إطلاق عملية رقابية وطنية حول النشاطات الطبية وشبه الطبية    يجسد إرادة الدولة في تحقيق تنمية متكاملة في جنوب البلاد    ملك النرويج يتسلم أوراق اعتماد سفير فلسطين    ارتفاع حصيلة العدوان الصهيوني على غزة    مقتل مسؤول سامي في هيئة الأركان العامة    الجزائر حاضرة في موعد القاهرة    بالذكرى ال63 لتأسيس المحكمة الدستورية التركية، بلحاج:    بيع أضاحي العيد ابتداء من الفاتح مايو المقبل, بالولايات ال58    المرأة تزاحم الرجل في أسواق مواد البناء    الدبلوماسية الجزائرية أعادت بناء الثقة مع الشركاء الدوليين    الاستفادة من التكنولوجيا الصينية في تصنيع الخلايا الشمسية    النخبة الوطنية تراهن على التاج القاري    15 بلدا عربيا حاضرا في موعد ألعاب القوى بوهران    التوقيع بإسطنبول على مذكرة تفاهم بين المحكمة الدستورية الجزائرية ونظيرتها التركية    مزيان يدعو إلى الارتقاء بالمحتوى واعتماد لغة إعلامية هادئة    مداخيل الخزينة ترتفع ب 17 بالمائة في 2024    وزير الاتصال يفتتح اليوم لقاء جهويا للإعلاميين بورقلة    رئيسة المرصد الوطني للمجتمع المدني تستقبل ممثلين عن المنظمة الوطنية للطلبة الجزائريين    إبراهيم مازة يستعد للانضمام إلى بايرن ليفركوزن    اجتماع لجنة تحضير معرض التجارة البينية الإفريقية    متابعة التحضيرات لإحياء اليوم الوطني للذاكرة    رئيسة مرصد المجتمع المدني تستقبل ممثلي الجمعيات    الكسكسي غذاء صحي متكامل صديق الرياضيين والرجيم    60 طفلًا من 5 ولايات في احتفالية بقسنطينة    وكالات سياحية وصفحات فايسبوكية تطلق عروضا ترويجية    انطلاق فعاليات الطبعة الخامسة لحملة التنظيف الكبرى لأحياء وبلديات الجزائر العاصمة    الجزائر وبراغ تعزّزان التعاون السينمائي    ختام سيمفوني على أوتار النمسا وإيطاليا    لابدّ من قراءة الآخر لمجابهة الثقافة الغربية وهيمنتها    قانون جديد للتكوين المهني    استقبال حاشد للرئيس    المجلس الشعبي الوطني : تدشين معرض تكريما لصديق الجزائر اليوغسلافي زدرافكو بيكار    رئيس الجمهورية يدشن ويعاين مشاريع استراتيجية ببشار : "ممنوع علينا رهن السيادة الوطنية.. "    تنصيب اللجنة المكلفة بمراجعة قانون الإجراءات المدنية والإدارية    توقيع عقدين مع شركة سعودية لتصدير منتجات فلاحية وغذائية جزائرية    عطاف يوقع باسم الحكومة الجزائرية على سجل التعازي إثر وفاة البابا فرنسيس    الأغواط : الدعوة إلى إنشاء فرق بحث متخصصة في تحقيق ونشر المخطوطات الصوفية    سيدي بلعباس : توعية مرضى السكري بأهمية إتباع نمط حياة صحي    عبد الحميد بورايو, مسيرة في خدمة التراث الأمازيغي    انتفاضة ريغة: صفحة منسية من سجل المقاومة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي    الرابطة الثانية هواة: نجم بن عكنون لترسيم الصعود, اتحاد الحراش للحفاظ على الصدارة    النرويج تنتقد صمت الدول الغربية تجاه جرائم الاحتلال الصهيوني بحق الفلسطينيين في غزة    نشطاء أوروبيون يتظاهرون في بروكسل تنديدا بالإبادة الصهيونية في غزة    تصفيات كأس العالم للإناث لأقل من 17 سنة: فتيات الخضر من اجل التدارك ورد الاعتبار    جمباز (كأس العالم): الجزائر حاضرة في موعد القاهرة بخمسة رياضيين    الصناعة العسكرية.. آفاق واعدة    وزير الثقافة يُعزّي أسرة بادي لالة    250 شركة أوروبية مهتمة بالاستثمار في الجزائر    بلمهدي يحثّ على التجنّد    حج 2025: برمجة فتح الرحلات عبر "البوابة الجزائرية للحج" وتطبيق "ركب الحجيج"    هدّاف بالفطرة..أمين شياخة يخطف الأنظار ويريح بيتكوفيتش    رقمنة القطاع ستضمن وفرة الأدوية    تحدي "البراسيتامول" خطر قاتل    هذه مقاصد سورة النازعات ..    هذه وصايا النبي الكريم للمرأة المسلمة..    ما هو العذاب الهون؟    كفارة الغيبة    بالصبر يُزهر النصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البطل هو الشعب
نشر في الشعب يوم 08 - 01 - 2022

450 قاعة سينما هو العدد الّذي كانت فرنسا الاِستعمارية تستغله لتمرير أفكارها وتطبيق إستراتجيّتها القائمة على محو الهوية الوطنية ومرتكزاتها والقضاء على الحس الوطني ومساندة الأفكار الثورية، عِلمًا أنّ هذه القاعات لم تكن مُخصصة "للأهالي" بل للمُعمِّرين للترفيه عنهم وعن عائلاتهم.
