كشفت يوميات الأسواق عبر أرجاء البلاد طيلة الأسابيع الأخيرة وبالأخص غداة نهاية شهر رمضان عن وجود اختلالات عميقة في المنظومة التجارية الأمر الذي يقتضي الإسراع بإعادة ترتيب مختلف جوانبه التنظيمية والهيكلية وميكانيزمات النشاط التجاري برمته بحيث يمكن تحديد حلقات الفعل التجاري وتقليص المضاربين. لقد عادت طوابير الشؤم أمام المخابز ومحلات المواد الغذائية في ظل عودة شبح الندرة في وقت كانت فيه المؤشرات الاقتصادية مشجعة على مختلف المستويات من إنتاج ووفرة رافقها للأسف ارتفاع جنوني للأسعار مما أدى إلى اختلال موازين القدرة الشرائية للمواطن ولم تنفع معه تلك الزيادات في الأجور التي مست بعض القطاعات من الموظفين في انتظار أن تشمل القطاعات الأخرى التي تعاني من الغبن على غرار الصحافيين وعمال قطاع الإعلام. وفي انتظار أن تقدم وزارة التجارة قراءتها للظاهرة التي ألقت بظلالها على الساحة التجارية خاصة أيام عيد الفطر التي شهدت أيضا غياب وسائل النقل العمومي للقطاع الخاص الملتزم بأداء خدمة عمومية لها متطلباتها وشروطها، عاد الحديث مرة أخرى عن ضرورة العمل باتجاه رد الاعتبار للأسواق العمومية بصيغة حديثة، وذلك ببعث الروح التسويقية في محلات أسواق الفلاح والأروقة الجزائرية التي تعاني من الإهمال والضياع لعشريات طويلة تماما مثلما تهاني منه محلات كبرى لديوان الخضر والفواكه »اوفلا« التي كانت دعامة وظيفية لقطاع الفلاحة وبإمكان العودة إليها أن يضمن ضبط السوق والتحكم في الأسعار بدل أن تستمر فوضى التجارة التي تتم بعيدا عن الاحترافية والشفافية. وأظهرت مبادرة السوق الجوارية التي أطلقها الاتحاد العام للعمال الجزائريين بالتنسيق مع المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي خلال شهر رمضان توفر القدرات الإنتاجية لكسر ارتفاع الأسعار الاستهلاكية التي تجاوزت معدل القدرة الشرائية للمواطنين في غياب واضح ومثير للانشغال من المصالح المكلفة بضبط الأسواق. وكان من الطبيعي طرح سؤال كبير حول حقيقة الأسعار المطبقة لمختلف المواد الغذائية والاستهلاكية الأخرى والتي تبدو أنها تحمل هامش ربح عال جدا لا يمكن تبريره بقاعدة العرض والطلب وإنما يبدو أن الأمر يرجع لوجود ممارسات المضاربة والاحتكار والغش. وبالطبع ليس غريبا أن تثير تلك المبادرة للمركزية النقابية والعاكسة لروح المواطنة انزعاج كثير من الأوساط التي وجدت في ممارسة اقتصاد السوق بدون إجراءات الضبط الضرورية مرتعا لتحقيق أغراضها من ربح سهل وبلا قيمة مضافة وتلاعب مباشر بالقدرة الشرائية للمواطن محولة المستهلك إلى رهينة تستنزف على مدار العام. ويعول على مقترحات المركزية النقابية كثيرا لصياغة السلطات العمومية خارطة طريق لقطاع التجارة ببعث المرافق العمومية ذات الصلة التي تم تعطيلها وفق آليات اقتصادية تجارية ومحاسبية حديثة تضمن شفافية النشاط وتحميها من أي تلاعبات أو استغلال يعرضها لإفلاس محتمل. وفي ذات السياق من المفيد أيضا تنمية تفكير عقلاني لإعادة تشكيل هيكل تجاري لاستيراد المواد الغذائية الأساسية بما يمنع كبار المستوردين من الغش والتلاعب بالأسعار علما انه في كثير من المرات تعرف أسعار تلك المواد كالبن والسكر والزيوت تراجعا في البورصات العالمية دون أن ينعكس ذلك عل الأسعار في السوق المحلية، والهامش بالنسبة للأرباح جد كبير ناهيك عن إدخال وسطاء ومضاربين من المعارف وأصحاب المصالح في السلسة التجارية لتلك المواد تحسب في تركيبة الأسعار الموجهة للمستهلكين. والى جانب إحياء الأسواق العمومية أو المختلطة مع الرأسمال الوطني الخاص تلعب التعاونيات العمالية دورا لا يقل أهمية في ضمان تسويق المواد الغذائية بأسعار معقولة. وإذا كانت الشركات الوطنية الكبرى قد أقحمت في تمويل الفرق الرياضية يمكنها أيضا أن تتكفل بهذا الجانب علما وان له تأثير مباشر على الأداء الاقتصادي للعمال خاصة بالنسبة للمؤسسات الكبيرة والمركبات حيث لا يعقل أن ينشغل عامل بكيس حليب مثلا وهو يشرف على أجهزة إنتاجية ذات قيمة اقتصادية كبرى.