ما زلنا نتنفس حرية ونكتب القصائد عن القدس ونغني الأشعار لفلسطين والأسرى تكتب القصائد والأشعار التي تهديها لوالدها الذي تركها في عمر الزهور عندما إعتقل خلال معركة مخيم جنين، فكبرت الصغيرة نهاوند بعيداً عن أحضان والدها الأسير عمر شريف خنفر المقيد ب 20 عاماً من الأسر، حققت النجاح في الثانوية العامة وارتادت الجامعة وأصبحت عروساً بعدما عقد قرانها مؤخراً، لكنها تنتظر عودة والدها لترتدي ثوب الزفاف ويشاركها الفرحة الأجمل التي تنتظرها كل عروس، فهي تعتبر والدها « بطل ومناضل وفدائي ضحى بحياته وحريته في سبيل قضية شعبنا وخلاصه من الاحتلال الذي لم نعرف منه سوى المجازر والسجون والمآسي والويلات التي لم تنل من عزيمتنا ومعنوياتنا، فنحن أصحاب حق ولن يضيع حق وراءه مطالب «، وتضيف: « كلما كبرت، ازداد اعتزازي وفخري بوالدي الذي أبكي فراقه، ولكن بطولاته ودوره النضالي المشرف الذي عشت اسمع قصصها وفصولها، تزرع في أعماق الصبر والايمان والامل، فهؤلاء الابطال سيحطمون القيد ويعودون إلينا أحراراَ». انتفاضة الأقصى .. عندما اندلعت شرارة إنتفاضة الاقصى، تقدم الشاب عمر الصفوف، فقد انتمى لحركة «فتح « في ريعان الشباب بعدما عاش في جنبات مخيم جنين الذي أبصر النور فيه، كل صور المعاناة والقمع التي مارسها الاحتلال، فلم يكتف بالحجارة والمسيرات، بل امتشق البندقية مقاتلاً في صفوف كتائب شهداء الاقصى، محطات لم تشهدها «نهاوند» التي ولدت خلال الانتفاضة ووالدها مطلوب للاحتلال، لكنها تحفظها عن ظهر قلب، وتقول: «الجميع في عائلتي ومخيمنا يحب ويحترم والدي ويشهد له ببطولاته منذ صغره، فقد تمتع بروح نضالية ووطنية وقاد المسيرات على مقاعد الدراسة حباً لوطنه، فقد تملكه حب كبير لفلسطين والحرية والعودة لديارنا التي شرد منها أجدادنا في النكبة «، وتضيف «كل ليلة، كنت أجالس جدتي لأحفظ حكايات والدي الذي التحق في انتفاضة الاقصى من أيامها الاولى، بالرغم من زواجه ومسؤولياته، كان الوطن والمقاومة كل حياته، فلم يتأخر يوماً عن تأدية واجبه .. خاض المواجهات وقاتل في المعارك، تميز بالشجاعة والشهامة والبطولة حتى لم يخش تهديدات الاحتلال». بطولة ومقاومة .. تحدق «نهاوند» بصور والدها التي تزين جدران منزل عائلتها والتي تلخص محطات نضاله ومطاردته وصموده خلف أبواب سجون الاحتلال التي قضت سنوات عمرها على أبوابها، وتقول: «أشعر بفرحة واعتزاز كبير كلما سمعت عن بطولات والدي الذي لم يهتم عندما اقتحم الاحتلال منزلنا وهدد بتصفيته، رفض تسليم نفسه واستمر في خوض المعارك، امتلك ارادة عالية ومعنويات كبيرة وقلب أسد، وكلما اشتدت ملاحقته، ازدادت مقاومته وبسالته في تحدي الاحتلال»، وتضيف: « تفجرت في أعماقه ثورة مشتعلة، فشارك في معركة مخيم جنين، حضر لمنزلنا وودعني وأوصى والدتي والجدين بي، وطلب منهم الدعاء له بالشهادة على ثرى المخيم