بعد الاِستقلال أصبحت تلك القاعات مساحة لتمرير الخطاب الوطني وكشف الحقائق التاريخية التي كان الاِستعمار يخفيها عن العيون.
هناك علاقة سمبيوز ما بين السينما الجزائرية وثورة التحرير/ أعتقد أنّ في حالة الجزائر المصطلح الأحسن هو "السينما الجزائرية" وليس "السينما في الجزائر"، لأنّ هناك روح تسكنها وهوية تُدافع عنها ومبادئ تعتبرها أولويات/ والتي أصبحت اليوم تتجسد دون وعي في فيلم "معركة الجزائر" (1965) للمخرج الإيطالي جيلو بونتيكورفو وكذلك في تلك الأشرطة التي أنجزها بعض الثوّار في الجبال وبعض السينمائيين المُتعاطفين معهم أمثال المخرج روني فوتيي.
سينما الثورة ومبدأ الوجود
بعد اِستقلال البلاد في 1962 حاولت الدولة الجزائرية بناء نظرة جديدة للوطن، من خلال خلق مؤسسات تتمكن من الدفاع عن المبادئ الجديدة ورسم –بورتري- للمجتمع الجزائري الّذي تعرض لكلّ أنواع الاِنتهاكات والظُلم والتشريد والتعذيب والتقتيل التي أصبحت جزءاً من كُتب التاريخ في كلّ بقاع العالم، وهذا بخلق وكالة الأنباء الجزائرية في 1963 والمؤسسة الوطنية للإذاعة والتلفزة ثمّ المركز الوطني للسينما الجزائرية (CNCA) في 1964 التابع لوزارة الثقافة ودمجه مع مؤسسة السينيماتيك التي كانت تمتلك أصلاً ما يُقارب خمسة آلاف فيلمًا من كلّ أنحاء العالم ليشاهدها المتفرجون في كلّ من الجزائر العاصمة وبعدها قسنطينة ووهران وعنابة وسطيف. تمّ تأميم كلّ قاعات السينما وبعدها تمّ إسناد تسييرها للبلديات التي كان يُسيطر على عملها المركز الجزائري للسينما (CAC).
بدأت الجزائر ببناء ثورة صناعية هدفها نقل البلاد إلى مرحلة جديدة من النمو والتطوّر وتجاوز العهد الاِستعماري وتهميش الجزائريين في السلع واِستهلاكها وفي الإنتاج المعرفي والترفيهي واستهلاكه ولذا كان النشاط السينماتوغرافي جزءاً لا يتجزأ من تلك الإستراتيجية التي هدفها توفير الدعم المالي والتقني للمخرجين والمؤسسات التي تعمل في هذا المجال وهذا يشرح تدخل البُعد الثقافي والسياسي في الأفلام التي تمّ إنتاجها.
