع اليمن وسوريا في هذا التصنيف. وبالنسبة لحالة ليبيا والبحرين، يجب الوضع في الحسبان أن الندوة عقدت في شهر مارس الماضي، ولم تكن الأمور في كلا البلدين قد تطورت على النحو الموجود حاليًا فيها، حيث استطاع الثوار الليبيون في الأشهر التالية إسقاط نظام العقيد معمر القذافي، فيما استتبت الأوضاع في البحرين لصالح النظام الملكي الحاكم بعد الدعم العسكري والسياسي الخليجي له. التصنيف الثالث، هو الدول التي تعيش مرحلة الترقب للحظة ميلاد ثوراتها الخاصة، ويضع فيه كل الدول العربية الباقية، التي لم تشهد انفجارًا شعبيًّا في وجه حكوماتها بعد. ولقد رصد المحرر في مقدمته أيضًا مجموعة الأطراف الفاعلة في هذه الحالة الثورية التي يشهدها العالم العربي، وهي: الشعوب العربية، والأنظمة الحاكمة، والمؤسسة العسكرية، والتي كانت أداة قمع في بعض الحالات وأداة شرعية في حالات أخرى، بالإضافة إلى القوى الإقليمية والدولية. السمات المشتركة للثورات العربية ولقد اتّسمت الثورات العربية بالعديد من السمات المشتركة بينها، أولاها سلمية الحراك الشعبي في مقابل دموية وعنف الأنظمة والنخب الحاكمة، وثانيها هشاشة الأنظمة الحاكمة، التي اتضح أنها باقية فقط على قيد الحياة، بسبب حماية الأجهزة الأمنية لها في مواجهة حركة الشارع. أيضًا من بين السمات المشتركة للحراك الثوري القائم في عالمنا العربي في الوقت الحالي، أنه أسقط فلسفة “الاستقرار”، و«الحفاظ على الوضع القائم”، لصالح فلسفة التغيير ودور الشعوب والرأي العام، مع الخروج بها من عقلية الوهن والحالة “الغائية” إلى عقلية الفعل والتغيير الحضاري. ومن بين أهم الأفكار التي تناولها الكتاب دور القوى السياسية العربية المحلية في الثورات الشعبية، وآليات تعاملها معها بين الواقع المعيش والمستقبل، وقيَّم الدكتور صبري سُميرة أستاذ العلوم السياسية دور هذه القوى في مستويين: المستوى الأول قدم فيه سُميرة إطارًا وصفيًّا تحليليًّا فيما يزيد على عشرين عاملاً ومتغيرًا حول دور هذه القوى، وتتمحور جميعها حول فكرة شمول هذه القوى، حيث تتوزع على مختلف طوائف المعارضة والحكم والأطراف المستقلة، كما أنها شاملة بوصفها تضم مختلف الأطياف المؤسسية الموجودة، من أحزاب ومنظمات مجتمع مدني وشخصيات عامة وخلافه. القوى الإقليمية والدولية أما المستوى الثاني من التحليل، فضم تصور سُميرة حول المتوقع والمأمول من هذه القوى في الفترة المستقبلية، والعوامل التي يجب عليها إدراكها وهي تسعى إلى لعب أدوار مستقبلية، ومن بينها أنه يجب عليها العمل من خلال إستراتيجية شاملة، تسعى إلى البناء والتوظيف الجيد لوسائل الإعلام، مع عدم إهمال قضايا الإقليم، وخصوصًا القضية الفلسطينية لحساب إعادة البناء الداخلي. أما دور القوى الخارجية، الإقليمية والدولية، في الثورات الشعبية، وكيف تتعامل، وسوف تتعامل معها، فإن الدكتور أحمد سعيد نوفل أستاذ العلوم السياسية بجامعة اليرموك اختار الحالة المصرية لمناقشة هذه القضية في الورقة التي قدمها في الندوة، إدراكًا منه لأهمية الحالة ومحوريتها في الإطار العام للحراك الثوري في العالم العربي. ومبدئيًّا يشير نوفل إلى أن الخاسر الأكبر في الأطراف الخارجية، هو الولاياتالمتحدة، باعتبار أن الثورات بالأساس قامت ضد أنظمة وصفها بأنها “أميركية بالوكالة”، ووصف الموقف الأميركي مما جرى في مصر منذ بداياته بأنه موقف متخبط. وبجانب الولاياتالمتحدة، فإن الخاسر الأكبر أيضًا هو إسرائيل، والتي أشار الكاتب إلى أن حدوث أي تغيير جوهري في النظام المصري يعني انقلاب نظرية الأمن الإسرائيلية. دوافع الثورات العربية وعن دوافع الثورات العربية، أشارت بعض الأوراق، ومن بينها ورقة الخبير الإستراتيجي اللواء موسى الحديد إلى أنه لا يمكن تحديد هذه العوامل في بُعد واحد أو في مستوًى واحد. فعلى المستوى