يطرح مركز الجزيرة للدراسات في كتاب: التاريخ الدستوري المصري في ظرف حاسم يمر به المصريون وتاريخ دساتيرهم مباشرة قبل إجراءات انتخابات مجلس الشعب التي تمهد لوضع دستور جديد للبلاد، في محاولة أن يلتفت المجتمع إلى ماضيه، فيجتهد في استعادة الخبرات والتأمل في عثراته ونجاحاته السابقة. يستعرض الدكتور محمد نور فرحات أستاذ فلسفة القانون بكلية الحقوق بجامعة الزقازيق بمصر والباحث عمر فرحات تاريخ الدستور المصري في أربعة فصول، يستعرض الأول التسلسل التاريخي لتفاعل إرادات القوى السياسية المؤثرة كإطار لفهم التطور الدستوري، ويتناول في الثاني إشكاليات المنهج والمضمون في وضع الدساتير وموضعية الشريعة الإسلامية عبر التاريخ الدستوري، ويخصص الثالث لمناقشة وضع الحريات العامة في الدساتير المتعاقبة، ويختم بفصل يتناول إشكالية الفصل والتوازن بين السلطات في الدساتير. إن تاريخ الدستور المصري يتداخل مع تاريخ مصر الاجتماعي والسياسي، وقراءة التطورات في تلك الأصعدة على التوازي تفرز العديد من المؤشرات التي قد يجدها القراء من المتخصصين وغير المتخصصين على السواء ذات دلالة. فيوضح لنا التاريخ الدستوري أن الشعب المصري ذو سوابق عدة في تجاوز النص الدستوري والخروج عنه إذا لم يقنع بأنه يعبر عنه ويلزمه. ونستنتج من ذلك أنه إذا لم يكن الدستور معبرا إلا عن فئة بعينها من الشعب فلن يجبر ذلك بقية الشعب على الامتثال والانصياع له، وإنما سيستمر المد الثوري في مواجهة الاستبداد الجديد من دون أن تتحول الطاقة الثورية إلى طاقة تنموية خلاقة. السياستنامه: أول نص ذي طابع شبه دستوري في العصر الحديث عام 1837 عرفت مصر أول نص ذي طابع شبه دستوري في العصر الحديث عام 1837 عندما أصدر محمد علي قانونا أساسيا عرف باسم السياستنامه، أنشئ بمقتضاه بعض الدواوين الجديدة، ونظم عملها واختصاصاتها، بيد أن (السياستنامه)، وإن مثل انعكاسا لشغف محمد علي بمجاراة التطورات السياسية والمؤسسية في أوروبا، لم يرق إلى أن يكون دستورا بالمعنى الحديث الذي يفترض قيام دولة مؤسسات لا تتمركز حول شخص الحاكم وإنما ترتكز لسيادة القانون ومساواة كل المواطنين أمامه والتوازن والفصل بين السلطات. تضمن السياستنامه بعض مظاهر التشابه المحدودة مع النصوص الدستورية المعاصرة، مما دعا بعض الباحثين إلى اعتبار أن هذا القانون “كان بمثابة ثورة في حياة مصر لذلك الوقت، حيث بدأت أمورها تدار بصورة أقرب إلى التنظيم من العهود السابقة”، فقد أسس بحق لإقامة هياكل حكومية مركبة ومتطورة تؤدي وظائفها التنفيذية بكفاءة وتحت الرقابة، وهو الهدف الذي حدده القانون لذاته، لكن دون مراعاة تذكر لرأي أو إرادة الشعب، ودون فصل بين السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية. لائحة مجلس الشورى 1866: أول نص منظم لمجلس نيابي تمثيلي في مصر الحديثة تحت وطأة الضغط الشعبي في عهد إسماعيل الذي اتسم بالجمود صدرت لائحة تأسيس مجلس شورى النواب ولائحة حدود ونظام المجلس - وهو أول نص منظم لمجلس نيابي تمثيلي في مصر الحديثة - في 22 أكتوبر 1866. وكانت اللائحة منحة من الخديوي لإنشاء مجلس نيابي تمثل فيه بعض طوائف الشعب المحدودة جغرافيا مع قبول الخديوي السماع لآراء ممثلي الشعب في بعض الشؤون التي تحددها حكومته مسبقا، دون التزام على الخديوي أو حكومته بالأخذ بتلك الآراء. ولكن يعد هذا الوضع تطورا إذا ما قورن بعهد محمد علي الذي لم يكن إشراك الشعب أو أي قوة سياسية في اتخاذ القرار أمرا من