إنّ العلاقة بين السينما وثورة التحرير الجزائرية تندرج ضمن العلاقة التي عبّر عنها المُنظِر الجنرال الألماني كارل فون كلاوزفيتز بقوله "السياسة هي مواصلة للحرب بوسائل أخرى" وكذلك السينما فهي مواصلة للثورة بوسائل أخرى وبالتالي فإنّ السينما تُقدم للثورة خدمةً كبيرة باِعتبار أنّها تُمكن المجتمعات من إعادة رسم تاريخها وملاحم سكانها وآلامهم وآمالهم بكونها تغدو ذاكرة حية تنقل بالصوت والصورة مصائر الأفراد والجماعات وتُشكل الوعي الثقافي والهوية والمبادئ السياسية التي سيُدافع عنها المُجتمع مُستقبلاً وتعريف الآخر على الرّوح التي تسكن أفراد ذلك المجتمع واللحمة التي تجمعهم والعصبية (التي تحدث عنها ابن خلدون) التي توحّدهم في الأزمات وتدفع بهم إلى الأمام. فالفيلم التاريخي الثوري هو أداة لمواصلة المقاومة، خاصةً بالنسبة للمجتمعات التي عاشت ثورات اِستثنائية ضدّ المُستعمر، كما فعل الجزائريون الذين من واجبهم أن يكونوا على وعي بذلك وخاصةً بالنسبة للأجيال القادمة.
إنّ القدرة السحرية للسينما تتمثل في قدرتها على إعادة إحياء اللحظات التاريخية التي مر عليها الزمن، ثمّ تحيينها بشكلٍ رائع يمنح الإنسان القدرة على وخز الضمائر وسرد المصائر ليس كما رآها العدو بل كما عاشها أهلها وتألموا لها من الداخل. الواضح أنّ الاِستعمار اِستعمل أفلام الدعاية التي تخدم أهدافه الدنيئة من كسر للإرادة وتشويه الهوية والثقافة المحلية باِعتبارها "ثقافة سفلى" (Low culture) في عُرف النظريات الأمريكية في قُبالة الثقافة العُليا (High culture) القادمة من الغرب والتي لا تعتبر ثقافة غازية حسب رأيهم رغم أنّها تستعمل الرموز بعناية وتدسها داخل الأفلام لخدمة النظام الاِستعماري والمؤسسة العسكرية التوسعية. نجحت فرنسا إلى حدٍّ بعيد في تشويه القضية الجزائرية وتقديم ما يحدث على أنّه أحداثٌ فقط ولم تستعمل أبداً كلمتي"الحرب" أو "الثورة" وذلك اِستصغاراً لِمَا يقوم به الشعب الجزائري آنذاك. هنا يأتي الفيلم التاريخي كأداة تتحوّل إلى فن وفلسفة ومقاربة سياسية للواقع التاريخي كحيز تحدث فيه الأشياء ومرآة لشرح العلاقات بين التجمعات البشرية وخاصةً بين المُعمرين والمُستعمَرين، بين الأغنياء والفقراء، "بين من يملكون ومن لا يملكون" بلغة كارل ماركس. إنّه يَمنح الفاعلين فرصة لتقديم وجهة نظر والدفاع عن موقف تاريخي لم يكونوا ليدافعوا عنه لولا الثورة ثمّ بعدها الاِستقلال.
عنف وجمال البدايات
الحقيقة أنّ السينما الجزائرية في رمّتها هي سينما ثورية ولدت في خضم الاِقتتال من أجل الحرية والاِستقلال وهي مساحة للصراع وجاءت كنقيض للسينما الاِستعمارية القائمة على الدعاية كوسيلة والإبقاء على الاِستعمار كهدف. لقد كانت السينما الجزائرية قطعة سلاح في أيدي الثوّار حتّى أنّ بعضهم مات وهو يُصوّر وواصل الآخرون تكوين الجماعات التي ستتمكن من مواصلة العمل رغم صعوبة الظروف وقلة الإمكانيات التي تحداها المناضل الثائر روني فوتيي في إقامة ما يُشبه المدرسة السينمائية في الجبال عام 1957 تحت اِسم "جماعة فريد" (الاِسم الثوري لروني فوتيي) كبداية والتي صارت تُعلِم أبجديات التصوير والعمل التوثيقي والتي تمكنت من إنتاج أفلام كثيرة من أهمها "الجزائر الملتهبة" و«الهجوم على مناجم الونزة"، "بنادق الحرية"، "خمسة رجال وشعب واحد".