الموضوعي، تظهر الاعتبارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن بينها الفساد والقمع وسوء توزيع الثروة والإخلال بمبدأ الفصل بين السلطات، أما على المستوى الجغرافي، فهناك عوامل خارجية تتنوع بين داخلي كما تقدم، ومنها ما هو إقليمي، مثل تحقيق عدد من القوى الإقليمية، مثل تركيا، لنجاحات سياسية وتنموية، على الرغم من تواضع قدراتها الاقتصادية مقارنة مع البلدان العربية. أما على المستوى الدولي فإن العامل الأبرز الذي يمكن التأكيد عليه هو تغير موقف القوى الدولية من دعم الحكومات إلى مواقف أخرى أقرب إلى الشعوب، مع ظهور وانتشار العديد من المؤسسات الإقليمية والدولية التي زكَّت ثقافة الاحتجاج، وكشفت الكثير من الحقائق حول ما يجري داخل المجتمعات العربية وخارجها. رؤية مستقبلية أما الجانب الخاص بالرؤى المستقبلية فتنوع بين رصد المستقبل، والأماني والطموحات المأمولة من الثورات العربية، مثل إعادة الاعتبار للعالم العربي، وتصويب مسيرته سياسيًّا واقتصاديًّا وتنمويًّا، وتحسين مستوى حالة المجتمعات العربية، مع إحياء القضايا العربية المهمة في وجدان الشعوب، ومن ثم على مستوى الرأي العام الدولي، وخصوصًا فلسطين. أهم الجوانب الخاصة بالدراسات المستقبلية هي تلك الخاصة بنتيجة الصراع القائم حاليًا بين الشعوب والأنظمة الحاكمة، وبقاياها في البلدان التي تشهد حالة ثورية. وحدّد السياسي الأردني عدنان أبو عودة العامل الأكبر الذي ينبغي على الثورات العربية العمل على معالجته لتضمن النجاح والاستمرار، وهو التصدي لحالة التزاوج القائمة بين السلطة والمال، والتي كانت من أهم دعامات بقاء الأنظمة السابقة. ومن بين العوامل الأخرى المهمة أيضًا لاستمرار ونجاح الثورات العربية، بقاء الحالة الثورية قائمة، وإعادة ترتيب البيت الداخلي، ورفع السقف السياسي المطالب بالديمقراطية، خصوصًا في البلدان التي تشهد مرحلة انتقالية، مثل مصر وتونس، أو في البلدان التي لا تزال في مرحلة الفعل الثوري مثل سوريا. وحول موقف الولاياتالمتحدة وإسرائيل مستقبلاً مما يجري في العالم العربي، فإن واشنطن التي بدت متخبطة أولاً، سوف تبدأ في محاولة تقليص مشاركة الإسلاميين في الحكم لصالح التيارات الليبرالية والعلمانية، وذلك في أية انتخابات قادمة، أما إسرائيل، فإنه من المتصور أن تعلي من قيمة الاستقرار على حساب الديمقراطية، مع تخوفها من انتقال ربيع الثورات العربية إلى الضفة الغربية وقطاع غزة. وختامًا فإن أهم رسالة سعى الكتاب لتأكيدها، هي أن المهمة الأبرز في الوقت الراهن أمام الشعوب والحكومات التي أفرزتها الحالة الثورية الحالية في بعض بلدان عالمنا العربي، هي أن يتم تحقيق ما وصفه الكتاب بالرؤية الإستراتيجية الكُلِّية لمستقبل منطقتنا العربية، اعتمادًا على ضمان استمرارية الثورات العربية وتأثيرها. ويشير المشاركون في الندوة إلى أن ذلك لن يتحقق إلا من خلال مجموعتَيْن متكاملتَيْن من الأعمال: الأولى أعمال “تأسيسية” في مراحل الثورة المتتابعة، وذلك عبر المشاركة الفاعلة، أيًّا كان شكل هذه المشاركة أو مضمونها، والثانية هي أعمال “مساعدة” في مراحل الثورة المختلفة، وذلك عبر المساندة أو الوقوف ضد أطراف معينة، بحسب دور هذه الأطراف، فيما إذا كانت تدعم هذه الثورات أو تسعى لتعطيلها. كما أن نجاح حركة الشعوب العربية في تغيير الأنظمة مرتبط بالعديد من المتغيرات المهمة، ومن بينها: التحديد الواضح للأهداف وتجديدها والإصرار عليها، ورفع سقف هذه الأهداف باستمرار، مع مواصلة الضعوط، وصولاً إلى تحقيق الغاية النهائية، وهي إسقاط الأنظمة الحاكمة. أيضًا يجب التأكيد على ضرورة أن تقبل الشعوب العربية بالمخاطرة، والاستعداد للبذل والتضحية على كل المستويات، مع تنويع الوسائل والأدوات المستخدَمة في ممارسة الضغوط خلال عملية التغيير.