المتصور حدوثه. اللائحة الأساسية :1882 كانت تؤسس لديمقراطية نيابية تفصل بين السلطات أجبرت الحركة الشعبية التي صاحبت حركة ضباط الجيش بقيادة عرابي الخديوي على تقديم العديد من التنازلات والسماح بوثيقة دستورية صدرت “بإرادة الشعب وإرادة الخديوي”. وبدراسة مواد لائحة 1882، التي لم يمهلها المحتل الإنجليزي طويلا فوأدها في مهدها، نرى أن هذه اللائحة كانت تؤسس لديمقراطية نيابية بدا فيها أول مظاهر الفصل بين السلطات في التاريخ المصري، فأكدت على استقلال النواب وحصانتهم من الملاحقة القضائية، ونصت على أنهم” مطلقو الحرية في إجراءات وظائفهم، وليسوا مرتبطين بأوامر أو تعليمات تصدر لهم تخل باستقلال آرائهم، ولا بوعد أو وعيد يحصل إليهم”. القانون النظامي 1883: وضعه الاحتلال الإنجليزي للقضاء على روح التحرر والاستقلال وبدأت مع الاحتلال الإنجليزي لمصر حقبة جديدة علت فيها إرادة المحتل ومن تبعه من الساسة، خاصة الخديوي وأتباعه، واتسمت بتدمير كل منجزات الشعب المصري، وعلى رأسها لائحة عام 1882 التي ألغتها سلطات الاحتلال، ووضعت بدلا منها ما سمي بالقانون النظامي 1883. وكان هذا التطور مبنيا في الأساس على عدم رضا الإنجليز عن التحرر والاستقلال اللذين نالهما الشعب المصري نتيجة لثورة عرابي والاتجاه بخطوات ثابتة نحو الحياة النيابية السليمة، مما كان بإمكانه أن يضر بمطامع الإنجليز الاستعمارية في مصر والمنطقة. لهذا اختفت من القانون النظامي تماما أفكار الفصل بين السلطات واختصاص المجلس النيابي بالتشريع وانتخابه عن طريق الاقتراع السري المباشر، وقد حقق الاحتلال بذلك ما أراد من إعادة تركيز كل السلطات في أيدي السلطة التنفيذية، وبشكل غير مباشر في أيدي سلطات الاحتلال. القانون النظامي للعام 1913: وضع استجابة للضغط الشعبي وتطور الأوضاع قبيل الحرب العالمية الأولى وإزاء الضغط الشعبي المتزايد وتطور الأوضاع الدولية قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى، وافقت السلطات البريطانية على تعديلات في القانون النظامي وفقا للأمر العالي بالقانون رقم 22، مصدرة بذلك القانون النظامي للعام 1913. ورغم التوسع في بعض سلطات الجمعية التشريعية، احتفظ القانون النظامي بالحق الأصيل في التشريع للخديوي ووزرائه، كما منح القانون النظامي للعام 1913 الجمعية التشريعية سلطة “إبداء الرأي” في التشريعات، دون أن يلزم الخديوي وحكومته بالأخذ بهذا الرأي. دستور 1923 : من إنجازات ثورة 1919 يعد دستور 1923 من إنجازات ثورة 1919 التي ضحى فيها الشعب المصري بالدماء والأرواح ضد فساد واستبداد الملك والقصر وتواطئهما ضد مصلحة واستقلال الشعب المصري. إذ شكل الملك فؤاد لجنة تتكون من 30 عضوا لصياغة دستور 1923 أملا بأن تأتي بدستور على هواه لا يضمن السيادة الشعبية. ويمكنه من السيطرة على الثورة، لكن الرقابة الشعبية الشديدة على أعمال هذه اللجنة حالت دون ذلك، وهو درس هام فيما يخص صياغة دستور مصر فيما بعد 25 جانفي2011، حيث لا ضامن لسلامة النص الدستوري بصرف النظر عن إجراءات تشكيل اللجان التأسيسية سوى الحراك السياسي والمجتمعي النشط والواعي. ورغم توسع دستور 1923 في تحديد سلطات الملك قياسا على المتبع في الدول الملكية البرلمانية المعاصرة، تضمن الدستور تقييدا كبيرا لتلك السلطات قياسا على السلطات المطلقة التي كان يتمتع بها خديوي مصر فيما مضى على الأقل من الناحية الدستورية، وإن كانت تلك السلطات تعطل في أحيان كثيرة بسبب سيطرة قوة