«الشعب»، «بوعلام زيد القدام»، «المحقور»، «بابور غرق»..عناوين وكلمات تحيي في مخيلة أي محب للمسرح، حنين لزمن ذهبي خاطب المخيال الجمعي بكلمات بسيطة في تعابيرها، عميقة في معانيها. سليمان بن عيسى أحد أعمدة المسرح الجزائري عاش الزمن الذهبي للمسرح، بل وكان أحد صانعي أمجاده، استطاع ومعه ثلة من المبدعين أمثال عمر قندوز، سيد احمد أقومي، وعبد القادر علولة وغيرهم من ملأ قاعات المسارح، كل يوم ومدة شهور، في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. فلماذا خاصم الجزائري قاعات أبو الفنون، وأدار ظهره لكل شيء جميل يرمز للفن والثقافة؟ أطلق الرّوائي والمخرج المسرحي سليمان بن عيسى، في ندوة نشّطها بمواقع «الشعب» الالكترونية، عنان كلماته للحديث عن المسرح، وفيه يقول «إنّ جيله عاصر حقبة كان المسرح الجزائري فيها، يشق طريقه نحو بناء مدارس ترسم معالم فن رابع يضاهي المسارح العالمية، ولكن القطيعة حصلت في عشرية سوداء أرادت طمس كل مظاهر الحضارة والفن، بل وحتى الهوية». وتحدّث بن عيسى عن تجربة بن علولة، وبن قطاف ومجوبي، وكاتب ياسين، الذين أسّسوا لمدارس المسرح الجزائري، لكن أحداث العشرية السوداء أوقفت مسار تطوّر المسرح، بل وشلّت الحياة بجميع مظاهرها. وتأسّف الكاتب أنه بعد عودة الحياة إلى مجراها الطبيعي لم يعمل الكتّاب على ربط المراحل، وكأنهم اختزلوا حقبة من الزمن وأدخلوها في خانة النسيان، وهذا لا يخدم الفن والثقافة، برأيه، «لأنّ الشعب الذي لا يقف على تاريخه ويتأمّله، قد يضيعه».
تعلّمتُ المسرح بالاقتباس
تحدّث بن عيسى عن مشاكل المسرح وعن مساره، وتجربته الخاصة بين الجزائروفرنسا، فيقول المؤلف المسرحي إنه تعلم من تجربته أن المشكل يكمن في ترجمة حقيقة يعيشها المواطن في يومياته على خشبة المسرح «أصادف كل يوم مشاهد درامية في الحياة اليومية». والمهم هو ترجمة المشهد باللغة التي حدث بها (يقصد الدارجة)، يضيف بن عيسى، لأنه من الناحية السيكولوجية، «أجد نفسي في حالة تواصل مع الواقع، لأنّني نقلت المشهد بأمانة وبنفس اللغة التي حدث بها». ويضيف: «مهمّتي لغوية بالدرجة الأولى حتى أعطي للمشهد اليومي بعدا أدبيا، وهذا هو جوهر المسرح». «الجمهور لا ينتظر منك أن تنقل له الواقع الذي يعيشه كما هو لأنه يعرفه، مهمة رجل المسرح هي إعطاء نظرة محايدة ومغايرة عمّا يعيشه، بلغة تحاكي واقعه وتهذّبه في آن، لكشف جوانب من الحقيقة أغفلها، وهذا هو البعد الأدبي للمسرح»، يوضح بن عيسى. ويضيف «اقتبس من كاتب ياسين وترجمة كتاباته ل «الدارجة»، وهنا تفطّنت للمشاكل اللغوية التي تواجه الكتابة المسرحية . في مسرحية المقتبسة «الاستثناء عن القاعدة» التي تروي صراع بين شخص وعماله في رحلة إلى الصّحراء بحثا عن البترول، استحضرتني الرّواية لأنّني ابن الصّحراء، والجزائر بلد بترولي، كما يقول بن عيسى، فالاقتباس كان طبيعيا وسهلا لأنّني أجد اللغة المستعملة، فهي مستوحاة من واقع أعرفه.
التباس في الاقتباس
يروي بن عيسى حالة التباس في الاقتباس عندما يقول: طلب منّي مثلا اقتباس قصة «السيد بونتينا وخادمه» التي تروي قصة سيد قاسي الطباع، ولكنه عند السكر حتى الثمالة يصبح طيبا مع مستخدمه، لم استطع اقتباس القصة لأنّها لا تتطابق مع واقعنا كبلد مسلم. ويوضّح أنّ الفكرة التي يريد الوصول إليها هي أن كتابة المسرح لابد أن تحاكي واقع الشعوب، فلا يمكن أن يكون المسرح ناجحا إذا لم يكن مستوحى من واقع الجمهور المتلقي.
