خطاب العقلانية موجود في المقاربة الجزائرية أكّد الدّكتور سمير محرز، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدّولية بجامعة تيسمسيلت، على حتمية التّعجيل بالخيار السياسي باعتباره الحل الوحيد لوقف الاقتتال في الأراضي اللّيبيّة، معتبرا أنّ الأزمة السياسية والأمنية اللّيبية هي اليوم محورا أساسيا في أجندة الرئيس والدبلوماسية الجزائرية، لها انعكاسات وتداعيات على الوضع الاقليمي عموما والجزائر بشكل خاص. وتطرّق الباحث المختص في الشّؤون الأمنية، في حوار خصّ به “الشعب”، الى مسائل تخص الملف الليبي معرجا على الزّيارة الأخيرة التي قادت وزير الخارجية الجزائرية إلى روسيا. - الشعب: حذّر الرّئيس الجزائري عبد المجيد تبون من تدهور الوضع في ليبيا، مؤكّدا أنّه يسير باتجاه السيناريو السوري، وقال: “خطّتنا واضحة، لا للحسم العسكري، نعم للنّقاش والحوار، لأنّ الدم الذي يسيل هو دم ليبي، وليس دم الجهات التي تخوض هناك حربا بالوكالة”، لماذا لا تلتزم الأطراف الدولية بنزع فتيل الحرب، بدعوات التّهدئة مثلا؟ الدكتور سمير محرز: الرّئيس تبون، ومنذ وصوله لرئاسة الجمهورية، كان حريصا على إيجاد حلّ للأزمة السياسية والأمنية في الجارة ليبيا وفق نظرة إيجابية توافقية ترضي كل الأطراف المتصارعة مع التعجيل بالتسوية السياسية باعتبارها السبيل الوحيد لوقف الاقتتال واستعادة الاستقرار. وعليه، تشكّل الأزمة السياسية والأمنية اللّيبية اليوم محورا أساسيا في أجندة الرئيس والدّبلوماسية الجزائرية، ممّا لها من انعكاسات وتداعيات على الوضع الإقليمي عموما والجزائر بشكل خاص. ليبيا تتشارك معنا بحدود تتجاوز 900 كلم، لهذا تحرّك الجزائر جاء لوضع حدّ لطموحات قوى إقليمية تزيد من تعقيد وتأزيم الوضع الأمني، حيث صرّح الرّئيس تبون أثناء استقبال مبعوثة الأممالمتحدة في ليبيا “ستيفاني ويليامز” بأنّ هناك دول أخلّت بالتزاماتها تجاه ليبيا من خلال دفع اللّيبيّين لحمل السّلاح، وإجابة على سؤالك يمكن القول بأنّ السبب الوحيد لعدم التزام الأطراف الخارجية بوقف التصعيد، هو تنافسها من أجل الظفر على كعكة مليئة بالخيرات والثروات الباطنية والحيوية، وتعزيزا لمصالحها الاقتصادية بعيدا عن الاعتبارات الإنسانية وسلامة الشعب الليبي، وهذا الأمر خطير على الأمن الليبي والإقليمي ممّا يجعل الجزائر تحرّك آلتها الدبلوماسية. - أكّد وزير الخارجية صبري بوقدوم موقف الجزائر الثابت وبقاءها على مسافة واحدة من الفرقاء في ليبيا والتّواصل مع جميع الأطراف المتنازعة لإيجاد حلّ سلمي، ما هي أهم النّقاط التي جعلت الجزائر ثابتة في موقفها منذ بداية الأزمة؟ معروف جدا عن الدبلوماسية الجزائرية بأنّها ثابتة ولا تتغير في العديد من الأحداث الدولية، لأن مواقفها غالبا ما تكون قريبة للعقل والمنطق، ومنسجمة مع مبادئ الأممالمتحدة في الكثير من المحطّات التّاريخية، والمواقف التي اتّخذتها الجزائر تجاه الجارة الليبية قد جرّبتها سابقا في مالي، واقتنعت كل الأطراف الدولية آنذاك بقوّتها وأهميتها، وبالتالي فإن أهم النّقاط التي ركّزت عليها الجزائر واضحة تتمثل في تنسيق الجهود الدولية في إطار الأممالمتحدة، السعي لاستئناف الحوار بين الفرقاء الليبيين ومرافقتهم دون التدخل في شؤونهم، تغليب الحل السياسي على العسكري وتجريم أي تسليح للجماعات والميليشيات، ولعل أهم موقف والذي لم يتحدّث عنه الكثير من الملاحظين والمتتبّعين للشأن الليبي هو سعي الجزائر في دسترة المؤسسات الليبية، وهذا ما جعل المواقف والثوابت الجزائرية لا تتغير. ليبيا أصبحت بمثابة رقعة شطرنج - دخلت عديد الأطراف الدولية المشهد الليبي، وكل طرف يريد حلاّ مناسبا له بعيدا عن مصلحة الشعب الليبي، وموقع البلد الاستراتيجي في المنطقة، ناهيك عن الثّروات التي يزخر بها فيما اختفت بعض الفواعل من الخارطة كإيطاليا مثلا، أين يكمن الخلل؟ وهل لعبة تدوير للمهام فقط؟ يجب أن نتّفق على نقطة أساسية وهي أنّ المشكل الأساسي في تأجيج الوضع في ليبيا كان داخليا، والأطراف المتصارعة، سواء قوات حفتر أو حكومة الوفاق الوطني هي من منحت الفرصة للقوى الدولية للتدخل، والمشكل أن كل جهة اختارت معسكرا إقليميا ودوليا تتخندق معه، وهذه الأخيرة وجدت الفرصة لكي تكون وصية على الشعب الليبي بغير وجه حق، فتركيا تنسّق مع حكومة الوفاق الوطني، ومصر تتعاون مع ميليشيات الجنرال حفتر بداعي تضييق الخناق على الطموح التركي في ليبيا، ودعوة الرئيس الفرنسي ماكرون بالتحرك الأوروبي ضد التنسيق التركي والروسي، والصمت الغامض لإيطاليا التي ترتبط تاريخيا بعلاقات مع ليبيا. وبالتالي نلاحظ أن ليبيا أصبحت بمثابة رقعة شطرنج بين القوى الدولية في تسليح القبائل وتهريب النفط للخارج والسعي لإقامة قواعد عسكرية بحكم الموقع الاستراتيجي ليبيا في شمال إفريقيا، والخلل الوحيد في كل هذا هو ضعف الطرف الداخلي لصالح الفاعل الخارجي، وعوض أن تتوجه الأطراف المتصارعة للشعب الليبي أولا والأممالمتحدة ثانيا، توجهت إلى الأطراف والفواعل الدولية وهذا ما زاد من تعقيد الوضع الأمني أكثر. - جهات عديدة لا تحترم مخرجات مؤتمر برلين الدّاعي إلى منع تزويد الأطراف اللّيبية بالأسلحة، ما هي الحلول الممكنة للحد من تنامي ظاهرة السّلاح في ليبيا؟ الدّبلوماسية الجزائرية من خلال وزير خارجيتنا صبري بوقادوم في زيارته الأخيرة إلى موسكو، أعلنها صراحة أمام نظيره الروسي سيرغي لافروف بانزعاج وغضب الجزائر الكبير لإخلال الأطراف الدولية بمخرجات مؤتمر برلين الذي جرم فعل “تسليح القبائل والميليشيات”، للأسف هناك أطراف دولية لازالت تتعامل مع الميليشيات عوض التعامل مع الهيئات الرسمية والمؤسسات الدستورية، باعتقادي الحلول الممكنة مع تنامي ظاهرة التسليح في ليبيا، تتمثل