«أحرقوا المطحنة ومعصرة الزيتون وسيارة معمّر ووقع تبادل إطلاق النار على ثكنة رجال الدرك الفرنسي» شكل هجوم الشمال القسنطيني في العشرين أوت 1955، أول حدث مفصلي بعد سنة من انطلاق شرارة النضال المسلح لتحرير البلاد في الفاتح نوفمبر 1954 بمنطقة الأوراس. ودون شك كان محطة بارزة وغير مسبوقة، تميزت بدخول العمليات الفدائية مسرح الأحداث، ما أدى إلى تعميم الثورة الجزائرية المجيدة بين صفوف الشعب. شهادات تحدثت عن الأعمال العسكرية، من نصب للكمائن وأعمال فدائية استهدفت الخونة والمعمرين وتهديم الطرق والجسور وغيرها في مختلف مناطق ولاية قالمة. منذ تاريخ 17 أوت 1955، تكونت أربعة أفواج تمثلت في منطقة بوعاتي محمود «هنشير سعيد سابقا» ومنطقة الفجوج أو «كيلارمان سابقا»، هيليوبوليس وعين الباردة. أما الناحية الثانية، فهيأت تسعة أفواج لتهجم على مدينة قالمة والقرى التالية: الركنية، الطاية، بوهمدان، حمام دباغ، عين احساينية، وادي الزناتي، عين رقادة وعين العربي. وفي هذا الصدد، تروي لنا المجاهدة دادو الطاوس –إحدإ أكبر المجاهدات سنا بولاية قالمة- في حديث ل«الشعب»، الهجومات التي وقعت يوم السبت 20 أوت 1955، ببعض قرى الولاية، منها قرية الركنية التي نفذ بها فوج من المجاهدين معززا بالمناضلين بقيادة عبد الباقي القسنطيني، هجومات على القرية فأحرقوا المطحنة ومعصرة الزيتون وسيارة معمر، ووقع تبادل إطلاق العيارات النارية على ثكنة رجال الدرك الفرنسي، لأن المعمرين التجأوا الى هناك، ولم تسجل خسائر بشرية في صفوف كلا الطرفين. بالإضافة إلى هجوم فوج من جيش التحرير على محطة السكة الحديدية بقرية «الطاية»، حيث ألحقوا بها خسائر مادية، وانسحب المواطنون والمجاهدون سالمين، وببوهمدان نفذت عملية مماثلة. وتواصل المجاهدة الطاوس سرد وقائع العمليات التي نفذت، قائلة إنه بالمنطقة المسماة حمام دباغ حاليا قام فوج من المجاهدين بهجوم في منتصف النهار، بقيادة «العيد، المدعو البكوش» و»السعيد سوداني»، مدعمين بحوالي 200 مواطن من مشاتي «الرقوبة»، «دوار الطاية» و»بني فوغال»، و»دوار بوهمدان» وكانوا يحملون عشر بنادق صيد. وقد تجنّد عدد من هؤلاء فيما بعد في صفوف جيش التحرير الوطني، واستهدف الهجوم المركز العسكري الذي كان مقره ضواحي «حي النزل السياحي»، والمعمرين القاطنين بمزرعة «الحاج طيار» بوسط القرية ومحطة القطار وتم قطع حوالي أربعين عمودا للهاتف. هذه العملية خلفت استشهاد المواطنين «يحمدي مالكي» و»موسى سطحة»، أما في جانب المعمرين فألحقت أضرار بأبواب ونوافذ مساكن المعمرين وأضرار مادية لمحطة القطار. و»بعين احساينية» قام فوج من جيش التحرير مدعما بالمواطنين، بهجوم على دار البلدية ومكتب البريد وألحق بهما أضرارا مادية وانسحب فوج التحرير سالما. كما شهدت قرية «وادي الزناتي» بقيادة رابح بلوصيف هجوما على ثكنة الدرك الفرنسي، وكان الاشتباك عنيفا بين الطرفين أسفر عن حرق سيارة «جيب»، وحافلة لأحد المعمرين وكان عدد القتلى كبيرا