ما أشبه اليوم بالبارحة، هي نفس الظروف التي عشناها منذ عشريتين، تتكرر اليوم، والتاريخ دائما يعيد نفسه عندما تتكرر نفس الظروف والأسباب، فإقرار التعددية السياسية في 1990 ولَّد أحزابا بالجملة خرجت كلها تقريبا من رحم الحزب الواحد، وكان هدفها وبرنامجها الوحيد آنذاك هو ضرب الحزب العتيد والقضاء عليه، حيث كثرت السكاكين من حوله داخليا وخارجيا، اعتقادا من قادة الأحزاب التي بلغت الستين، أن إنهاء دور حزب جبهة التحرير يمهد لبروز نظام جديد قادر على تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية.. ويدفع البلاد نحو التقدم والرقي والازدهار..! لكن بعد تجربة قصيرة تبيّن لهم وللجميع أن حساباتهم كانت خاطئة، لم تؤسس على قواعد علمية، بل كانت العاطفة هي التي تتحكم في عقول الذين جاءوا بأفكار غير واقعية، لا تساير ما يجري في العالم من تطورات وإيديولوجيات وتكتلات، فوقع ما وقع وتحولت الجزائر، التي عاشت سنوات الهدوء، إلى براكين من النار مخلفة حممها في كل مكان، وعمّ الحقد بين الأفراد متحزبين وغير متحزبين، وسادت تصفية الحسابات والانتقامات، وأصبح الكل يخاف من الكل، انعدمت الثقة والأخوة وحلّت محلّها العداوة حتى في العائلة الواحدة.. في تلك الفترة يمكن تبرير ذلك بنقص التجربة السياسية والتعطش إلى حرية التعبير وإبداء الرأي والتطلّع إلى الوصول للحكم، وهو طموح مشروع إذا كان بالوسائل والطرق القانونية المشروعة. غير أن الأيام والسنين أثبتت أنه لا يمكن الاستغناء عن حزب أصيل يضرب جذوره في أعماق التاريخ الذي صنعه أبطال قلّما تجد أمثالهم اليوم، رجال عاهدوا ووفّوا.. مهما كانت الأخطاء التي ارتكبت من طرف الخلف، لأن الأخطاء من صفات الإنسان، وخير الخطائين التوابون.. ونظرا لامتداداته التاريخية والشعبية، استطاع حزب جبهة التحرير الوطني، أن يستعيد مكانته ويبعث من جديد بعد أن كان يحتضر وفي طريقه إلى المتحف بسبب الضربات الموجعة التي تلقاها من الأعداء والأصدقاء وحتى الأبناء، ليعاود قيادة البلاد إلى جنب حزب التجمع الوطني الديمقراطي الذي ولد في ظرف عصيب، حيث كانت الجزائر تعيش فراغا سياسيا رهيبا، واستطاع هذا الحزب أن يجمع شتات الشعب ويلمّ الأحزاب التي لم تكن تعرف ماذا تفعل لإنقاذ البلاد من الخراب والجمود الذي أصابها، حيث كان كل شيء متوقفا عن النشاط والحركة.. وبالتالي استطاع (الأرندي) أن يخرج الجزائر من عنق الزجاجة، ويمنح الشرعية لكل مؤسسات الدولة عن طريق الانتخابات، مهما قيل ويقال عنها، وأخرجتها من المرحلة الانتقالية غير المعترف بها دوليا، حيث عاشت في تلك الفترة العزلة التامة من المجتمع الدولي، الذي لا يتعامل إلا مع المؤسسات الشرعية التي تأتي بها صناديق الاقتراع. إن الحنكة السياسية والقدرة على التعامل مع الأحداث الطارئة، والوطنية الحقّة التي كان يتمتع بها رجال تلك المرحلة الصعبة، هي التي مكنتهم من السيطرة على الأوضاع الأمنية الخطيرة، التي راح ضحيتها آلاف الجزائريين، والتي تسببت في مأساة وطنية حقيقية.. وشيئا فشيئا عادت الأمور إلى نصابها الطبيعي، فعمّ الأمن والاستقرار والحريات، واندمج الجميع في خدمة الوطن، بعيدا عن الحسابات السياسية الضيّقة التي أوصلتنا إلى حافة الانهيار. اليوم، وبعد أن أصبحت الجزائر واقفة، واسترجعت مكانتها بين الدول، وتلعب دورا محوريا في القضايا العربية والإقليمية والدولية، وتحولت إلى شريك يعوّل عليه في إيجاد الحلول للأزمات الدولية المعقدة.. أخشى عليها من عدوى التطورات التي تعيشها المنطقة العربية التي تحرّك خيوطها فرنسا وأمريكا ومن بعض الأحزاب الجزائرية التي ركبت الموجة بحسابات «سياسوية انتخابوية» مهملة الحسابات الصحيحة، وما ينتظر الجزائر من أخطار في حال وصول الرياح الغربية العاتية التي تسخّرها عليها أمريكا وزبانيتها من الدول الغربية وبعض العربية والمواطن البسيط يعرف ماذا تعني «فرنسا» التي تمجّد الاستعمار والجرائم التي ارتكبها جنرالاتها وجنودها في حقّ الشعب الجزائري الأعزل طيلة 132 سنة وترفض الاعتراف بجرائمها رغم مطالب الأحزاب والمجتمع المدني والأسرة الثورية. أما أمريكا فحدث ولا حرج، فهي التي ترعى وتحمي كل المصالح اليهودية في العالم، وبالأخص في فلسطينالمحتلة. أعود وأقول أخشى أن يعيد التاريخ نفسه، لاسيما ونحن مقبلون على انتخابات تشريعية مصيرية.. لأن الأحزاب التي تأسست حديثا بعد الإفراج عن قانون الأحزاب، والأحزاب التي كانت من قبل، ولكنها غير موجودة في الواقع، أعادت الكرة ثانية وسخرت هدفها و«برنامجها» لضرب الحزبين الكبيرين (الأفلان) و(الأرندي) وفقط، تحالفت فيما بينها ووجهت كل سهامها نحوهما وحمّلتهما نتائج كل الأخطاء.. وبالمقابل تنكرت لكل إنجازاتهما في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحتى على المستوى الدبلوماسي. ويكفي أن نعود قليلا إلى الوراء لنعرف كيف استطاع هذان الحزبان (الأفلان) و(الأرندي) أن يخرجا البلاد من وضع مأساوي متعفّن تسببت فيه السياسة والصراع على «الكرسي» بأقل الأضرار الممكنة، لأن الجزائر كانت مقبلة على حرب أهلية لا تبقي ولا تذر.. لولا الحكمة والرّزانة التي تحلّى بها المسؤولون آنذاك بالتعاون مع بعض الأحزاب والشخصيات الوطنية، التي لم تبخل بآرائها وأفكارها التي ساهمت في حلّ الأزمة. ولئن كان التاريخ يعيد نفسه في الحملة الشّرسة التي يتعرض لها الحزبان الكبيران لإسقاطهما بالضربة القاضية.. فإن التاريخ يعيد نفسه كذلك في انتصار الحزبين على المناوئين والمشككين، لا تزعزعهما صيحات وافتراءات الذين يكلفون أنفسهم عناء ركوب موجة «الربيع العربي» التي ينتظرون أن تقودهم إلى الحكم على «أنقاض» «الأفلان» و«الأرندي» .. لكن «يا جبل ما يهزّك ريح».. كما قال الشهيد ياسر عرفات، رحمه اللّه، ونحن نقول البقاء للأصلح ولا نقول للأقوى.