في تسريع الحل السياسي وجمع الأطراف المتخاصمة إلى طاولة حوار واحدة تحت رعاية جزائرية بحكم أن المقاربة الجزائرية مقبولة شعبيا في ليبيا، ولا تعارضها الأطراف المتنازعة هناك لأنّها تنسجم مع طموحات الأممالمتحدة في حل الأزمة الليبية سلميا. تدخّل قوات حفظ السّلام الأممية قد يكون المخرج - تزامن الحشد غير المسبوق لقوات حكومة الوفاق في غرب سرت، وتهديد مصر بالتدخّل، مع إعلان الجزائر عن مبادرة لحل الأزمة الليبية تحظى بدعم الأممالمتحدة. فهل ستنجح هذه المبادرة في انتشال ليبيا من محنتها، أم سيكون مصيرها الفشل مثل المبادرات السابقة؟ ميدانيا، ما تقوم به قوات حكومة الوفاق الوطني في غرب سرت منطقي ومعقول جدا، وهذا بعد التلويح المصري بالتدخل العسكري والتحركات التركية غير البريئة، إضافة لمعرفتنا بأن منطقة غرب سرت ترتكز فيها الكثير من الميليشيات التابعة لقوات حفتر، وتواجد الكثير من آبار النفط المختطفة من طرف هذه الجماعات، وصولا لتواجد الكثير من المرتزقة الأفارقة المجنّدين من طرف الميليشيات، ممّا جعل حكومة الوفاق الوطني تتحرك لوقف الكثير من هذه المشاكل التي تعرقل مسار التسوية والوصول للحل السياسي الجامع في ليبيا، كجزائريين نحن ضد أي تدخل خارجي مهما كان نوعه وصفته، إلاّ أنّني أرى بأنه إذا تعقّدت الأمور أكثر في منطقة غرب سرت، فمن الضروري والواجب تدخل قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة لوقف هذا العنف والإرهاب بشكل نهائي مع ضرورة انسحاب كل الأطراف الخارجية. - أكّد صبري بوقدوم، استعداد الجزائر لاحتضان أي حوار سياسي بشأن ليبيا يجمع الفرقاء إلى طاولة الحوار، هل يعني هذا أنّ أمن واستقرار ليبيا مهم للأمن القومي الجزائري وتحوّل ليبيا إلى صومال الجديد؟ باعتقادي الشّخصي، أرى أن زيارة وزير الخارجية صبري بوقدوم الأخيرة إلى روسيا جاءت في الوقت المناسب، حيث قدّم رسائل ايجابية ومطمئنة من موسكو أنّ الجزائر مصمّمة على البقاء على مسافة واحدة من كل الفرقاء في ليبيا، وترفض أي تدخل خارجي، لأن هذه التدخلات هي ما يعرقل مسار التهدئة والاستقرار الداخلي وتنعكس سلبيا على دول الجوار. ما أراه مهما في المقاربة الجزائرية من خلال تصريحات بوقادوم، أن الجزائر ثابتة في مواقفها الدبلوماسية تجاه الجارة الليبية ومستعدّة للتواصل مع جميع الأطراف المتنازعة لإيجاد حل سلمي وتوافقي بعيدا عن أي إملاءات خارجية غير بريئة، كما أنّها متمسّكة بمخرجات مؤتمر برلين بخصوص منع تسليح القبائل والميليشيات، ولهذا قال بوقادوم أن “صوت الجزائر سيكون أعلى لأن النيران أصبحت قريبة منها وتهدد أمنها” بمعنى أن أمن ليبيا أصبح آليا من أمن الجزائر. الحلّ بيد الشّعب اللّيبي لا غير - حتى يتمكّن الشّعب الليبي من إعادة بناء دولته في إطار الشرعية الشعبية، وبما يضمن وحدتها الترابية وسيادتها الوطنية، الأمر مرهون بزوال التدخلات العسكرية الأجنبية، فهل يتحقّق هذا قريبا؟ نعم يمكن للشّعب الليبي إعادة بناء دولته في إطار الشرعية الشعبية إذا وضع صراعاته القبلية جانبا، صحيح، نعلم بأنّ ليبيا قامت على تجمّعات شعبية وتكرست بشكل أكبر في وقت الراحل معمر القذافي والتوجه نحو المؤسسات الدستورية سيأخذ بعض الوقت، ولكن يجب أن يفهم الشعب الليبي بأن الحل بيده، فلو توحدت كل القوى والأطراف في سبيل وحدة ليبيا أولا وفي إعادة الشرعية ثانيا ستختصر الكثير من المسافات وستوقف أيضا الكثير من الطموحات الإقليمية والدولية والتدخلات العسكرية الأجنبية. - الاختلاف في المواقف بين فرنساوإيطاليا قد يمنع المبادرة الجزائرية من تحقيق غايتها، ونفس الرفض امتد إلى تركيا ومصر اللّتين تديران الصّراع انطلاقا من اللعبة الصفرية، ولم تتوصّلا بعد إلى مرحلة العقلانية في معالجة الأزمة، فهل يهدأ الصّراع أم أوزار الحرب تسبق ذلك؟ فرنسا تحرّكت عبر عدّة أصعدة منذ سنوات، ومواقفها لم تكن ثابته تجاه الأزمة الليبية، فهي تحاور “السراج” أمام شاشات الكاميرا، وتتعامل مع “حفتر” في الكواليس، إيطاليا علاقاتها الآن مع ليبيا تجارية بامتياز ورغبتها في بقاء علاقتها جيدة مع الحكومة الليبية، إلا أن الدولتين لهما تنافس كبير فيما يخص التموقع على الأراضي الليبية مستقبلا، تركيا تتحالف مع حكومة السراج ومصر تتعاون مع خليفة حفتر، كل هذه التوازنات الإقليمية والدولية لن تخدم السلام والاستقرار والأمن في ليبيا، شخصيا أرى بأن خطاب العقلانية موجود في المقاربة الجزائرية. - تمركز الجماعات الإرهابية في مناطق إستراتيجية ودعمها اللّوجيستي والقاعدي من بعض الجهات، ألا يشكّل ذلك خطرا على المنطقة؟ نقطة مهمة يجب أن نؤكّدها، الحدود الليبية منكشفة أمنيا، بمعنى أنّ العديد من الجماعات الإرهابية تنتقل من ليبيا إلى تشاد والنيجر وحتى مالي، كما لا ننسى بأنّ بعض الميليشيات انتقلت من شمال دارفور المتأزّم أمنيا تجاه غرب سرت للتعاون مع قوات حفتر، ودخول بعض المرتزقة الأفارقة بالتنسيق مع الجماعات الإجرامية وشبكات تهريب البشر بنية العبور الى الضفة الشمالية، إلا أنّ غالبيتهم يستقر في ليبيا ينخرط مع القبائل والميليشيات التي تتحارب هناك، وعليه، كل هذه التّحرّكات الميدانية تشكّل خطرا على الأمن الوطني الجزائري والإقليمي المغاربي، وعلى منطقة الساحل الإفريقي. - كملاحظ للشّأن اللّيبي، كيف ترى مستقبل ليبيا؟ مستقبل ليبيا في يد شعبها من خلال الامتثال للشّرعية الشّعبية، والجلوس إلى طاولة حوار تجمع كل الأطراف المتصارعة والمتنازعة، ثانيا وضع مصلحة ليبيا واستقرارها فوق كل اعتبار، وأخيرا أدعو كل الأطراف اللّيبيّين للعمل على الأجندة السياسية الجزائرية لحل الأزمة مادامت موجودة، والوثيقة حاضرة كما قال الرئيس عبد المجيد تبون والعمل عليها من أجل تمكينها ميدانيا.