تكمن فعاليّة هذه السينما آنذاك في قدرتها على محاولة إيصال صوت الجزائر الخافت إلى العالم الخارجي وجعلها موضوعًا للاِهتمام والقراءة الرمزية، واستيعاب الّذي يحدث في ظل التغيرات الدولية وموجات تصفية الاِستعمار وكأنّ تلك السينما الوطنية المُدعمة من طرف الحكومة الجزائرية المُؤقتة كانت مُوجهة نحو التخلص من الاِستعمار وبناء أمة جديدة على أنقاضه، سينما كتبها روني فوتيي، بيار شولي، بيار كليمون، سيرج ميشال، جمال شندرلي ومحمّد الأخضر حمينة. لقد كانت السينما في هذه المرحلة في علاقة بيولوجية مع الثورة باِعتبار أنّها قامت بتدويل القضية الجزائرية التي كانت فرنسا تريد أن تجعل منها قضية وطنية ومسألة فرنسية داخلية لأنّ القوانين الفرنسية جعلت من الجزائر مقاطعة فرنسية إضافة إلى عمليات التعتيم التي تقوم بها أدواتها الإعلامية وجعل الحديث عن "حرب" الجزائر من الطابوهات التي تقود إلى السجن. كانت السينما في أيدي الثوّار والنُّخب الجزائرية أداة تُشبه الرشاش باِعتبار أنّها تكشف عورات الاِستعمار وجرائمه وتجلب تضامن الشعوب مع الجزائريين ونضالهم لتصفية الاِستعمار وهذا ما أكد عليه مُؤتمر الصومام.
الواضح أنّ السينما الجزائرية بعد الاِستقلال واجهت الكثير من المشاكل والتحديات مثل غياب مدارس التكوين وخاصةً مصادرة الأدوات من طرف الاِستعمار الّذي مارس سياسة الأرض المحروقة في كلّ الميادين ظناً منه أنّ الجزائر ستنهار جراء ذلك لكن تكفلت الدولة بإرسال بعثات لتحصل على تكوين في مجال السينما ولواحقها وتلك البعثات هي التي بعثت السينما الجزائرية من لا شيء. كان الهدف الأساسي من السينما في الجزائر هو القضاء على الصور السلبية عن الجزائريين التي كان يبثها المُستعمر وكذا منحهم فرصة لرؤية أنفسهم على الشاشة بالطريقة التي يرتضونها لصورتهم في المرآة. في أعز الثورات للتنمية، اِستلهمت السينما الجزائرية فكرة "الشعب هو البطل" من الثورة وراحت تستعمله في كلّ المناسبات. الإشكال الّذي ظهر هو غياب أنواع السينما الأخرى والتركيز على الأفلام الثورية التي يمكن تمويلها من طرف الدولة بقيادة حزب جبهة التحرير الوطني.
كانت الأفلام الثورية تقنية فعّالة في بناء الهوية الوطنية والدفاع عن ملامح الأمة الجزائرية
يرى البعض أنّ تركيز الجزائر على الأفلام الثورية وكُثرة عددها مُقارنةً مع المواضيع الأخرى يرجع إلى طبيعة الاِستعمار الّذي خضعت له مقارنةً مع الدول الأخرى أو حتّى الدول المُجاورة التي كانت مجرّد "حماية" عاش أهل هذه البلدان حريتهم وشعائرهم، أمّا في الجزائر فقد كان الاِستعمار الاِستيطاني بشعًا في مرحلته العسكرية ثمّ المدنية التي تسلط فيها الكولون على السُّكان الأصليين "الأهالي" وحرموهم من كلّ الحقوق وهذا ما خلق نوعًا من التمرد لا يوجد في مكان آخر. هكذا كانت السينما من أهم المساحات والأدوات التي منحت الجزائريين فرصةً للتعبير عن الّذي تعرضوا له من دمار نفسي وتقتيل وتعذيب وتشريد. إنّه أوّل صوت مسموع بنبرتهم وقضاياهم يقول "البطل الوحيد هو الشعب" وهذا طبعًا على حساب الموضوعات الأخرى التي ربّما تقسم أكثر مِمَّا تجمع ولهذا كانت الأفلام الثورية تقنية فعّالة في بناء الهوية الوطنية والدفاع عن ملامح الأمة الجزائرية الحديثة وتحديد البطل الحقيقي للتاريخ ولعمليات البناء وخلق الشعور الوطني الجمعي. فخلق الشخصية الثورية في أفلام الثورة كانت عملية مُهمة ومُعقدة، لأنّه على الشخصية أن تختصر في ذاتها كلّ ما يُمثله الشعب من شجاعة وإقدام وتضحية وأن تُعبّر عن الضمير والوعي والمخيال الجمعي للجمهور الجزائري.