التّعبير بثقافة محلية عن مسائل عالمية
الصّراعات الإنسانية والسيكولوجية داخل المجتمع تكتسي عادة طابعا عالميا (العلاقة بين الأب والابن، وعقدة أوديب مثلا)، لكن مكمن الفرس هو «التعبير بثقافة محلية عن مسائل عالمية»، أي «كيف ننتقل من فضاء خارجي ونجعله محليا، في متناول فهم الجميع؟». وأشار الروائي إلى أن رجل المسرح يشعر بقبول الجمهور بعد 5 دقائق من صعوده على الخشبة، وهي الدقائق الحاسمة، أين يفهم الجمهور إن كنت تخاطبه، أو تخاطب طبقة من مصاف آخر..
جدلية اللغة في المسرح
في معرض حديثه عن واقع المسرح في الجزائر، تطرّق بن عيسى لمسألة ارتباط المسرح بالهوية واللغة، وهو يقول إن أقرب طريق للوصول إلى وعي الانسان هو مخاطبته بلغته، أي اللغة التي يفهمها ويستعملها في حياته اليومية . وتحدّث عن تطوير لغة «0بائنا» لتعبّر عن حضارتنا وثقافتنا عن طريق الابداع في اللغة، وهذه مهمة الكتاب والأدباء مضيفا «يمكن الرقي بلغة المسرح بإضفاء محسنات جمالية عليها، باستعمال لغة «دارجة» وسيطة بين تلك المستعملة بين عامة الناس، واللغة الأكاديمية». وتحدّث المسرحي عن عدم احتقار اللغة «الدارجة» بوصفها بالعامية، لأنّها اللغة التي يتعامل بها الإنسان في يومياته، ومخاطبته على خشبة المسرح بغيرها قد يضع مسافة بين الممثل والمتلقي، فتضيع الرسالة. وهو يرى أنه لا يجب «وضع اللغات في صراع»، ولابد أن تأخذ كل لغة حيزها ومكانتها حتى يحدث التكامل: «إذا وضعت اللغات في صراع، فقد وضعت الجماهير في صراع، ونحن نبحث عن السلم». ويعتقد المخرج المسرحي أن التبادل والتعدد اللغوي ثروة ومكسب قد يحدث نوع من التداخل والاحتكاك الايجابي بين مكوّنات الشّعب الواحد.
العالمية أضعفت المسرح
كما يرى بن عيسى أنّ العالمية أضعفت المسرح، وأخرجت التراجيديا من طابعها المحلي إلى العالمية، لأنّ المسرح مثل الفن عموما يتأثّر بالمعطيات الجيوسياسية، لذا لابد من مبدعين حقيقيّين لفهم هذا الواقع والتأقلم معه، ومخاطبة وعي الشعب مع هذه المعطيات الجديدة. ووصف المؤلف المسرحي المهمة بالصعبة التي «تستدعي مهارات وكفاءات خاصة». وتأسّف أنه في الوقت الحالي لا يوجد كتاب قادرين على هذه المهمة. وعن كيفية إحداث الصلح بين الجزائري والمسرح، ردّ بن عيسى ببساطة «لابد من مخاطبة المواطن بصراحة»، والاقتراب قدر المستطاع من واقعه، حتى تتركه يدرك أشياء يعايشها كل يوم، لكن قد يمر عليها دون تمعن في معانيها، ومسبباتها. ويقول و»والديا علّماني، وكانا يتمتّعان بذكاء خارق بلغتهما وثقافتهما، لما أرسلوني المدرسة بلغت مستوى علميا لا بأس به، ومهمتي هي إعادة هذا الرصيد إلى والديا». ويسترسل المتحدّث «الشعب ذكي، فأي مثقف يقول أنّ الشعب غير مثقف لا يستحق هذا اللقب، فإن حاولت استغباء الشعب يصبح أصم.
