نوفمبر، إنّه تاريخ اندلاعِ حرب التَّحرير الكبرى، حدثٌ ذو أهمية خاصة يستحقُّ تسليط الضوء عليه لأنه أبْعد ممَّا وصفته الخطابات والكتابات المعرفية التي طَوَّرت العديد من المقاربات السوسيو-تاريخية والتأريخية لفهم ظروف حدوثه، ولم تصِل بعدُ إلى نهاية النفق لإبراز المعنى الحقيقي لمثل هذا «الاستثنائي» في أصالته. إن 1 نوفمبر ليس ولادة تاريخٍ عادي، إنّه «حَدثٌ»، وقوةٌ مشتقَّة من مصادر تمزِج بين العقلانية والروحية. أعاد «حدثُ نوفمبر» تشكيل أمَّةٍ كانت انفرطَت بعض وحداتُ تماسكها نتيجة استبداديَّةٍ استعمارية بغيضة، وجاءت ثورة التحرير لتعطي هذه الأمة نظام حياةٍ بالنور خُطَّ وباللهب، وشكَّلت القضية الوطنية مرجعيةً لقيم الانتماء والالتحام والتعاضد، وللتمييز بين الصواب والخطأ، وكانت معدنًا أصيلا لصلابة الحشد الجماهيري، الذي تضامَن في نوفمبر مُنهيًا سنواتٍ من الفرقة والخِلاف داخل الحركة الوطنية، وانصهرت بفعله الذوات الفردية في الذات العامة، وبرزَ لقيادةِ مصير الأمة جيشُ التحرير وجبهته، فكَانا ضَوأيْن بِدَاجينا، وصنَعا عناصر التَّوافقِ ووحدة الصفِّ القومي. انتفاضة شباب محتكِم إلى العقل استجمع «حدثُ نوفمبر»، وهو يستعيد الثورة من أزلٍ القوة الغضبية الكامنة في نفس الجزائري، قوةٌ مطابقةٌ تمامًا لوصفٍ قديمٍ كان أفلاطون قد وصف به من خلال محاورة سقراط لأديمانتوس نفس الفرد من حيث أنها تستبطن الشجاعة والحكمة، فقال: «إنّنا نسمِّي الفرد شجاعًا بفضل هذا الجزءِ الغضبي الثاني من طبيعته (يقصد بالجزء الأول العقل)، وذلك عندما تتمسَّك القوة الغضبية في الإنسان، رغم ما تشعر به من آلامٍ ولذَّاتٍ، بالأحكام التي يضعُها العقل بشأن ما ينبغي أن تخشاه وما ينبغي ألَّا تخشاه». وذلك ما يجعل من انتفاضة شبابِ نوفمبر غضبًا محتكِمًا إلى العقل، شجاعةٌ ممتزجة بالحكمة، وهي ليست «مغامرة» ثورية انطلقت في عَجلة، وغيَّبت كل تنظير، أو كانت ذات طابعٍ غامض وغير مكتملة، وهدفها منحصرٌ فقط في تحطيم النظام الاستعماري، كما زعَم أحد المؤرخين الحاقدين الذي ينتمي إلى حقل كتاباتٍ سوسيو- تاريخيَّة مُطيعة لتأويلات سلط(ات)ةٍ نيو-استعمارية تُجسِّد «نقيض الحدث». من هنا يظلُّ نوفمبر في انطلاقته وفي استمراريَّته عبارة عن قوة «الحَدث» في مقارعة «اللَّاحدث». ثورة نوفمبر ليست هي الأخرى مجرَّدَ وعيٍ طبقيٍّ لترتيب الأوضاع المادية وعلاقات الهيمنة والطبقية كما يرؤّج لذلك بعض المؤرخين أصحاب القراءات المختزلة الرامية إلى استبدال أيّ محدِّداتٍ دينية وثقافية ورمزية وتقليدية بأخرى دنيوية ومادية وحداثية ذات تأصيلاتٍ غربية إثنو-مركزية، بل إن هذه الثورة «قوةٌ أبديَّة» خاصَّة أعادت إنتاج الروابط الاجتماعية، القائمة على روح التضامن وفضيلة العدالة، التي وُجِدت قبل الرأسمالية بوقتٍ طويل؛ فبَنَت شكل الدولة المعاصرة التي تَسود في الأزمان. هُوَ ذَا «نداء» نوفمبر، إعلانٌ عن ميلاد دولةٍ دُستورها «بيان أول نوفمبر» كان بمثابة عقدٍ اجتماعيٍّ بين «الثوار المجاهدين» (السلطة السياسية والثورية) وبين «الجماعات التاريخية» المختلفة التي تحوّلت بموجب هذا العقد إلى «مجتمع سياسي». وانصبَّ عن هذا الدمج بين «روح الأمة» و»ميلاد الدولة» تشكُّل سيادة شعبٍ استطاع أن يتمايز خلال حرب التحرير وبعدها عن «الآخر» المتغطرس الذي حَلَم يومًا -رفقة بعض أتباعه- بأن يحقِّق إدماجًا وتدجينًا ولكنه رامَ المحالَ من الطَّلب. تغيير لا يخضع لقوانين شرطية لقد شكَّل «حدثُ نوفمْبر» سلاحَ الخير الذي يدكُّ معاقل الشرّ الاستعماري، شرٌّ بأتمِّ معنى الكلمة بما يتضمَّنُه من الغطْرَسة والجُرم وإرادة التسلُّط والهيمنة عن سبق إصرارٍ، وليس «شرًّا ريكوريَّا» (نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي بول ريكور) يتذرَّع بجبرية القدر واللا إرادي، ويبحث عن مصادره في الرموز والدين و»الأساطير»، أو يحصل كتعبيرٍ عن الجرح والضعف والهشَاشة العاطفية! و»حدث نوفمبر» حريَّةٌ أخلاقيَّة في مواجهة زيفِ «حرية الأنوار» التي ما هي إلا ظلماتٌ سوادُها قاتمٌ كسوادِ جرائم «مهمَّة نشر الحضارة» (mission civilizatrice) وحروب التوسّع الامبريالية. لذا كان تاريخ نوفمبر يسير باتجاه هدفٍ معين يحمل فكرةً عُليا وروحًا مطلقة أرغمت التاريخ الكوني على أن يتقدم خطوةً إلى الأمام تعتلي قاطرته «ثورةٌ مجيدة» تصنع قوةً معنويَّة لحركات التحرُّر عبر العالم، وإذ بها تستنطق فلسفة هيجل حين اعتبرت أن الوعي بالذات هو ما يجعل الإنسان حُرا؛ وعيٌ بالثورة يلامسُ الكينونة عينها، ويدفعها لاستكشاف حقيقة وجودها وبواعث انتفاضتها ونهايات حركتها ومُدركات عيشها وسلوكها إزاء ذاتها وإزاء «الآخر» المختلف؛ وعيٌ ذاتي وجماعي لبناء الدولة. وإن «ثورة نوفمبر» لم تكن تغييرًا عاديا أو حدثًا عرضيًا في التاريخ، ولا وعيًا آنيا أو انتفاضةً زمنية على ظروف اقتصادية واجتماعية، وهي ليست تغييرًا يخضع لقوانين شرطية كما ورد في بعض نظريات علماء الاجتماع أمثال أوغست كونت وروستو وداهرندورف وبارسونز وتوكفيل وفريقٍ واسعٍ من الوضعيين والماركسيين؛ ولا هي ثورةٌ ضدَّ أوضاعٍ بنيوية كالفقر كما ورد في تحليلات Nurks أو مسعىً لتغيير الطبيعة المنتجة لعلاقات الإنتاج نصف الإقطاعية كما رأى ذلك Bhaduri؛ ولم يكن» التغيير النوفمبري» استجابةً لأزمات حياتية أو ناتجًا من طريق ثقافةٍ سياسية حداثية مُستلهمَة من المستعمِر؛ بل إن «التغيير النوفمبري» حركة متسامية تتجاوز قانون السببية (العِلَّة والمعلول) التي لا يمكنها في تركيزها على الأثر الخارجي الوصول إلى كنه الأشياء وطبيعتها الباطنية، ولا أن تفسِّر استمرارية الفعل التغييري رغم انتفاء القوانين السببية. فتفسير حدوث الحدث لا يكون فقط من خلال ماهية الطبيعة، بل أيضًا مما ليس من ماهية الطبيعة، أي في بعض المصادر الميتافيزيقية العُليا. إذن، نحن هنا أمام «حدثٍ» جمَع في معقولاتِ حدوثه إرادةً عقلانيَّة ونزوعا روحيًا متساميا إلى الإنسان الحر، تناسق انطولوجي يجعل حركة هذا الحدث تخرج بالإنسان (الفرد الجزائري) من حالٍ إلى حال؛ فالقوة الغاذية في «حدث نوفمبر» إنما تطال الإحساس والتخيُّل والطموح والإيمان والمقاومة والشرف والوطنية...