الاحتلال على الأمور بقوة الأمر الواقع. لكن أخطر تلك السلطات على الإطلاق هو حق حل مجلس النواب الذي كفلته المادة 38، وقد أورد الدستور هذا الحق خاليا من أي قيد أو شرط أو حد أقصى لمرات الحل، باستثناء عدم جواز حل مجلس جديد لذات السبب الذي حل الملك من أجله سابقه، وهو ما فتح الباب أمام الملك لحل البرلمان كلما اقتضت مصلحته السياسية ذلك. دستور 1930 : الانتخاب على درجتين، واشترط في ناخبي الدرجة الثانية نصابا ماليا تعددت صور انتهاك الملك وأحزاب الأقلية لدستور 1923، وبلغ ذلك مداه عام 1930 عندما كلف فؤاد الأول ملك مصر إسماعيل صدقي بتشكيل حكومة من الأحرار الدستوريين رغم حصول الوفد على الأغلبية الساحقة في البرلمان، وانتهى الأمر بإلغاء دستور 1923 وحل البرلمان وإعلان دستور جديد، و هو المعروف بدستور 1930 أو دستور صدقي باشا. لقد سحب هذا الدستور العديد من الاختصاصات من مجلس النواب، وأهدر الصفة النيابية لمجلس الشيوخ، ورفع نسبة الأعضاء المعينين فيه إلى ما فوق الأغلبية، وقلص من حق المواطن المصري في اختيار ممثليه مباشرة، فجعل الانتخاب على درجتين، واشترط في ناخبي الدرجة الثانية نصابا ماليا، مهدرا بذلك مبدأ المساواة بين المواطنين. اتفق حزبا الوفد والأحرار الدستوريين على عدم الاعتراف بدستور 1930 ومقاطعة الانتخابات التي تجري في ظله، واشتد الاحتجاج على المستويين الشعبي والسياسي، وبلغ ذروته في العام 1934 عندما رهن محمد توفيق نسيم موافقته على تشكيل حكومة جديدة بإعادة العمل بدستور 1923، وهو ما حدث بموجب الأمر الملكي رقم 118 في 12 ديسمبر 1935. دساتير الحقبة الناصرية: تعبير منفرد عن إرادة الحكام وانعكاس لعودة واستقرار الحكم الفردي بالدول العربية رغم تأكيد البيان الأول للثورة في 23 جويلية 1952 على أن الثوار سيراعون الالتزام بأحكام الدستور فإن إعلانا أصدرته الثورة ألغى دستور 1923، وتلا إلغاء الدستور حل جميع الأحزاب السياسية ومصادرة أموالها وإعلان فترة انتقالية لمدة ثلاث سنوات بغرض “إقامة حكم ديمقراطي دستوري وسليم” . وصدر إعلان دستوري في 10 ديسمبر 1952 يقرر تشكيل “لجنة تضع مشروع دستور جديد، يقره الشعب، ويكون منزها من عيوب الدستور الزائل محققا لآمال الأمة في حكم نيابي نظيف سليم”. وقدمت اللجنة مشروع دستور 1954 الذي لم يعتدّ به مجلس قيادة الثورة. والأرجح عند مقارنة نصوص مشروع دستور 1954 بدستور عام 1956 الذي صدر لاحقا هو أن مجلس قيادة الثورة لم يجد أن مشروع الدستور الذي أعدته اللجنة جاء مواكبا لرغبة الضباط الثوار في الانفراد بالحكم. وعندما صدر الدستور المؤقت للجمهورية العربية المتحدة التي ضمت مصر وسوريا في 1958 بدا واضحا للغاية أن هذه الوثيقة ما هي إلا تعبير منفرد عن إرادة الحكام وانعكاس لعودة واستقرار الحكم الفردي في الدول العربية. لم يتضمن الدستور المؤقت الديباجات المعتادة، وإنما اشتمل على العديد من العناصر الأيديولوجية الاشتراكية التي ميزت نظم الحكم العربية في تلك المرحلة. وفي العام 1964 وبعد انهيار الوحدة بين مصر وسوريا انتقلت مصر من دستور مؤقت إلى دستور مؤقت جديد، مع وعد هذه المرة بدستور دائم يطرحه مجلس الأمة على الشعب، وهو ما لم يتحقق حتى 1971. وجاءت اختلافات دستور 1964 عن دستور 1958 طفيفة، ولعل أهمها منح مجلس الأمة حق سحب الثقة من الحكومة كاملة، وهو واقعا غير متصور مع سيطرة التنظيم الحزبي الأوحد على المجلس، وسيطرة السلطة التنفيذية شبه الكاملة عليه. دستور 1971 