أتذكر أنني مرة دخلت مقر جمعية الجاحظية بعد أن قرأت إعلانا على صفحات الجرائد خاص بمحاضرة يقدمها أحد الأساتذة الباحثين عن تركيبة المجتمع الجزائري العوائق والمآلات...وصراحة تفاجأت بعدد الحاضرين الذي لم يتعد الأربعة ؟ نعم أربعة فضوليين فقط وأنا خامسهم؟ا لم أتذكر هذه البكائية والحسرة إلا قبل يومين أي بعد ما حدث في حفل هذا الفنان الظاهرة المدعو سولكينغ. ودبت في نفسي غيرة غير معهودة عن حجم الجماهير التي التفت حوله والذين قاربوا المليون شخص، وهناك من علق أنه لو ترشح هذا النجم لفاز بالانتخابات الرئاسية دون منافس، ثم تحسرت عن حال شبابنا شبه المخدر الذين ما هبت ريح إلا وحملتهم بما حملوا، ولو أردنا أن نكون من النقاد الفنيين لفعلنا ذلك ببساطة وقلنا بأن ما يقدمه هذا الفنان وأشباهه لا يعدو أن يكون مجرد صخب بلا هوية، ممزوج من عدة شطحات معظمها غربي أي من بلاد الغرب تنطلي عليها بعض الإيقاعات الطبلية مبتعدة كل البعد عن اللحن العذب، بل هي مجرد راب منسوخ يتم التركيز فيه على قوة الكلمات دون التوزيع الموسيقي؟ ولسنا هنا بصدد تقييم القيمة الفنية لهذه الأعمال، وإنما ما تبعها من آثار لا أخلاقية مست النخاع الشوكي للمجتمع وعصفت بكثير من قيمه، بل أفقدته صوابه إلى درجة أن خرج الإنسان من جلده وراح يتصرف بحماسية تشبه حماسية الروبو (الإنسان الآلي)... القائمون على برمجة هذا الحفل والذين أقيلوا فيما بعد كانوا يريدون إيصال رسالة، مفادها أن الشباب لابد له أن يروّح عن نفسه ما دام أن العصر هو عصرهم وأن المرحلة هي مرحلتهم. وكأن به تكريما لهم...يقولون في ذخائر الأدبيات أنه ليس هكذا تورد الإبل يا سعد ؟ فقدر ما حاولوا تبجيل الحراك الشباني أساؤوا إليه وخدشوا مصداقيته من حيث لا يدرون، بل أفسدوه أشد مفسدة. والنتيجة كما عرف الجميع كانت كارثية حيث كانت خسائر في الأرواح...الملاحظون الذين يفهمون في الشأن السياسي اقنتعوا بأن المنظومة التفكيرية والتنظيمية بالأساس لازالت عرجاء في الجزائر. وأن أخطاء المسؤولين ستظل تتكرر حتى يرث الله الأرض ومن عليها؟ا . هذا يحدث على الرغم من أنه تم تغيير الوجوه وكما يقال مربط الفرس ليس هنا، ما فائدة أن نحاول تغيير الظِلال والعيدان عوجاء؟ا المشكل يكمن في آثار فكر متعفن من زمر قديمة لازالت تعشش بين دواليبها، وان المشكل الرئيس ليس في الأشخاص كأجسام وأجساد بل ما في عقولهم ، وما حوته من أراء سديدة ومُحكمة وحسن للتدبير. فهذه الأجيال التي هي نتاج مراحل لابد من توجيهها توجيها صائبا وسليما، وليس إغراءها وتشجيعها على ما هو فارغ الوفاض ومهلهلا، كل هذا لازال يحدث عندنا، لماذا، لأننا لم نستخلص العبر والدروس من أحداث سابقة ومن أقاليم أخرى مجاورة، فالحفل المقام بملعب يعّج بالمراهقين وما نتج عنه كاد أن يعود بنا إلى ما قبل 22 فيفري 2019 وكاد أن يعصف بكل المكاسب المُحققة، لنعود ونقول بأن الجزائر لا تعاني من معضلة رجال، بل في منظومة أفكار لا تريد أن تخرج عن عنجهيتها وصدأها... دون الحديث عن الأزمة الأخلاقية السائدة في عمق المجتمع الذي ينتظر من يأخذ بيده ويوجهه، بل يرشده إلى ثقافة الجدية والإنتاج والإبداع وليس الرقص والتخدير غير المباشر في مسائل تبدو عند العقلاء مجرد قشور ولهو لا فائدة من ورائه. فلا مناص من إعادة الكرّة والتلاعب في مثل هذه الأمور، والنتيجة كما رآها الجميع وهي مفسدة المفاسد جراء والعياذ بالله عن أنها عقاب رباني دفع ثمنه أبرياء وكنس بالمقابل أصحاب التخطيط الأعمى وفاقدي البصر والبصيرة، لأن الأمم الناجحة تشتهر بعلمائها وإطاراتها الذين نتمنى لهم أن يعودوا بيننا ولأحضان بلدهم، أطباء ومهندسين وأساتذة جامعيين ليقودوا هذه الأمة نحو آفاق جديدة. وليس أن يزدادوا نفورا وابتعادا كلما سمعوا وشاهدوا حياة وفاعلية هذه الإمبراطورية الرديئة.