شهادة حيّة عن عمليتين سريتين لجبهة التحرير الوطني غيورغي نيدنوف الرّجل الذي نظّم عمليات إرسال وتسليم الأسلحة فاسيل فالتشنوف «قبطان المسافات الطويلة»، كما سمي في مذكّراته المعنونة ب «النّقل السري للأسلحة..من بلغاريا إلى الجزائر خلال الثّورة التّحريرية»، الصّادرة سنة 2015 والتي يروي من خلالها شهادته الحيّة عن عمليتين سريتين في نقل الأسلحة وتسليمها لجبهة التحرير الوطني اللّتين قام بتنفيذهما بصفته قبطانا سنتي 1960 و1961 بواسطة سفينتين بلغاريتين نجحتا في عبور الحصار، الذي كانت تفرضه القوات البحرية الفرنسية على عرض مياه البحر المتوسط، لإنزالها بالسواحل الليبية. تناول فالتشوف حياة رجل برتبة قبطان في البحرية ليس له انتماء سياسي، ينفّذ بنجاح مهمته السرية المتمثلة في قيادة سفينته عبر مضيقي البوسفور والدردنيل تحت مراقبة كاشفين ومراقبين أتراك، مخترقا الحصار العسكري الفرنسي المفروض على مستوى سواحل شمال إفريقيا لإنزال سلعته بطرابلس، ومن ثمة يتم نقلها إلى جبهة القتال بالجزائر، على متن سفينة بلغارية تحمل اسم Breza. يروي هذا البحارة البلغاري مساهمة بلده في دعم كفاح الشّعب الجزائري لنيل حريته، والتي ما يزال يحتفظ بذكراها، وأراد إطلاع القراء عليها بتوثيق كل الأحداث في مذكراته، ويقول في هذا الصدد: «إنّ الثّورة التي أعلنها الشعب الجزائري يوم أول نوفمبر 1954 من أجل التحرر من الاستعمار الفرنسي تعد حلقة من حلقات التاريخ تتعدى أهميتها الحدود الجزائرية». ويضيف: «كان كفاح الشّعب الجزائري من أجل استقلاله كفاحا شرعيا يندرج ضمن مبادئ الأممالمتحدة...وقد تعاطف البلغار شعبا وحكومة في تلك الفترة مع الشعب الجزائري ضد الظلم والطغيان، ذلك لأن الشعبين لهما الكثير من النقاط المشتركة على مستوى مصيرهم التاريخي..». ويبرز فالتشنوف أنه بعد فرض الحصار البحري والجوي على كل الإقليم الجزائري إلى غاية سواحل البلدان المجاورة لمنع دخول الأسلحة لصالح المجاهدين، أبت دولة بلغاريا أن تقدم يد العون للشعب الجزائري في كفاحه من أجل الحرية، إذ قبلت بعد محادثات جرت بين ممثلين عن الحكومة البلغارية والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بإرسال أسلحة حربية لجبهة التحرير الوطني، وتطبيقا لهذا الاتفاق حسب شهادة المؤلّف شحنت سفينتين بلغاريتين بكميات معتبرة من الأسلحة المطلوبة بسرية تامة لأنّ فشل هذه المهمّة سيترتّب عنه حتما انعكاسات سياسية ومالية وخيمة. ويذكر الكاتب اسم غيورغي نيدنوف الرجل الذي نظّم عمليات إرسال وتسليم الأسلحة والذخيرة، وبعض الوسائل والأجهزة الضّرورية المستعملة في الحرب، ولاعتبارات تقتضيها السرية لم يفصح عن الاسم الحقيقي لضابط المصالح السرية البلغارية بصوفيا، الذي كلّفه بمهمة نقل الأسلحة بإتجاه ليبيا لفائدة الثوار الجزائريين، وأعطاه اسما مستعارا الكولونيل زوقرافسكي، وللأسباب نفسها لم يكشف عن هوية المصلحة التي ينتمي إليها هذا الضابط. ويشير فالتشنوف في مذكراته إلى الصعوبات التي واجهت جبهة التحرير الوطني في نقل الأسلحة إلى الجزائر عبر الطرق البحرية، حيث أنّ كل الحمولات أوقفت من طرف الدوريات العسكرية الفرنسية على عرض مياه البحر لشمال السواحل الإفريقية في 23 أكتوبر 1956، منها سفينة Athos التي شحنت على متنها ما يصل إلى 300 طن من الأسلحة، وفي شهر مارس 1959 احتجزت القوات البحرية الفرنسية سفينة Slovenia، وبعد شهر احتجزت السفينة Lidice ثم السفينة Monte Cassino التي بلغت حمولتها 180 طن من الأسلحة، فقد