تتعطّر ولاية قسنطينة بنسائم الزهر والورد، وتحتفل بعودة تظاهرة التقطير وحلولها ضيفا على معظم الهياكل الثقافية التي تفتح أبوابها لهذا التقليد المتوارث من الأجداد، والذي تسعى عائلات قسنطينية للحفاظ عليه، بدءا من الاستمرار في ترويجه عبر المعارض والاحتفالات الرسمية، وصولا إلى تطوير حرفة التقطير الذي كان يقتصر فقط على عدد محدود من العائلات والمناطق، إلى تقطير عدد كبير من الأعشاب العطرية والزيوت الطبية والتي تحولت من حرفة تقليدية لنشاط اقتصادي أخرجته نسوة من أسوار بيوتهن لمعارض محلية ومهرجانات وطنية، وجلبت اهتمام الشعوب العربية لما لهذه الحرفة من امتيازات طبية. تحت شعار «قسنطينة التراث..تتعبّق وردا وتتوشّح زهرا»، تحتضن مدينة الجسور المعلقة المهرجان الثقافي لتقطير الزهر والورد عبر عديد الهياكل الثقافية، في مقدمتها قصر الثقافة محمد العيد آل الخليفة، حيث شارك في إحيائه العديد من الحرفيات والحرفيين المختصين في عملية تقطير الزهر والورد، صانعين صورة تراثية وتقليدا تاريخيا تُرسم تفاصيله على مرأى سكان المدينة بوسائل تقليدية ومواد أولية طبيعية نشرت روائح عطرية ونسائم منعشة، تعتبر من أسرار عملية التقطير التي كانت تقام سوى بوسط دار العرب بالمدينة العتيقة، وكذا بمنطقة حامة بوزيان والتي تعتبر بستان الزهر والورد. أصول التّقطير تختلف الروايات والقصص عن أصول التقطير، حيث يتحدّث سكان المدينة الأصليين أن أصول هذه العادة الربيعية أندلسية، وانتشرت ببلاد المغرب مع دخول الأندلسيين، وتقول رواية أخرى أن أول شجرة ورد زرعت بقسنطينة قدمت كهدية من طرف صيني لعائلة قسنطينية من أصول عثمانية، وتحديدا سنة 1620 ميلادي، والتي زرعت بمنطقة حامة بوزيان أشهر منطقة تنتج زهور الورد والزهر، والتي تعتبر المصدر الرئيسي لكافة الحرفيين العاملين على حرفة التقطير، واستخراج عطور وزيوت طبية طبيعية، حيث أكد لنا أحد سكان حامة بوزيان أن عملية التقطير تعتبر ضرورة بالنسبة لهم باعتبارها عادة متوارثة عن الأجداد، وتقليدا مباركا يقام به بمناسبة حلول فصل الربيع. الحرفية العارضة ببهو قصر الثقافة «محمد العيد آل الخليفة» السيدة مفيدة لوصيف، الآتية من عقر بساتين الزهر والورد، وتحديدا ببلدية حامة بوزيان التي تشتهر بعملية التقطير، والتي أكدت على أنها تعتمد على تطبيق أساسيات ووسائل تقليدية تستعمل بسرية العائلات التي تحترف التقطير، مشيرة إلى أن أول مرحلة تتمثل في قطف أوراق الورد والزهر من الأشجار وجمعها ثم وضعها داخل ما يعرف ب «السيار»، ثم تحضير «القطار النحاسي»، وتغطيته بقماش أبيض كمعتقد قديم يمنع الحسد والعين، إلى جانب معتقدات أخرى كانت ولا تزال متوارثة لدى عائلات الحرفيين، على رأسها مرافقة العملية بصنع الحلويات التقليدية بأول قطرة زهر وورد تم استخلاصها، والتي تعرف «بالطمينة البيضاء» المصنوعة من السميد وزبدة البقرة والعسل، والتي تحضر قبل التقطير بليلة واحدة، ووضعها بمختلف أركان المنزل، وكذا رش في الليلة التي تليها كل البيت بالماء المقطر برأس القطار، كما أكدت أن التقطير مرتبط عند سكان المدينة بعادة «النشرة». التّداوي بالماء المقطّر من جهتها أضافت السيدة بلبجاوي، حرفية مختصة في التقطير وصناعة الحلويات التقليدية، أن التقطير يرتبط ارتباطا وثيقا بعادات العائلة القسنطينية التي تقوم بتقطير الورد والزهر لاستعماله في صناعة الحلويات القسنطينية على غرار البقلاوة وطمينة اللوز، القطايف، شباح الصفرة، فضلا عن حلوى طمينة البيضاء التي لابد من صناعتها قبل الانطلاق في عملية التقطير، لتؤكد أن قارورات مياه التقطير لابد أن تغلق بإحكام توضع بعيدا عن الضوء حتى لا تتغير تركيبتها ولونها الطبيعي، مشيرة إلى أن تقليد التقطير منتشر بالمدينة، ويستعمل أيضا في أمور استشفائية عديدة، حيث يتم حاليا تقطير الأعشاب العطرية مثل عشبة النعناع والزعتر وغيرها من الأعشاب العطرية الطبية، أين تلجأ العديد من العائلات للتداوي بالماء المقطر من أزهار أشجار الحمضيات، وخاصة النارنج أو البرتقال المر الذي تشتهر به منطقة الحامة بوزيان، وكذا المقطر من أزهار الورد، خاصة ذات اللون الوردي، حيث يتم وضع ماء الورد داخل العين لعلاج بعض الالتهابات التي تصيب مقلة العين، على غرار مرض الرمد. كما يُستعمل ماء الزهر في تخفيض حرارة الجسم خلال الإصابات الجرثومية ونزلات البرد وحتى لفحات الشمس، بالإضافة إلى استعمالات في مجال التجميل وتنظيف البشرة. إقبال على عيد المدينة عيد المدينة وتقليد تقطير الزهر والورد أصبح يشهد إقبالا كبيرا من طرف سكان الولايات الأخرى، ما لعب دورا إيجابيا في انتشار الحرفة وتحولها مع مرور السنوات لنشاط تجاري اقتصادي مربح، عاد بالفائدة على أصحاب الحرفة، حيث أصبح لهذه الشعبة بعدا اقتصاديا إنتاجيا، وسمح بانتعاش تجارة هذه الأخيرة، وهو ما يبرزه العدد الهائل من العارضين هذه السنة، هذا وقد عرفت كبب الزهر والورد هذه السنة ارتفاعا في ثمنها، حيث تجاوز سعر الورد ثلاثة آلاف دج وسعر الزهر ألفي دج.