وغيرها من الفضائل والمبادئ. إنه قوةٌ تشقُّ أرض تاريخٍ استعماريٍّ خطيٍّ إلى شقَين، فلا تنتهي إلا ونحن على شقّ مرصَّع بنجمات الاستقلال وهلال المجد والخلود. إن صور الحسّي في «حدث نوفمبر» هي أن اتَّخذ الفاعل التاريخي (وهم المجاهدون الأبطال) لغة الثَّورةِ ورنَّة البارود وزنا، وتتجلَّى الصور الإيمانية لهذا الفاعل في زوايا قلب مجاهدٍ وهو يثورُ في حياةٍ أو ممات، ويعقد العزم أن تحيَا الجزائر. فكان الحدث متَّصلا بالحق، والحق لا يغفَل؛ وحافظًا للحضور، والحضور لا يقمعُه الغياب أو التَّغييب. وكأن رصاصة ذلك الشهيد وهي تصْدَح في جبال الأوراس تُخاطبنا من «بعيدٍ قريب» لتُسمِعنا: فإن قُلتَ هذا الحَقُّ قد تَكُ صادقَا *** وإن قلت أمراً آخراً أنت عابرُ. وفي سياق متَّصل، فإن حقَّ لنا أن نصف «حدثَ نوفَمْبر» وثورته في التاريخ، فهو أشبه ب «المونادة» إذا ما نحن استعملنا مصطلح الفيلسوف الألماني گوتفريد لايبنتز (Leibniz) بوصفها «جوهرًا روحيّا كُلُّه إدراكٌ ونزوعٌ يتحرّك بنفسه، وكلّ تغيّراته من باطنه»، و»المونادة» قوَّةٌ متجهة إلى الفعل بذاتها، حاصلةٌ على التلقائية. وهي جزء لا يتجزأ ونواةٌ متمايزةٌ وأصيلةٌ تشكِّل الباطن والصميم، والقوة الدَّافعة لحركة الموجودات التي تستمد قانونها من نفسها، ف «المونادة» خلقٌ إلهيٌّ، وحالاتها كلها باطِنة، «يتولَّد بعضُها من بعضٍ بحيث يكون حاضرها حافظًا لماضيها مُثقلًا بمستقبلها، ويلزم من ذلك أنها حياةٌ ونزوعٌ - وبذا تقوم قوتها - متعلقة بالغرض أو المقصد»، فيكون أن «مونادة حدث نوفمبر» هي ذرَّة روحيَّة لا تُعلَّل إلا بالتَّسليم. لربَّما أن تلك السَّببية المختزلة التي درَجت عليها الأبحاث الأنثربولوجية والإثنوغرافية الاستعمارية - ذات المهام العسكرية - في قراءة طبيعة الفرد وخصوصيات المجتمع الجزائري هي التي جعلت المستعمِر يستفيق ليلة الفاتح من نوفمبر الأغرّ على وقع الانفجارات وصدى التكبيرات المُعلِنة عن «ميلاد مجتمع» سيادي وانبعاث أمةٍ نوفمبرية، وعن التحقُّق الفعلي لإرادة الاستقلال والعيش بكرامة. بورديو والمجتمعات الريفية.. هذه الحتمية السببية هي التي خدعت في موقع آخر تحليلات بيير بورديو حين افترض مُغرضًا بداية سنوات الستينيات بأن المجتمعات الريفية كانت قد «سُحِقت» وأنها فقدت قوَّتها بفعل «الاجتثاث» (Déracinement)، وأن التغيير في وضعياتها ناتج بانتقالها من حالة التقليد إلى الحداثة تحت تأثير المحتشدات. حتميةٌ طبيعية مختزلة لرُبَّما جعَلت هي الأخرى مؤرِّخا يقيم بفرنسا يستغرب من وحدة الشعب