كانت حينها المصالح الفرنسية ضد الجوسسة توزّع أعوانها على مستوى كل الموانئ، ممّا أعاق المجاهدين في تنظيم عمليات عسكرية واسعة النطاق لإلحاق الخسائر بالعدو. ولتجنّب الحصار الفرنسي المفروض، ولضمان وصول كميات كبيرة من الأسلحة الحديثة والذخيرة لتسليح أكبر عدد ممكن من أفراد جيش التحرير الوطني، انتقل كل من وزير القوات المسلّحة عبد الحفيظ بوصوف ووزير المالية في الحكومة المؤقتة إلى صوفيا بداية سنة 1960 للتشاور مع ممثلي الحكومة البلغارية حول مسألة نقل الأسلحة إلى الجزائر، وقاد المحادثات عن الجانب البلغاري نائب رئيس مجلس الوزراء جيفكو جيفكوف Jivko Jivkov المكلف بوزارة التجارة الخارجية والمسؤول الأول في مديرية الصادرات والإيرادات للبضائع والسلع الخاصة. وافق الجانب البلغاري على بيع أنواع الأسلحة المطلوبة وبالكميات المحددة، على أن تتم عملية النقل في أسرع الآجال بواسطة سفن بلغارية، ويضمن الجانب الجزائري دفع التكاليف بالدولار الأمريكي مباشرة بعد شحن البضائع، ويتم التنسيق في هذه العملية بين غيورغي نيدينوف عن الجانب البلغاري، وعابد شارف الملقب بالهاشمي عن الجانب الجزائري الذي كان عضوا في الوفد الجزائري بصفته معاونا مقربا لوزير التسليح بوصوف. الفرصة الأولى كبحّار يتحمّل مسؤلية قيادة سفينة يشير المؤلف أنّه حين كان أعضاء الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية خلال الأشهر الأولى لسنة 1960 يجرون المفاوضات حول نقل الأسلحة البلغارية إلى الثوار بالجزائر، كان هو يعمل في المصلحة البحرية للبضائع كضابط مساعد على متن السفينة Bulgaria، هذه الأخيرة كانت رأسية في الميناء من أجل إصلاحها من عطب أصابها. ويقول: «كنت في أحد الورشات الخاصة لإصلاح السفن، لما استدعيت من قبل نائب مدير شركة Navibulgare، وفي أقل من نصف ساعة كنت في مكتب القبطان غيورغي بووف الذي أبحرت معه قبل سنوات على متن سفينة Varna». ويضيف أنّه عين قبطان على السفينة التي اشترتها Bulet، حيث وظّف طاقمها من وسط البحارة العاملين بسفينة Navibulgare، وحسب شهادته فإنّ هذا التعيين كان بالنسبة له حدثا عظيما في مساره المهني والفرصة الأولى كبحار يتحمّل مسؤلية قيادة سفينة، لأنه كان يحلم به لمدة 22 سنة منذ تخرّجه من المدرسة البحرية سنة 1938، وأول تعيين له كملازم أول على متن سفينة Maria Louisa التي كانت تستخدم لنقل البضائع، حيث كان متحمّسا وفخورا بهذا التعيين الجديد. وصل فالتشوف إلى ميناء ستافنغر Stavanger في أفريل 1960 رفقة 17 من البحارة لاستلام السفينة التي سيقودها، ويقع هذا الميناء في الساحل الغربي من شبه الجزيرة الاسكندينافية وتعد ستافنغر ثالث أكبر مدينة في بلاد النرويج بعد أوصلو وبيرغن، حيث يمتاز الميناء بسوقه الكبيرة للأسماك وغنائه بكل أنواع فواكه البحر، يقول الكاتب: «وجدت السفينة بريزا مثلما قيل لي لا تتعدى حمولتها ال 2200 طن ومعروف عنها أنها خاضت وأبحرت في مياه المحيط الأطلسي وبحري الشمال والبلطيق لمدة 38 سنة، لها محرك بخاري لا تتجاوز سرعته سبع عقد بحرية في الساعة، فقد كانت السفن والبواخر المصنوعة في البلدان الإسكندينافية بعد الحرب العالمية الثانية تمتاز بنوعية جيدة وتستجيب لكل المقاييس البحرية». ويضيف: «أول ما لفت انتباهي وأنا أدخل قمرة القبطان التي بدت لي رحبة أنّي وجدتها مكسوة بخشب الأكاجو، بعد أيام قلائل من التحضير نقلع مبحرين من مرسى ستافنغر، تأكّدنا ونحن على عرض مياه بحر الشمال من أن بريزا سفينة قوية متينة، فقد تماسكت