تختتم اليوم الأربعاء بعاصمة الثقافة الاسلامية تلمسان أعمال الملتقى الدولي الأول "مالك بن نبي واستشراف المستقبل" برعاية سامية لرئيس الجمهورية وتنظيم مشترك بين وزارتي الشؤون الدينية والثقافة. ويأتي هذا الحدث البارز في تاريخ الجزائر الثقافي وسط قحط فكري واسع نجم عن السياسة الثقافية المتبعة في البلاد خلال الفترة التي أعقبت التحول نحو التعددية الحزبية واقتصاد السوق. وعلى الصعيد الخارجي يأتي الحدث متزامنا مع دخول البشرية قرن الفكرة الاقتصادية وما تحمله من مضامين المنافسة والتفوق والنشوء وذلك تمهيدا لقرن الفكرة الثقافية التي عليها نسج هيمنة من طراز جديد أي هيمنة الأفكار الحضارية على مشاريع التنافس بين الدول. فهل نجح المهتمون بفكر الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي والمجتمعون بتلمسان في قراءة فكر الرجل صاحب نظرية "النهضة الحديثة للعالم الاسلامي؟ وما هي الرسالة التي أطلقها المتدخلون في المؤتمر والتي على مراكز القرار الثقافي في العالمين العربي والاسلامي التفاعل معها في سبيل تحقيق نهضة حقيقية للشعوب التي تعاني اليوم من مخلفات الاستعمار الثقافي أكثر مما عانت سابقا من الاستعمار السياسي والعسكري؟ الحاضر يصنع في المستقبل تحولت قاعدة "الحاضر يصنع المستقبل" الى قاعدة أخرى هي المستقبل يصنع الحاضر، وذلك على خلفية التقدم المذهل في حقل الاستشراف وتدخل الأدوات الكمية باقتدار في مجالات العلوم الاجتماعية والانسانية أغلبها. وهكذا لم يعد من الممكن صناعة الحاضر بنجاح بمعزل عن اتجاهات الأحداث المتوقعة في المستقبل وهو ما كان يمارسه بإعجاز فيلسوف الجزائر ابن نبي وهو يبني فكرته عن شروط الحضارة ومشكلة الأفكار في العالم الاسلامي، ولم يعد خافيا على دارسي فكر الرجل أن نظامه في التفكير سمح له بتحديد المشكلات الحقيقية للعالم الاسلامي ليس تحت ظروف السكون أي الزمن الميت بل في سياق الوقت الذي من شأنه صناعة الأحداث في ظروف تاريخية محددة، ولنتأمل فيما كتب ابن نبي ضمن مؤلفه "تأملات": "مشكلات التخلف تهم البلاد الاسلامية لأن هذه البلاد تواجه الأزمة الاقتصادية لا من الناحية المادية فحسب ولكن من الناحية المعنوية أيضا لأنها ترتبط روحا وفكرا بالعصر الذي يجعل القيم الاقتصادية في الدرجة الأولى من سلم القيم". والرسالة في هذا أن على المسلم في عالم يتحرك أن يتحرك هو الآخر وأن التحرك يكون في اتجاهات ممكنة عدة، وفي حين يتحرك العالم الرأسمالي في اتجاه الفكرة المادية تماشيا من نظامه في الحياة وامكانياته يكون على المسلم الاتجاه في تيار مكمل أي في اتجاه حفز القيم المعنوية والاجتماعية لأنها وحدها الكفيلة بتجنيبه حالة التخلف والباعث الى ذلك سلم القيم الروحية للمجتمع الذي نسميه المجتمع المسلم، ومن هنا ينبغي على واضعي السياسات في العالم الاسلامي إطلاق الخطط الملائمة للوضع الدائم أي الوضع المستقبلي وليس للوضع الحاضر المتسم ببقايا الاستعمار. عنصر الفعالية لماذا ظلت الشعوب الاسلامية بعد استقلالها عن المستعمر خالية من عنصر التأثير في اتجاهات العالم؟ بل لازالت دولنا العربية والمسلمة تراوح دائرة الاستجابة والانفعال دون الاجابة والفعل، وظلت دول منها لمدة جاوزت نصف القرن من الاستقلال تجر أذيال التبعية لمراكز القرار الخارجية حتى طالت تلك التبعية حقولا لم يتخيل أحد أن تطالها كالثقافة واللغة ونظم التفكير والتعليم، يحدث هذا في شروط توفر الثروة وتزايد السكان واتساع الأرض والموارد المادية. ويحق لأجيال الاستقلال مساءلة واضعي السياسات في العالم الاسلامي عن تفسير ذلك، وقد يأتي الجواب مبهما أو لا يأتي أبدا، ولكن ابن نبي يصف لنا وضع التأثر بدل التأثير بوضع غياب عنصر الفعالية وأن الفعالية لا تعني بالضرورة توفر الشروط المادية التي مصيرها التراكم أوالتخزين ولكن الحركة الدافعة التي تتركب في بناء الشخصية عن طريق تأليف للمقومات الأولية: اليد والفكر والمال بمعناه الصحيح. ويعني المال بالمعنى الصحيح العمل المخزون إذ لا قيمة مادية خارج العمل وأن رأس المال لا يعدو أن يكون عملا مخزونا. ويفهم من ذلك أن لا فعالية خارج شروط العمل والفكر والساعد. وهي نفسها العناصر الغائبة في خطط التنمية لدولنا الاسلامية. ولو أذن الله لمالك بن نبي أن يعيش أطول لرأى رأي العين كيف أن نظريته في الفعالية أثبتت صحتها في المشهدين التركي والماليزي في الربع الأخير من القرن الماضي، فالبلدان المسلمان لا يملكان من القيم المادية الشيء الكثير وظلا لوقت طويل يجربان أنماطا للنمو دون تقدم، ولم يحدث أن صنعا شيئا ذا بال إلا في اللحظة التاريخية التي اكتشف فيها البلدان جدوى التعليم لصناعة الفكرة، وجدوى اليد في صناعة العمل، وجدوى العمل في صناعة الثروة، وهي نفسها تركيبة الفعالية أي التمثيل النفساني لعناصر الثقافة عندما يمتصها الفرد في الجو الاجتماعي، ولهذا ينتظر من المشهدين الماليزي والتركي الشيء الكثير خلال القرن الواحد والعشرين في اتجاه بناء نموذج اسلامي للتنمية يتجاوز بأشواط نموذج النمو الرأسمالي، وفي ذلك رسالة أخرى لمراكز القرار العربي والاسلامي إن هي أرادت لشعوبها التقدم في مسارات أكثر متانة. حقيقة، قدم مؤتمر تلمسان عن الاستشراف في فكر مالك بن نبي للمشاركين وجبة من الأفكار الناضجة في أبرز اشكالية تواجه العالم الاسلامي على عتبات القرن الجديد: أي موقع في عالم يبني حاضره على سلم اتجاهات المستقبل، ويؤمن مستقبله على سلم امكانياته الذاتية بأبعادها المختلفة.