وتعديلاته: وثيقة انفرد بإصدارها الحاكم السادات للتحكم الكامل في السلطة حتى بداية عصر السادات استمر وضع الدستور على ما هو عليه وثيقة ينفرد بإصدارها الحاكم ويسعى من خلالها للتوصل إلى وضع سياسي يسمح له بالتحكم الكامل في السلطة في إطار من الشرعية الشكلية وتطويع الجماعات السياسية، انعكس ذلك على دستور 1971 الذي أصدره السادات طلبا لشرعية جديدة، وأوضحت التعديلات التي تلته ابتعاد النخبة الحاكمة عن المبادئ الاشتراكية ومحاولة التقرب من التيارات الإسلامية. وقد أعد دستور1971 لجنة مكونة من 80 فردا عينها مجلس الشعب من بين أعضائه وغيرهم من ذوي الخبرة، وذلك بناء على طلب قدمه للمجلس أنور السادات بصفته رئيسا للجمهورية. وتعد التعديلات المتتالية لدستور1971 منذ إصداره حتى سقوطه نتيجة لثورة 25 جانفي2011 خير دليل على استخدام الحكام في تلك الفترة للدستور غطاء لهم يساعدهم على الانفراد بكل السلطات. إذ يعد تعديل العام 1980 مناورة سياسية عمد بها السادات إلى تمرير النصوص الدستورية التي تضمن بقاءه في الحكم و ترسيخ رؤيته الاقتصادية، مقابل توسيع نطاق المادة الثانية من الدستور لتصبح مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع، سعيا لجذب تأييد التيارات الإسلامية ومغازلة النزوع الديني لدى جماهير الشعب المصري. تعديلات 2005 : أدخلت الإجراءات الاستثنائية التي خرق بها مبارك حدود الحريات والحقوق الدستورية أما تعديلات العام 2005 التي قام بها نظام حسني مبارك وحولت نظام اختيار رئيس الجمهورية إلى نظام انتخاب بين مرشحين متعددين نظريا، فقد بدت رد فعل لتنامي الحركات الاحتجاجية في مصر مع بداية القرن ال21 والضغط الذي وضعته الإدارة الأمريكية في هذا الوقت على نظام مبارك لإجراء إصلاحات سياسية. وقد تضمنت تعديلات العام 2007 إزالة العديد من الإشارات الشكلية للاشتراكية التي تضمنها الدستور، بينما تمثلت التعديلات الجوهرية في إلغاء الرقابة القضائية الكاملة على الانتخابات التشريعية وحصرها في اللجان العامة، وهي في حقيقتها رقابة شكلية، كما أدخلت تلك التعديلات الإجراءات الاستثنائية التي خرق بها نظام مبارك حدود الحريات والحقوق الدستورية في صلب الدستور، فسمحت لرئيس الجمهورية بإحالة الجرائم المتعلقة بالإرهاب إلى القضاء الاستثنائي، والسماح صراحة بتجاوز الحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور لغرض مكافحة الإرهاب دون رقابة قضائية مسبقة. ويعد الكتاب في عمومه جهد علمي مجرد، لكنه شديد الارتباط بالواقع لا ينفصل عنه، بل يسعى لإلقاء الضوء على التاريخ الدستوري المصري من واقع الوضع السياسي والاجتماعي الفريد الذي واكب إعداد البحث وألقى بظلاله على اتجاهه وأسلوبه، وهو الجدل السياسي والاجتماعي الدائر في مصر حول صياغة دستور مصري وبناء مؤسسات مصرية جديدة في أعقاب ثورة 25 جانفي2011 . ومن أبرز ما يلاحظه القارئ دخول مقال للدكتور محمد نور فرحات منفصل عن منهج الكتاب وتحديدا في سياق تناوله الإعلان الدستوري للعام 2011 ودفاعه الحماسي عن رأيه الشخصي المعارض لطرح التعديلات والتصويت عليها ب “نعم”، وإن يكن ذلك تجافيا عن حيادية التأريخ، فإنه لم يفقد المؤلف موضوعيته، حينما ينحّي اختلافه جانبا ويقرر أنه “لا شك أن جهد اللجنة (التي صاغت التعديلات المستفتى عليها) قد أسفر عن نتائج لم تكن تدور في خلد المصريين منذ أسابيع قبل انعقادها”، في حفاظ على منهجية واحترافية المؤلف كأستاذ قانون مرموق في بحث محكم.