في صفوف المواطنين، وكذلك في صفوف جنود العدو والشرطة والمعمرين. وحسب شهادات موثقة في متحف المجاهد في قالمة، نفذت عملية على مزارع المعمرين «بعين رقادة»، حيث أسفرت عن قتل معمرين اثنين وانسحب المجاهدون والمواطنون بعد العملية سالمين. وقد قام المجاهد «عاشور فتيسي» ونائبه «الطاهر بوناب»، معززا بحوالي خمسين مواطنا وثماني بنادق صيد، بهجوم على فرقة من الجيش الفرنسي تابعة للوحدات الإقليمية بقرية «بوعاتي محمود أو هنشير سعيد سابقا»، ودام الاشتباك حوالي نصف ساعة ولم يسفر عن أية خسائر بشرية من كلا الطرفين. أما بخصوص عملية الفجوج، قام فوج من جيش التحرير الوطني بقيادة «عيسى بن أحمد بن طبولة»، ونائبه «أحمد بن الهاشمي سريدي»، معززين بحوالي أربعين مواطنا وثماني بنادق صيد بهجوم، وانقسم الفوج إلى مجموعتين، حيث تمكنت مجموعة بقيادة عيسى بن احمد بن طبولة من الدخول إلى القرية من جهتها السفلية، وهاجمت مساكن المعمرين. وتمكن مناضلان من الدخول إلى مركز البريد، واحد حاملا بندقية صيد وهو «القرفي زراري» فأطلق النار على مسؤول مركز البريد ولم يصبه، حيث هرب هذا الأخير وتمركز داخل مركز البريد وأطلق النار ببندقية حربية من نوع «موزير»، فأصاب «القرفي زراري» فقتله، بينما قام المناضل الثاني بطعن امرأة فرنسية بخنجره، في حين نفذت المجموعة الثانية بقيادة «أحمد بن الهاشمي سريدي» هجوما على مساكن المعمرين من أعلى القرية فقتل معمرا وزوجته، وغنمت بندقية حربية 86 من صنع فرنسي، وبندقيتي صيد ومسدس من عيار 65/7. وبالموازاة مع ذلك، نفذ فوج من المجاهدين بقيادة «عيسى بقموزة يدعى «صالح الحروشي» بقرية «هيليوبليس» هجوما على مقر البلدية ومكتب البريد، حاملين بنادق صيد وبندقية حربية من نوع «ستاتي» إيطالية الصنع، وكان الاشتباك عنيفا فأسفر عن جرح «شيهب عمر» من طرف مسؤول مركز البريد برشاشة من نوع «ماط 49»، كان عنده بندقية صيد ولما جرح سلمها إلى «عبدة عبد الله بن محمد»، ثم ألقي عليه القبض من طرف جنود الجيش الفرنسي. وقام فوج من جيش التحرير الوطني بقيادة «هبهوب أحمد» ونائبه «محمود بن موسى بوعاتي» بهجوم على مقر البلدية بقرية «عين الباردة»، حاملين بندقية حربية 303 من صنع إنجليزي وبندقية صيد، معززا بعشرين مواطنا، ودامت العملية حوالي نصف ساعة، حيث أسفرت عن استشهاد «طبولة العياشي بن سليمان»، وجرح «بوشريط محمد بن الحواس»، وألقي عليه القبض، أما في صفوف المعمرين فلم تسجل أية ضحية. وتشير عدة شهادات لمجاهدين متوفين كانوا في الصفوف الأولى للمشاركين في هجومات الشمال القسنطيني، بأن منطقة قالمة عرفت نجاحا كبيرا للهجومات التي كانت بين يومي 20 و21 أوت من سنة 1955 وهي الشهادات التي تبين بأن «عددا معتبرا من المجاهدين حضروا الاجتماع التحضيري للهجومات بجبل الزمان بسكيكدة تحت إشراف الشهيد زيغود يوسف ومكثوا هنالك ثلاثة أيام كاملة للتحضير الجيد ووضع الخطط المناسبة.» رد فعل قوات الاستعمار الفرنسي وقد كان لنجاح العمليات