امام رياح عاصفة هوجاء، عبرنا بحر الشمال على أمواجه المضطربة الهائجة ودخلنا البحر المتوسط، كنا قريبين نوعا ما من السواحل الجزائرية، فإذا بالطائرات الإستكشافية الفرنسية نلمحها تحوم في علو قريب فوق سفينتنا». بعد توقّف دام مدة قصيرة بميناء الإسكندرية اتّجهت السفينة نحو بلغاريا لترسو بميناء فارنا، وهناك التقى فالنتشوف بزوجته وابنته ماريا ذات ثماني سنوات تنتظراني بالميناء، حيث بقيتا معه إلى غاية إنطلاق رحلته المقبلة، فجاءه ثلاثة رجال لا يعرفهم في اليوم الثاني من وصوله، منهم العقيد زوقرافسكي Zografski من المصالح الخاصة بصوفيا ليخبره أن السفينة بريزا ستقوم بمهمة نقل أسلحة موجهة إلى طرابلس بليبيا لفائدة جبهة التحرير الوطني، أين سيجدون ممثلين في استقبالهم ممثلين عن الجبهة. يقول فالتشوف: «كنت واع بطبيعة هذه المهمة ذات المخاطر والمسؤوليات، تلقيت من عائلتي حب الوطن منذ سن المراهقة وكذلك في المدرسة البحرية، فلهذا السبب أجبت العقيد الذي خيّرني بين قبول أو رفض القيام بهذه المهمة بكل فخر واعتزاز بقبول المهمة لأصدقائنا الجزائريين، فسلّمني قائمة الأسلحة التي يجب شحنها». القائمة تضم أربعة مدافع مضادة للطائرات عيار 22 مم يشير أنّ القائمة تضم أربعة مدافع مضادة للطائرات بمعيار 22 مم وصناديق محملة بالقذائف المدفعية وقذائف الألغام بكميات كبيرة، كما تتضمّن القائمة بندقيات رشاشة وذخيرة وقنابل يدوية وأنواعا لأسلحة أخرى، بالإضافة إلى 240 طن من مادة الTNT المتفجّرة محمّلة في أكياس يزن الواحد منها 25 كيلوغرام وعدد كبير من الأجهزة المستعملة لتفجير القنابل. ويقول: «إنّي أفكّر في حيرة الفرنسيين بعد تسليم هذه الأسلحة للمجاهدين لما يرون أنفسهم يهاجمون من قبل خصم يملك نفس السلاح المتطوّر الذي يملكونه، بل أرى هذه الحيرة بادية أكبر لدى طياريهم الذين سيفاجئون لأوّل مرة منذ اندلاع الثورة بنيران المدفعية ضد الطيران، وسيعلمون أنهم ليسوا على أرض الشانزلزيه ولن يعودوا قادرين على التحليق فوق مواقع المجاهدين متباهين وكأنّهم يقومون بمشهد استعراضي بباريس». بعد شحن السّفينة استلم القبطان فالتشوف ملفين خاصين بالحمولة، يحتوي الأول على وثائق تثبت أن سفينة بريزا تنقل أربع مخاريط كبيرة وحفارات كبيرة وحفارات، ومناشير كهربائية وآلات زراعية و240 طنا من مادة السماد الكيماوية موجهة إلى ألبانيا، حيث سيستلم الوثائق رسميا من قبل ممثل الشركة INFLOT بعد مراقبة السفينة عند الإقلاع، كما تقوم الشركة نفسها بتقديم نسخ عنها لمركز المراقبة للجمارك، ويحتفظ فالتشوف بنسخة ليقدمها عند المراقبة في مدخل مضيق البوسفور، وهي النّسخة نفسها التي عليك تقديمها في كل مرة يطلب منه السماح بالقيام بتفتيش السفينة أثناء الرحلة. أما الملف الثاني يحتوي على وثائق عن حقيقة طبيعة الحمولة التي ينقلها، وهي في غاية الأهمية والسرية موجهة لجبهة التحرير الوطني، حيث سيكون ممثلو جبهة التحرير في استقبال السفينة عند وصولها إلى طرابلس بليبيا المكان الذي تم الإتفاق حوله مع الجزائريين لتفريغ البضائع، وقد كان من طاقم السفينة ضابط ألماني من أصدقاء الجزائر دون تسجيل إسمه على قائمة الطاقم أو يصرح به شخصا مسافرا، وكانت الرحلة سرية للغاية. أصعب وأخطر الرّحلات في فجر اليوم الثالث بعد بداية الشّحن تنتهي عملية ترتيب كل كميات الأسلحة في قبو السفينة، وعند الانطلاق يصعد فريق المراقبة إلى السفينة ليقوم بوظيفته مثلما يقوم به عادة قبل أي إبحار، وهنا يروي فالتشوف أنّه كلما كانت السفينة تقترب من البوسفور يشعر بالقلق لأنها كانت أصعب وأخطر الرحلات، بحيث يمكن لأي عون من الجمارك أن يتحرى مطابقة ما تم التصريح به في الملف وما يوجد حقيقة من محتويات في قبو السفينة. وفي مساء اليوم الثاني وصلت السفينة إلى الدردنيل بعد إقلاعها من فارنا، ويعتبر هذا المضيق صعبا من وجهة نظر الملاحة البحرية لأن به تيارا قويا ومياهه عميقة جدا، حيث اجتازت الرحلة مخاطر، إلى غاية وصولهم لجهة الجنوب الغربي للجزيرة Crète الكبيرة وبعدها تتجه نحو طرابلس، وكل الطاقم خائفا من إمكانية ملاقاة الدوريات الفرنسية العسكرية قبل الوصول إلى ليبيا. بعد رحلة شاقّة سفينة بريزا ترسو في ميناء طرابلس تمكّنت سفينة بريزا من عبور البحر المتوسط في صباح اليوم الخامس بعد رحلة شاقة محفوفة بالمخاطر لترسو بميناء فارنا، أين كان ينتظرهم ممثلو جبهة التحرير الوطني، ويقول فالتشوف: «أكّد لي العقيد زوقرافسكي قبل الإبحار بتسليم كل الوثائق الخاصة بالأسلحة المنقولة للألماني هرمان عند الوصول إلى طرابلس، قمت بجمع أعضاء الطاقم لأخبرهم بحقيقة المهمة التي كلفنا بها وبأهميتها بالنسبة لكفاح الشعب الجزائري وبالنسبة لبلغاريا». ويضيف: «استقبلنا هرمان وثلاثة رجال في زيهم المدني وهم ممثلون عن جبهة التحرير الوطني، هممت بمصافحتهم غير أنّ الثلاثة أبوا إلاّ أن يعانقوني مبدين شعورا أخويا حارّا وقبّلوني، تأثّرت بهذه الملاقاة وبوجودي مع نشطاء حركة التحرر الجزائري، وبهذا الاستقبال الذي خصوني به عند وصولي إلى ليبيا». ويشير المؤلّف أنه بعد مغادرته الميناء الليبي الصغير بعد تفريغ شحنة الأسلحة لمدة يومين كاملين تفاجأ بتلقي هدية من ممثلي جبهة التحرير الوطني تمثلت في الخضر والفواكه، فلأول مرة منذ اندلاع الثورة الجزائرية يتمكن جيش التحيرر من تلقي كمية كبيرة من الأسلحة الحديثة. تقلّد القبطان فالتشوف الميدالية الذهبية «وسام الإستحقاق الحربي» من طرف رئاسة المجلس الشعبي البلغاري، بعد نجاحهم في تنفيذ هذه المهمة الخاصة بتسليم الأسلحة لصالح جيش التحرير الوطني. ويختتم المؤلف مذكراته بالقول: «قام سفير الجزائرببلغاريا محمد لعلا بمنحي ميدالية خمسينية أول نوفمبر 1954 وشهادة تقدير واستحقاق خاصة في نوفمبر 2004، أعتبر تكريمي هذا بصفتي قبطان بريزا بمثابة تكريم وتقدير للشعب البلغاري وحكومته». من هو القبطان فاسيل فالتشوف؟ ولد القبطان فاسيل فالتشوف Vassil Valtchanov في 17 جوان 1915 بمدينة بلوفديف ببلغاريا، تأثّر بروايات جاك لندن وجوزيف كونراد وأحسّ منذ صغره بسحر البحر يجذبه، كان والده المهندس الذي تلقّى تكوينه بألمانيا ونائب رئيس بلدية بلوفديف يتمنى أن يرى ابنه فاسيل مهندسا مثله، إلا أن هذا الأخير فضل المدرسة البحرية بفارنا على أن يلتحق بالجامعة الألمانية. افتتن فالتشوف بحياة التجوال لأبطال رواية جاك لندن، فأصبح يحلم بالمغامرات البحرية والأسفار عبر بحار الجنوب والمحيطات القطبية، بعد نهاية دراسته بالمدرسة البحرية يلتحق فاسيل بمهنته كبقطان في الرحلات البحرية الطويلة، عرضه قدره وحبه للمغامرات لمخاطر كبيرة جابهها وتحداها بكل شجاعة، أنهى مهامه كقبطان سنة 1963 ليلتحق بالإدارة في الملاحة التجارية، حيث اعتلى منصب مدير الملاحة البحرية لينتخب رئيسا على لجنة الملاحة البحرية لدى الأممالمتحدة بجنيف سنة 1968. نال وسام «الراية الحمراء للعمل» والميدالية الذهبية ل «الإستحقاق الحربي»، كما توّج أيضا بميدالية من قبل رئيس الجمهورية الجزائرية بمناسبة خمسينية ثورة نوفمبر 1954.