يقول بن عيسى «لغة المسرح التي أستعملها هي بمستوى لغة وثقافة من يستعملها، فهذه اللغة لم تدخل مدارس، ولم تزر أكاديمية ولا جامعة، وهي تبحث عمن يهذبها». وفي السياق، يضرب مثالا عن مقطع «أنا جدي أمازيغ» قائلا «كتبت هذا المقطع مسترسلا ودون انقطاع، دون أن أدخل عليه أي تصحيح بعدي، لأنها تروي قصتي أنا، وتتحدّث عن هويتي أنا». في فرنسا مثلا لا أعرف الجمهور «لدينا ثقافة فرنسية لكن نجهل المجتمع الفرنسي». لما أكتب بالفرنسية أشعر أنّني أبكم، لأنه ليس لدي القدرة على الابداع مثل الكتابة بلغة «أمي وأبي». ويشرح أنّ الصّعوبة تكمن في «ترجمة واقع عشته لجمهور لم يعشه، هذه القدرة على جعل الجمهور يشعر بهذا الواقع، مهمة صعبة جدا». ويقول بن عيسى، عند كتابة «أبناء المرار» حاولت تعريف الجمهور الفرنسي على حقيقة أخرى مغايرة لما كانت تنقله أعين الصحافة عن واقع الجزائر في العشرية السوداء، هم أرادوا ترويج فكرة زائفة عن الجزائر، ونحن حاولنا قدر المستطاع توضيح الرؤية فوق خشبة المسرح. ويضيف بنبرة من التأثر «حملت الجزائر في قلبي في كل العروض التي قدّمتها على خشبة المسرح الفرنسي لمدة 10 سنين».
«كتبتها كما أحسست فتقبّلها الجمهور الفرنسي»
ضرب بن عيسى مثالا عن اقتباس الأفكار بلغة الأم عند كتابة النصوص بالفرنسية، ب «أمي كانت تناديني يا كبدي». ويسترسل «عند الكتابة بالفرنسية ترجمتها MON PETIT FOI وساعتها قال المخرج الفرنسي إن هذه الكلمة ستثير السخرية، لكن للعلم فكرة تشبيه الابن بالكبد، ليس جزائرية فقط فمفهوم تمركز المشاعر والأحاسيس والحنان في الكبد وارد في الثقافة العربية والمتوسطية (عند الاغريق خاصة)، بينما يعتبر القلب مركز الشجاعة».
«لا أستطيع تشويه المواقف الإحساسية بيني وبين أمّي»
هنا يشرح ضيف مواقع «الشعب» الالكترونية: «لا أستطيع تشويه المواقف الإحساسية بيني وبين أمي، وإلا زالت ثقافتي، فالكتابة انطلاقا من ثقافتي ولغتي، علّمتني كيف لا أذوب في الثقافة الفرنسية، وللأسف كثير من الكتاب الجزائريين سقطوا في هذا المطب، فمحاولة إرضاء الجمهور الفرنسي أبعدهم كثيرا عن ثقافتهم وهويتهم». «كتبت مشهدا كيف ترضعني أمي بالفرنسية وترجمته إلى الدارجة، وتفاجأت أن النص بالعربية كان أقوى لأنّني ترجمت إحساسا شعرته بلغة الأم»، يضيف بن عيسى. وعلى العكس، يقول إن اللغة الفرنسية ساعدته على الكتابة عن فترة الإرهاب في الجزائر، «لأني أخذت مسافة عن الأحداث لأستطيع فهم الأمور بشكل أوضح. فلو كتبت الأمور بلغة أمي لكان وقعها صعبا وأليما لأن خطورة الوضع وطابعه العنيف والاستعجالي، لم يترك مجالا للمحسنات البديعية». وعن جدلية استعمال اللغة في المسرح، يقول بن عيسى إنه يردّد دائما «لن تعرف وتفهم لغتك حتى تتعرف على لغة ثانية». ويضيف أنه يرافع دوما لتحرير لهجة الشعب «لأنهم أغلقوا عليها بالمعاني، فالجزائري نادرا ما يبوح بمشاعره بشكل واضح وصريح، مما ضاعف من تعقيد اللهجة العامية».
رجل المسرح سياسي بامتياز
يستطرد بن عيسى أنّ «الفن الرابع اجتماعي بالدرجة الأولى، وهنا تكمن الصعوبة، فرجل المسرح يمكن أن يجمع ويخاطب 1400 شخص في قاعة واحدة». الإحساس بالأحداث التي تدور من حولك أمر، ولكن «وضع الأصبع» على التراجيديا الحقيقية للشعب هو المشكل الحقيقي في المسرح، وهذا يتقاطع مع عمل السياسي. ويؤكد المتحدث «في مسرحية بابور غرق أردت التحدث عمّن أكون «أنا» في شخص جدي، في فترة كان الفرد فيه مُغيّبا، كنا نتحدث عن مجتمع وليس عن الفرد الذين حاولوا طمس هويته». ويرى الروائي المسرحي سليمان بن عيسى، أنه في فترة ما «عملنا على إذابة كل الثقافات الشعبية في ثقافة وطنية موحدة، دون مراعاة الخصوصيات الثقافية واللغوية»، وهذا خطأ على حد قوله.