العسكرية وقع كبير في المنطقة، حيث «عمت الفرحة وسط سكان قرى ومشاتي ولاية قالمة، فيما جن جنون المستعمر الفرنسي الذي كثف من عمليات التمشيط والبحث عن المجاهدين» منفذي الهجومات وإلقاء القبض علينا. تقول المجاهدة «داود الطاوس»، إن السلطات الاستعمارية قد واجهت هذه العمليات بكل وحشية، إذ كان الانتقام شديدا في كل المدن والقرى الثائرة بولاية قالمة، وسرعان ما نظم المستوطنون الأوربيون أنفسهم على هيئة، حرس غير نظامي وفتكوا بالأهالي العزل، معيدين بذلك ذكرى مجازر الثامن ماي 1945م». متحف المجاهد... صرح يحكي تاريخ منطقة هيكل يجمع تاريخ المنطقة الثورية الثانية ويحفظ ذاكرة تاريخ الجزائر، متحف المجاهد لولاية قالمة... أنشئ في السادس والعشرين من ماي 1996، محطة تعزز الإيمان بأن الحاضر غرسُ الماضي والمستقبل جَنيُّ الحاضر والتاريخ سَجل الزمن للتضحيات التي كتبها المرابطون على هذه الأرض الطيبة. يُعد إنشاء متحف المجاهد بولاية قالمة، ثمرة لجهود من دوَّن التاريخ الوطني وأعطى لبنة جديدة في بناء صرح المعرفة والثقافة والعمق الحضاري لقيمة الثورة التي لا يعود الفضل في تشييدها للفرنسيين الذين خلّدُوها بوحشية الاعتداء الهمجي، وأبشع المجازر والجرائم الإنسانية المحفورة في الذاكرة الجماعية كإجابة دامية على مطلب شعب أراد الحياة، بقدر ما ترمز الى الآثار التاريخية التي أوجدها شعب عظيم غيور على الجزائر. قالمة التي لم تتوان عن نداء المساهمة في كتابة تاريخ الثورة التحريرية الكبرى والتي تحولت إلى بطولات رجال صدقوا ما عاهدوا الله والجزائر عليه... والمتحف سيحكي لزائره أخبارها. أول ما يشدُّ انتباه الزائر عند ولوج المتحف، بهوٌّ مخصص لقاعة العرض لتلك المجموعات المتراكمة من صور شهداء الثورة والتُحف المختلفة ذات الأهمية التاريخية، كالملابس العسكرية، وبعض الأسلحة داخل حاويات زجاجية تعكس قيمة من لبسها وحَملها، بالإضافة إلى مجسمات لأهم مواقع المعارك بالمنطقة وبعض النسخ الفوتوغرافية لصور مجموعات من المجاهدين من القوات العسكرية مترافقة مع بطاقات تعريفية لمآثر كل مجاهد توفي أو مازال على قيد الحياة، وصور للتجمعات الشعبية ومشاهد التعذيب وحتى الجثث وكأنك تغوص في قلب تاريخ منطقة قالمة. وبمرور الزائر الى رواق بجانب قاعة العرض، أين تتواجد قاعة سمعي بصري، ستقابله مكتبة المتحف التي تتطلب منه هي الأخرى وقفة مع التاريخ المتجسد بزواياها المُمتلئة الرصيد من كتب، وروايات، وكلها ذات قيمة علمية، فنية، وتاريخية، وما أن يخرج الزائر من مكتبة المتحف خاتى يجد نفسه أمام رواق خاص بالرئيس «هواري بومدين» إبن ولاية قالمة، ليجد صورا مختلفة لمراحل حياة الشاب محمد بوخروبة – الإسم الحقيقي للرئيس بومدين – والطالب بجامع الأزهر وتلك الملامح القوية المعبرة، ثم صور بومدين المجاهد جنبا الى جنب مع رفاق السلاح وبعدها بومدين الرئيس والتواضع الظاهر مع المواطنين من كل الفئات، وما يزيدك دهشة الحاجيات الشخصية للرئيس الراحل «هواري بومدين» المتواضعة كطقمين لبذلتين بسيطتين ومعطف وتلك البذلة العسكرية الخضراء الفاتح لونها والتي خرج بها بومدين في 19 جوان 1965 لحظة إعلانه عن التصحيح الثوري. غرفة خاصة لتسجيل الشهادات وحسب مصادر مطلعة، التي أشارت إلى أن المتحف ومنذ أن أُفْتتحت أبوابه وجَّه نداء لكل المجاهدين والمجاهدات وأسر الشهداء بالمنطقة وكذلك المواطنين والمواطنات الذين بحوزتهم وثائق وأشياء متعلقة بالمقاومة والثورة التحريرية للتجند من أجل تعزيز دور المتحف في إنجاح عملية المساهمة في أرشفة تاريخ الثورة. وعن توافد الزائرين على المتحف الذي يستقبل زوارا من مختلف الأعمار ويزداد عددهم بالخصوص خلال المناسبات المتعلقة بالأحداث التاريخية، هذه الأخيرة التي يحييها المتحف بدوره ويقف عند أهم المحطات التي مرت بها الثورة، ومن بينها ذكرى عيدي الإستقلال والشباب، وذكرى اليوم الوطني للمجاهد، وذكرى مجازر 8 ماي 1945 و20 أوت 1955 معركة مرمورة وغيرها... وإقامة معارض داخل المتحف وخارجه لنشر الوعي الثقافي بضرورة حماية الآثار والتحف الأثرية والعمل على تطويرها من أجل الحفاظ على تاريخ ثورة الجزائر المجيدة، والاحتفاظ بروايات نسجتها أيادي من رفعوا راية الحرية ولكي تبقى كتابًا مفتوحا لذاكرة الأجيال المتلاحقة. لأن «أمة من دون ذاكرة أمة دون مستقبل». ...ودور في توثيق الثورة فضولنا الصحفي ورغبتنا في إضاءة جانب من تاريخ المنطقة، ومعرفة دور المتحف في توثيق الثورة، تساءلنا ووجدنا الإجابة عند «مراد عاتي، أستاذ الحضارة بجامعة قالمة ورئيس المكتب الولائي لأكاديمية الذاكرة الجزائرية، في حديثه مع «الشعب» يقول، إن المتاحف ذاكرة الأمم، فالشعوب التي حسمت معركة الوعي كانت سباقة لبناء المتاحف والمحافظة على تراثها المادي واللامادي. ويضيف ذات المتحدث، أن هنالك أمم تبني المتاحف من أبسط الأشياء وتعظم شخصيات وأحداثا ومقتنيات بسيطة لصناعة تاريخ لها، أما في بلادنا فالتاريخ له زخم يجعل من كل حدث متحفا قائما بحد ذاته، فالثورة المباركة تركت لنا رصيدا تحسدنا عليه الكثير من الأمم. وأشار الأستاذ «مراد عاتي»، أنه رغم كل الجهود التي بذلت منذ مطلع الاستقلال إلا أنها غير كافية تماما، فسنوات الثورة لوحدها كفيلة بأن تزود كل بلدية من بلدياتنا 1541 بمتحف يحكي تاريخا مجيدا ويصون ذاكرة أمة صنعت أعظم ثورة في القرن العشرين، إن بعث الروح في متاحفنا ورفع عددها وفتح المجال أمام الأسرة الثورية لتزويدها بمقتنياتها يعتبر ضرورة ملحة في زماننا هذا وذلك لتعريف شباب اليوم بأمجاد الأمس وصيانة اللحمة الوطنية في هذا الظرف العصيب. ويضيف ذات المتحدث، ان المتحف ثقافة في حد ذاته نفتقدها في بلادنا، في ظل ظاهرة التصحر التي يعيشها المشهد الثقافي في بلادنا بشكل عام، لذلك وجب تربية النشء على ثقافة المتحف وأهميته في سنواته الأولى، كما أن المتاحف تعتبر مكانا مهما للعائلات الجزائرية للمساهمة في تنشئة جيل واع بأمجاد الماضي وبالتالي مستعد لتحديات الغد.