تحت لواء جبهة التحرير الوطني رغم التناقضات والانقسامات التي كانت حاصلةً بين فئاته قبل تفجير الثورة، فلم يكن في وُسع هذا المؤرخ فهم الحقائق الأخرى، ودفعَه جهلُه بتلك القوة الباطنية إلى وصف بعض تَمظْهُرات الواقع الثَّوري ب «الأساطير»، والظَّاهر لأنها «قوة خارقة» لم تستوْعِبها مختبرات التجريب التاريخي. إنّ «إرادة نوفمبر» هي إرادة تغييرٍ في بيئة الوجود اسْتدعَت الخبرات التاريخية والأمجاد والبطولات من تاريخ عميق لأجل ممارسة حق تقرير المصير، ولتصبح بفضله الذَّوات حرةً ومستقلَّة صانعةً للوجود القومي الذي يحدّد مفهوم «الداخل» و»الخارج» وكذلك معالم الإقليم المشترك وأصول الهوية المشتركة، وإعادة إنتاج الزمان والمكان. «إرادةٌ» ساهمت في خروج التشكيلات الاجتماعية والاقتصادية المستعمرَة من «النمط الآسيوي للإنتاج» - إذا ما نحن استعملنا وصف ماركس - إلى أسس الاقتصاد السياسي للدولة الجزائرية. روح «التغيير النوفمبري» وإذا كان كل تغييرٍ قابلٍ للتكرار ولكن بحييثياتٍ أخرى، فروح «التغيير النوفمبري» تولِّد المجال الذي ترقَى فيه الممارسات الاجتماعية والسياسية إلى مُقاومة كلِّ أشكال الخذلان والارتهان، وإلى بناء مشروع الدولة الوطنية السيّدة والفريدة. ولذلك لا يغدو أن يكون «التغيير النوفمبري» مجرد ذكرى، بل هو ذاكرةٌ تُعطي للتاريخية الثورية أبَديَّتها وللفعل الاستقلالي قداسَته، وللماضي راهنيَّته، فلا تفصله عن الحاضر العثرات والانقاطاعات، أو تنال منه الدسائس والمكائد. إنها ذاكرةُ زمنٍ ينشأ بقدر ما يمضي، ويفضي دومًا إلى مستقبل مرسومةٌ معالمه ومعرّفٌ محتواه. وحدث نوفمبر ليس إرادة مركونة إلى قوالب مؤسساتية وماديَّة، إن نوفمبر «عقيدة» و»ثقافة» و»سلوك»؛ ونهجٌ معقلًن للتقدُّم؛ ونزعة إنسانية للسلم والتحرُّر. نوفمبر جوهر الأشياء ومُراد السياسات؛ وهو جوهرُ البناء المؤسسي للدولة وموجِّهٌ لتقنيات ممارسة السلطة؛ وإطارٌ لترابط الفئات المجتمعية فيما بينها ومدوَّنة لسيرورتها نحو غدٍ أفضل؛ وقيمٌ ومبادئٌ للعمل والالتزام الوطني...فنوفمبر «صدًى» يَمحي بامتداده الفواصل بين «الماقبل» و»المابعد». إن نوفمبر «يقينٌ» في كل تجليَّاته وأحداثه؛ مساراتٌ واثقةُ الخُطى نحو مستقبل الجزائر المستقلة والواعدة، موعدٌ مع التاريخ من أجل التغيير الحقيقي للوضعيات الوجودية، تاريخٌ صاغ لحظاته وأزمنته تراكُمُ النضالات وأشكال المقاومة المستمرَّة لكل ما يسلب الوجود معناه وما يزرع في النفوس غُربةً واغترابًا؛ نوفمبر قوةٌ مضادَّة لأيّ قوةٍ طاغية تحاول محْوَ هويَّة هذا الشعب الفريد والمساس بمقوِّمات شخصيته، وكل أمرٍ يحاول أن يُخمِد لديه جَذْوة الأنفَة والعزَّة والشُّموخ؛ إنه حقلٌ استراتيجيٌّ تغتني منه نضالات المواطنين الأحرار في سبيل بلوغ المجد الوطني. إن نوفمبر تغييرٌ ثوريٌّ كان لتحيَا الجزائر وسيبقى لتحيَا الجزائر، فَاشْهدوا، فاشهَدوا.. فَاشْهدوا.