قد نكتب بصدق فتلامس كلماتنا شغاف قلب القارئ ونصنع اللحمة بيننا وبينه، وقد نكتب بلغة العقل فتخاطب كلماتنا عقل القارئ فينزع عنه ثوب الكسل ويمضي يفكر ويفكر، وقد نكتب بلغة سلسة جميلة في رقة السنديان فيرف قلب القارئ لحروفنا متعة، وقد نستشرف بكتابتنا الماضي فينزع القارئ إلى معرفة الآتي من خلال حروفنا وكأن النبوة بين أيدينا وقد نستحضر الماضي فتكون كلماتنا صوت الصالحين، وصوت الأبطال الذين صنعوا مجد هذا الوطن فكيف إذا اجتمعت كل هذه الأشياء في كتابات كمال لعرابي والسيناريست الذي أخذ من كل فن بطرف ومضى يعانق الحرف تجليا قدسيا، تقرأ له فترحل بعيدا عبر لغته السلسة وعذوبة حرفه وزخم المعرفة والتاريخ فيما يكتب. كاتب ظل في الظلِّ بالرغم مما قدّمه للمكتبة الجزائرية والعربية: الأنثى، حياتي قبل العشرين (رواية)، سيناريو مسلسل (صبر أيوب)، سيناريو فيلم (علي ملاح )، كما قدّم أفلاما وثائقية منها (ذكريات الجبال) من 3 أجزاء. على صدور روايته الموسومة ب (الظلال والأشرعة ) كان لنا معه هذا الحوار: - بداية، مبروك الإصدار الجديد لكم رواية «الظلال والأشرعة»، هل أبدأ الحوار مع كمال لعرابي السيناريست أم الأديب أم الإنسان؟ كمال لعرابي: مبارك للساحة الأدبية جهدي الذي أراه قطرة ماء في يم الفكر والإبداع، وبداية أشكرك جزيل الشكر على هذه الالتفاتة، وأثمن الجهد الذي بذلته لإجراء هذا الحوار، ولهذا وددت أن تكون البداية مع كمال لعرابي الإنسان، نحتتني قيم الوعي ومبادئ احترام الذات الإنسانية حتى استقمت واعتدل حرفي، منطلقا في مهمة زرع الوعي وبناء القيم؛ مهمة صنفتها كركيزة أساسية، واعتمدت عليها كإنسان بعيدا عن الأدب من أجل بناء الذات وتقديم الأفضل، فالمبادئ الثابتة في رأيي هي التي تلد السلوك الواضح، وهذا الأخير أنتج مني كاتب - يحاول البلوغ - محدد المعالم، بمبادئ حية تتنفس من عبق الأمانة، ولم أريد لحرفي أن يرقد يوما في بطون الكتب، بل أردته نافعا وفعالا في مجتمع يقرأ ويكتسب احترام جميع من حوله، كقلم ولد في جوف زوبعة راغبة في سرد القيم، الأديب ليس من كتب ونشر ولكنه عقل لبيب وحقل خصيب، في كلامه إفادة وفي صمته فراسة، قدوة وأسوة. - من السيناريو إلى الشعر إلى الرواية. هل هو البحث عن فضاء أوسع للتعبير أم هو زخم الإبداع في داخلك لم يستطع أن يحتويه فن واحد؟ الانتقال بين السيناريو والشعر والرواية، لم يكن رغبة؛ بل كان تلقائيا وبدون إرادة، ممكن أن يكون بحثا عن فضاء أوسع للتعبير؛ باعتبار أن الفكر ينمو عبر سلسلة شروط توفر فضاء التعبير عن الأفكار ومناقشتها وتطويرها، فالإنسان كائن مفكر، ومتأمل في فطرته، وكما يمكن أن يكون زخم الابداع في داخلي لم تستطع أن تخويه مشهدية السيناريو، ولا بيوت الشعر مهما كان وصفها، فوقعت حروفي في ظروف خاصة مكنها الوعي من اختراق الحواجز والانطلاق إلى فضاء أوسع في عالم الفكر والكتابة بتدبر وتأمل عميق، فعملت على إنتاج الأفكار وتطويرها. - وأين يجد كمال لعرابي الكاتب نفسه؟ ليس هناك فرق عندي، بين كتابة السيناريو الذي يعرف كقصة تروى بالصور، عن شخص أو عدة أشخاص في مكان ما، أو عدة أمكنة، يؤدي أو تؤدي عملا ما، أو كتابة قصيدة شعرية، وأما الرواية فأضعها شخصيا في خانة التحدي، تحدي الحرف والنمط، لأني أكتب بالصورة، والكتابة بالصورة لا تختلف كثيرا عن السرد الروائي إلا في بعض النقاط، تكتب وتعد للنشر، بطريقة سردية للقراءة، ويمكن إعدادها بطريقة تهيئها للمعالجة فتتحوّل إلى صور ومشاهد. - متى كانت البداية مع الحرف، وكيف؟ لا بداية للحرف ولا نهاية في نظري، فلا يزال كمال لعرابي منذ سن المراهقة يبحث عن ذاته عبر الكتابة، أسافر في غياهبها علني أنفد إلى جنة الفكر وخلد المعاني، صدرت لي روايتان ولي سيناريوهات ونصوص مسرحية للكبار، فالبداية كانت في سن مبكرة؛ أردت من خلال حرفي أن أقر بما كان يجول في داخلي كمراهق يصبو لنيل الاعجاب، ولكن بدخولي الثانوية رأيت الفن نشاطا يعبر عن الأفكار الإبداعية. البدايات مع القصة ولمسة الفلسفة لبست حروفي - في روايتك «الظلال والأشرعة» دهشة اللغة وفتنة السرد وأسلوب مختلف ومتفرّد، هل هو الإلهام أم التأثر بكتاب معينين؟ لن أخفي عنك شيء في هذا القبيل، ولد حرفي مع هذا الأسلوب الفلسفي، في أول محاولة لكتابة القصة أيام الثانوية، وهدفي الأسمى من اتباع هذا النهج يكمن في محاولة ايصال للفكرة بطريقة عقلية، وإعطاء مكانة للنص السردي الروائي، وهذا عبر منهج التأمل العقلي في المواضيع المختلفة والتحليل المنطقي لها للربط بينها كظواهر جزئية في المجتمع وبين المفاهيم الكلية للعقل والحياة، وهذا ما انتهجته حسب قدرتي على التأمل والتحليل وطرح الأسئلة العامة، وهذا الأسلوب رباني ولم أتأثر أبدا بأي كاتب من حيث اللغة والسرد، بل أسعى دائما لاستعمال أسلوب فلسفي مزين بالرموز، الأسلوب الذي أرى فيه التميز عن بقية الأساليب، ملتمسا فيه أصالة الابداع انطلاقا من القيمة التي ينتجها، ومنها يمكنني أن أفيد المجتمع والتعامل مع أمور الحياة اليومية، والعلاقات الإنسانية وتنظيمها. - ولمن يقرأ كمال لعرابي عادة؟ القراءة هي عملية عقلية، بها ينضج الفكر بإدراكه للنص المكتوب، وفهمه واستيعاب محتوياته، عملية تفاعلية بين القارئ والكاتب، ولا يمكننا تصوّر كاتب لا يقرأ؛ فالقراءة تحصل المعلومة، ولكنها تحتاج لمهارة الكتابة، والتحدّث والاستماع، ولهذا نتأثر ونؤثر، وأنا شخصيا متأثرا بالرواية الوطنية التي فيها يبحث البطل عن الحرية من ظلم الاستعمار، والبطل فيها رمزا للتضحية من أجل الوطن، ويمثل نضال الشعب بأكمله، وينقل صورة كفاح شعبه، ومتأثر بالرواية الواقعية كونها تقدم خدمة للمجتمع والعمل على إصلاحه بغرس القيم والأخلاق الحميدة في نفس القارئ، تسرد القصص والأحداث الحقيقية مجسّدة بأشخاص واقعيين، ولكونها تركز على مشاكل يعاني منها المجتمع بشكل عام. - رواية «الظلال والأشرعة» غنية بالرموز «حورية السمراء، الظل، قوس الشرق، الأفعى اليهودية.. الخ، هل هي بنت الواقع أم نسج خيال أم استشراف علمي لما هو مُقبل؟ أكيد هناك كثير ممن يسألون عن الحقيقة في فصول هذه الرواية والأحداث التي وضعتها بين أيديهم، فيطرحون السؤال نفسه بإلحاح؛ هل هي حقيقة أم خيال...؟ أم استشراف لما هو مقبل... سأقرُّ لك، كما قلت في تقديم الرواية؛ الحقيقة ليست تعجيزاً، فإن أنكر القراء الحقيقة التي بين أيديهم سيجدونها خيالاً، ولكن إن صدقوا الخيال وهم يقرؤونه في صفحاتي العابرة يتجلّى لهم في الوجه الآخر حقيقةً، فرواية الظّلال والأشرعة جاءت غنية بالرموز، فقد استعملت فيها اللغة الرمزية المعروفة كفن الكتابة السرية، الذي استخدم من قديم الزمن، رسالة موجهة لبناء مجتمع رايته على ضفاف نهر هائج. - وهل في رأيكم على الروائي أن يلتحق في روايته بهموم الشارع وأن يطرح على القارئ أسئلة تحرّك فكره وهي تلامس وجدانه أم عليه أن يضع بين أيدي القارئ مشروعا للحياة؟ الروائي أحيانا لابد أن يلتحق في روايته بهموم الشارع خاصة إذا كان من محبي الرواية الواقعية فيطرح على القارئ أسئلة تحرك فكره وتربيه، فتلامس وجدانه وتجعل منه يدا وفكرا للبناء والإصلاح، كما يستوجب على الروائي وضع بين أيدي القارئ مشروعا للحياة يوجهه لرؤية الأفق، فتكون حروفه كنجوم تضيء سماء حياته المظلمة. - النقد ضعيف الحضور في المشهد الثقافي كيف ترى النقد مع المد الإبداعي الذي تشهده الساحة الأدبية في الجزائر، وهل وجدت أعمالك حقها من النقد؟ الإشكالية التي يعاني منها النقد الجزائري، أراه في ضعف حضور نقد تطبيقي يستنطق النصوص ويسهم في تطور الإبداع الأدبي، فالنقد الحقيقي يتجه إلى النص، وهذا جوهر العملية الأدبية، وهذا في رأيي ما جعل تعالي هذا النقد عن الجمهور العام للقراء، والذين يهمهم من قراءة الأدب معرفة علاقة العمل بشروط إنتاجه، ومعرفة مواطن تميز هذه الأعمال الأدبية، وإضافتها إلى النوع الأدبي، وهذا ما أنتج التباعد والهوة بين النقد وجمهور القراء والمبدعين. - من الثقافة الأمازيغية إلى الثقافة العربية، كيف مزج كمال لعرابي بينهما، وكيف تعلِّق على تلك الأصوات التي تريد التفريق بينهما وصنع من ذلك مشكلة؟ ليس سهلا أن يمزج الكاتب بين الثقافات إلا إذا كان متمكنا من اللغة، فالثقافة سواء كانت عربية أو أمازيغية بالمجمل هي أسلوب حياة، نظام اجتماعي وما له من معتقدات وعادات، وفي رأيي الكتابة وساطة للمحافظة على الثقافة - سواء بالأمازيغية أو العربية - وتوريثها للأجيال، فالثقافة ملك مشترك وشكل من أشكال التعبير المنطوق، تختزنه الذاكرة الشعبية، وأنا شخصيا وجدت الثقافة الأمازيغية ورضعت منها منذ كنت صغيرا، فقد تربيت بالعادات والتقاليد المرتبطة بهذه الثقافة العريقة، الممتدة في التاريخ كما تمتد الثقافة العربية، ولا يمكن أن ينسلخ الكاتب عن جذوره مهما كان اجتهاده في الثقافات الأخرى، ولا يمكن أن نحتكم بالعادة القائلة أن هناك فرقا بين الثقافة الأمازيغية والثقافة العربية ولكننا نحتكم بالعقل وجوهره التعايش بين الثقافات. - بسطت الرواية في الأعوام الأخيرة نفوذها على الأنواع الأدبية الأخرى وصار لها السلطان المطلق. فهل هي بمعزل عن خطر قد يداهمها كما داهم القصة والشعر أم هي الاستمرار المقبل؟ الرواية ليست بمعزل عن خطر قد يداهمها كما داهم القصة والشعر، وهذا ما ستنتجه العشوائية وعدم الاحتكام لقواعد الكتابة الصحيحة، ولكن ستكون استمرارا قادما إذا ما توافقت الجهود على انتاج جيل جديد يحمل بين أنفاسه حب الوطن والكتابة الراقية، وأنا شخصيا أراها استمرارية لكتابة مختلفة كل الاختلاف عن الرواية القديمة، خاصة عندما يمتزج السرد الروائي بالمشهدية السينمائية، وهذا ما أصبو إليه. - السيناريو يحتاج الاحترافي و التمرّس والإلمام بتقنيات السينما عرفناك كاتبا للسيناريو ومؤسسا لموقع كتاب السيناريو وورشة تعليم منهجية السيناريو بحيث كنت تقدم دروسا بالمجان عبر الفايس بوك. كيف ولماذا كان توجّهك - لعالم السيناريو وما الهدف الذي ابتغيته من ورشة تعليم كتابة السيناريو وهل تحقق شيئا من ذاك الهدف؟ السيناريو يستلزم الاحترافية والتمرس، إضافة لمعرفة تقنيات السينما وآليات صناعة الفيلم، وتوجهي لعالم السيناريو كان تلقائيا، كوني أحب كتابة الصورة ووصف الأحداث كما أراها، وخاصة الأحداث التاريخية، وعندما نتحدث عن الورشة الافتراضية لكتابة السيناريو لابد أن نتحدث عن كتاب السيناريو في الجزائر بصفة خاصة، حيث نجد المشكلة الحقيقية تكمن في قلة النصوص التي تتطلّب من كتابها الإبداع والتخطيط الجيد؛ بداية بالاطلاع الكافي على خصوصيات الميدان السينمائي، وجاءت الفكرة على أساس واقع السيناريو في الجزائر الذي يعرف تذبذبا في «الإحاطة « بالفنيات والآليات، وهذا ما يتطلّب ترسيخ «التدابير» التي تضمن ديمومة هذا الصنف من التأليف الفني، واستنباط قواعد كتابة ثابتة قائمة على قوانين إجرائية وترتيبات، فتكفلت بإعداد ورشات افتراضية مجانية للعناية بالذين يريدون تعلم تقنيات كتابة السيناريو المكتوب باللغة العربية لكونه يعرف تراجعا، لغياب ذوي الاختصاص من الكتاب، ولم يكن ذلك الا لغياب التكوين، فالسيناريو عملا أدبيا، فنيا مستقلا، يتمّ من خلاله تجسيد الفيلم في شكله النهائي؛ هيكلا وإطارا، يبنى بواسطة لغة سينمائية تحدّدها (المعالجة) التي تعتبر سردا موسعا للفكرة والحبكة تسلسل وتتابع؛ والمشاهد تبنى من خلال كل ما هو صورة وحركة وتزين بالحوار عند الضرورة. والحمد لله، حققت الورشة الغاية التي أنشئت لها، وقد تعلم الكثير من متربصيها تقنيات مهمة الكتابة بالصورة، والنصوص المكتوبة والمحفوظة على مستوى الديوان الوطني لحقوق المؤلف تشهد على نجاحها. - بإيجاز، ماذا تمثل لك الكتابة في هذا الزمن الذي أصبحت فيه القراءة شيئا غريبا؟ أرى الكتابة عملية معقدة، تحمل في ذاتها القدرة على تصوّر الأفكار في تراكيب صحيحة، تسرد بأساليب متنوعة، وتعرض الأفكار في وضوح، وتعالجها في تتابع وتدفق، فالكتابة غايتها تمكن من حفظ وإرسال الأفكار عبر مسافات شاسعة من الزمان والمكان. - ما هي مشاريعك المقبلة؟ عندما نتحدث عن المشاريع لابد أن نتحدث عن أزمة النشر التي أضحت اليوم كابوسا يؤرق فكرنا ككتاب، فقد نكتب زارعين الوعي في المجتمع، ولكننا نجد أنفسنا أمام تجار يستنزفون جيوبنا ولا يمكننا أن نحلم في مشاريع جديدة ما دام لم تعالج مشكلة غلاء النشر والطباعة، وأنا شخصيا أحمل مشاريع كبيرة وكثيرة في مجال الفكر والمنهج، التي أراها ممكن أن تجعل القلم الجزائري يرتقي خاصة في مجال الكتابة السينمائية، ومثالا على ذلك أقدم لك (كتاب موسوم ب: عالم السيناريو.. أسس الكتابة بالصورة): كتاب من (446 صفحة)، وهو الكتاب الثاني لي فيما يخصّ منهجية كتابة السيناريو باللغة العربية، ولكن للأسف النشر يطلبون مبلغا خياليا (يصل لحدّ العشرين مليون دينار جزائري) لطبعه في حين يغيب التوزيع الذي يجعل الكتاب وسيلة يستفيد منها القراء الذين ينتظرون صدوره بشوق. وهناك رواية العقيد سي الشريف وهي على مشارف الصدور نتمنى ان يتزامن صدورها والذكري السابعة والستون لاستشهاد العقيد علي ملاح كما لي في الأفق ترجمة المجموعة الشعرية (تغاريد ) للكاتبة نسيمة بن عبد الله وكتاب آخر فيما يخص منهجية الكتابة السينمائية باللغة الفرنسية.