حصل المخرج محمّد الأخضر حمينة سنة 1975 على السعفة الذهبية العربية الوحيدة في مهرجان كان السينمائي لحد اليوم على فيلمه "وقائع سنين الجمر" الّذي قدم فيه بشكلٍ جيّد الحالة المُزرية التي كان يعيشها الشعب الجزائري في المرحلة البشعة من الاِستغلال والقمع والجوع والموت البطيء والتي مهدت لاِندلاع ثورة التحرير. "ريح الأوراس" فيلمه الإنساني الّذي تفتك فيه البطولة أم الثورة، الأم التي تحمل في يدها دجاجة/ أدت الدور باِقتدار الممثلة كلثوم/ وتتنقل بين السجون بحثًا عن ابنها الّذي اِعتقلته السلطات الاِستعمارية. كانت تنوي تقديم الدجاجة هديةً لمن يدلها على مكان ابنها ولم تكن تعرف أنّ الاِستعمار ليس له قلب ولا يُفكر في الإنسان الّذي كان يسجنه ويحيطه بالأسلاك الشائكة المكهربة. تموت الأم مصعوقة بالكهرباء وهي تحاول الاِقتراب من السياج، كذلك هي حال كلّ الجزائريين الميؤوس منها قُبالة القوّة الهمجية المُدّججة بالسلاح والمُحاطة بكلّ أنواع إحباط العزيمة. يقول الفيلم درجات القمع من جهة ودرجات الألم من جهة أخرى. وأوّلَ بكلّ أمانة العلاقة الحميمة الموجودة بين السينما وقدرتها على التعبير ونقل أحاسيس العجز والحرمان للمتفرج الّذي ينتهي بالتعاطف مع السجين الّذي يُمثل كلّ السجناء الجزائريين وأمه التي تُمثل كلّ الأمهات في الجزائر المُنهكة وهذا من خلال البناء الدرامي الشيق وأدوار الممثلين التي تُعيد إنتاج وقائع حدثت في الزمان والمكان.
أول فيلم يركز على العلاقة بين الثورة الجزائرية وتوظيف رموزها واستغلال وهجها وتمريره للآخرين كان "فجر المعذبين" الّذي اِشترك في تشكليه كلٌ من الكاتب مولود معمري والسينمائي روني فوتيي والمخرج أحمد راشدي عام 1965 وحصل على جائزتين مهمتين في عالم السينما وهما "جائزة المؤتمر العالمي للسلم" بألمانيا سنة 1965 وجائزة أكاديمية الفنون بتشيكوسلوفاكيا في 1966. يحكي الفيلم قصة مجموعة من الشباب في الجزائر المستقلة يقومون بالبحث والتنقيب في مراجع وكُتب ووثائق تاريخ الاِستعمار ويجدون أدلة رهيبة من صور وكُتب ووثائق عن البشاعات التي قام بها عساكره في 8 ماي 1945 خاصةً وفي كلّ من إفريقيا وآسيا، ويعتبر هذا الفيلم تكريمًا ليس فقط للجزائر بل لكافة الشعوب المُناضلة آنذاك وتشجيعًا لثوراتها الساخنة وإرادتها المُتأهبة لمُكافحة الاِستغلال. إنّه الفيلم الّذي يتحوّل إلى عملية تضامن تربط الثورة بمكافحة الاِستعمار في كلّ مكان وليس فقط في منطقة واحدة أي أنّه يصبح أداة مثل الرشاش تمامًا. منه تصبح السينما مُلتزمة بقضايا شعبها وشعوب القارات الأخرى، قضايا إنسانية أخلاقية تسكن روح الفلسفة البشرية منذ بداياتها الأولى.
في سنوات السبعينيات بدأت الجزائر تُنتج بين أربعة وسبعة أفلام طويلة سنويًا وهذه نسبة قليلة مُقارنةً مع ما يُشاهده الجزائريون من أفلام لكن الواضح أنّهم شاهدوا في التلفزة هذه الأفلام الثورية كثيراً من المرات في المناسبات الوطنية التاريخية. كانت الأفلام مُتتالية وقوية جداً في موضوعها وطريقة تناولها مثل "الليل يخاف من الشمس" لمصطفى بديع، "الأفيون والعصا" لأحمد راشدي، "دورية نحو الشرق" لعمار العسكري، "معركة الجزائر" لجيلو بونتيكورفو الّذي أصبح من المُنتجات الكلاسيكية في الفيلم الثوري و«أحمد زبانة" لنور الدين العدناني، و«كريم بلقاسم" و«العقيد لطفي" و«مصطفى بن بولعيد" لأحمد راشدي. لقد تمكنت هذه الأفلام وغيرها من ربط التاريخ بالهوية الوطنية وربط الإبداع السينمائي بالثورة والدفاع عن مبادئها لأنّنا رأينا كيف يُريد الاِستعمار من خلال مقاربة معارضة تمامًا طمس الثورة واتهام القائمين بها بالفوضويين والإرهابيين واعتبار ما قام به هؤلاء مجرّد أعمال تخريبية مُعادية للحضارة وأنّ الشعب الجزائري في أغلبيته كان مع المُهمة الحضارية الفرنسية إضافةً إلى أنّه شعب يرفض العنف والكفاح المسلح. كان على السينما الجزائرية أن ترسم بورتري للمرحلة السابقة للثورة ثمّ الثورة ثمّ ما بعدها كي ندرك أنّ ما قام به الاِستعمار ليس بالشيء الهين. هنا يأتي دور السينما التي تربط ما بين الإبداع الفني من جهة وخلق الفرجة والمشهد المُثير من جهة أخرى، الشيء الّذي يُناضل من أجل قضية شعب وإعادة رسم الوقائع من زاوية أخرى، زاوية الضحية، زاوية المظلومين، المنتصرين في النهاية.
ملاحظات عابرة
تثور أحيانًا بعض الأسئلة التاريخية والفنية حول بعض الأفلام وقراءتها من طرف المتفرجين وخاصةً العارفين منهم بشؤون الاِتصال والرمزية وفلسفة الصورة بحيث رأى البعض أنّ أفلام الثورة بقدر ما تركز على مسألة "الشعب هو البطل" فقد حرمت الكثير من الممثلين من تقمص الدور الأساسي في الحكاية ومنعت المشاهد من التعرف على البُعد النفسي والحياة اليوميّة الاِجتماعيّة والعاطفيّة لأبطال الأفلام وكأنّهم دُمى تُمثل وقائع مُعينة أو روبوهات تُؤدي أدواراً معينة لا علاقة لها بالبُعد الإنساني الّذي إذا وُجِدَ فهو محدود جداً. المُلاحظة الثانية هي أنّ بعض الأفلام المشهورة مثل فيلم "معركة الجزائر" بقدر ما عبّر عن نضال الشعب الجزائري وتضحياته بشكل فني جميل إلاّ أنّها في النهاية يضم بُعداً خفيًا غير مباشر وهو تمجيد فرنسا الاِستعمارية القوية وقدراتها العسكرية وجيوشها الجبارة وإستراتيجيّتها الفعّالة في القضاء على "الإرهابيين". المُلاحظة الثالثة، هناك أفلام ثورية لم توافق على مضمونها الجهة الوصية بسبب عدم وجود الجانب الثوري والمواجهات العسكرية بين جيش التحرير وجيش الاِستعمار بالقدر الكافي أو أنّ السيناريو لا يخدم الشخصية الوطنية التي هي موضوع الفيلم. كأنّ هناك قاعدة أو شكل معين كانت فرضته الأفلام الثورية السابقة وبالتالي أصبح من الصعب على المخرجين الجزائريين تناول الثورة خارج ذلك القالب السينمائي. المثال لهذا هو فيلم "مصطفى بن بولعيد" الّذي رأى الكثير من الملاحظين أنّه لم يكن مُتشبعًا بمشاهد المقاومة والمواجهة مِمَا أعطى وجهًا خافتًا للبطل الّذي من المفروض يتميز بكلّ صفات الشجاعة التي لم نرها في الفيلم.
المُلاحظ أيضا أنّ سينما الثورة نجحت بدءً من المراحل الأولى في التركيز على فضح الدعاية الاِستعمارية والقيام بحرب إعلامية مُوازية تمكنت من الدفاع عن قضية عادلة وهي كفاح الشعب الجزائري وتمكنت من خلق أجيال من المخرجين والتقنيين المحنكين الذين استطاعوا دعم الإنتاج السينمائي في مراحل لاحقة.
(عن مجلة فواصل – العدد 8)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.