الذي عشقه وأحبه أكثر من روحه وحياته «، وتكمل « انطلق والدي نحو المعركة بجسارة وبطولة، وقاتل مع اخوانه المناضلين الاحتلال في أزقة المخيم على الرغم من القصف والمجازر، رفض تسليم نفسه حتى حوصر واعتقل، وبدأت رحلة المعاناة نحو السجون «. الصمود والوجع .. بفخر واعتزاز، تقول نهاوند «فور اعتقاله، اقتادوه لزنازين التعذيب، تعرض للتحقيق والعزل وانقطعت ءخباره لعدة شهور، لكنه صمد ولم يركع، والدي العاشق لوطنه وقف أمام الجلادين بتحد وشجاعة ليخوض معركة التحقيق التي لم تنل من عزيمته ومعنوياته، فعاقبوه بالتنقل والعزل وحرمان الزيارات «، وتضيف: «عندما كانت محاكم الاحتلال تمدد توقيف والدي، بدأت والدتي بتعريفي عليه والحديث عنه، لم أنس دموعها كلما كنت أردد كلمة أبي الذي شاهدته وعرفته لأول مرة أسير خلف القضبان، في البداية شعرت بخوف، لكن كلما كبرت وفهمت أكثر حقيقة رسالته، ازداد ارتباطي وحبي له أكثر، فقد كان طيباً وحنوناً ويحبني أكثر من حياته»، وتكمل « حوكم والدي بالسجن 20 عاماً، وبدأت أشعر بوجع الفقدان والحرمان بالرغم من محبة والدتي وعائلتي، لكن لم يعوضني أحد عن حنانه، أصبحت أشتاق له أكثر وانتظر يوم زيارته كالعيد .. فطوال حياتي لم أشعر بوجوده وطعمه وما كان يخفف عني بطولات وصمود والدي وهداياه التي كان يخصني بها من السجن «. محطات أخرى .. كبرت الصغيرة «نهاوند»، وأصبحت تتقدم الصفوف مع جدها في الاعتصامات والمسيرات دعما للأسرى ووالدها الذي لم تتأخر عن زيارته يوماً، فأصبحت حياتها ترتبط بمواعيد الزيارات، وتقول: «صور المعاناة الرهيبة التي كنا نعيشها في كل رحلة عذاب نحو السجون، وممارسات السجان التعسفية وعقوباتهم بحق والدي، ودموع والدتي وجدتي، ولحظات الوجع في فقدانه، جعلتني أدرك الاهداف السامية التي ضحى لأجلها والدي، فالمقاومة حق مشروع لشعبنا للخلاص من هذا الاحتلال «، وتضيف « خلف القضبان تعرفت على والدي ورفاقه الرجال الابطال الذين ضحوا لأجل حريتنا وكرامتنا، عاقبهم وانتقم الاحتلال منهم بالاسر والاحكام، لكنهم تمردوا وصمدوا وقاوموا ببسالة .. لم ينل منهم هذا الظلم الرهيب الذي طالنا جميعاً، فحولوا السجون لقلاع للنضال وأكاديميات ثورية تخرج المثقفين والعباقرة، فكيف لا نفخر ونعتز بهم ؟»، وتكمل « كلما كبرت ، أصبحت حياتي تتعلق بوالدي الذي أزروه لرفع معنوياته، فيسلحني بشحنات كبيرة من القوة والصبر والامل .. السجون لم تكسره ولم تركعهم، إنهم السند الذي وإن غاب عنا جسداً فإن أرواحهم تلازمنا وتقوينا أكثر، فكنت أخرج من الزيارة بأمل متجدد أن هذه التضحيات لن تذهب هدراً «. سفيري الحرية .. لم يبق سجنا إلا ووقفت على أبوابه هند، تنتظر لحظة الحرية بالرغم من محطات الفراق والألم، وقطار العمر يمضي ووالدها خلف القضبان، لكن أحلامها لم تنته أو تتوقف، كانت تتمنى أن يعود والدها ليغمرها بحنانه ويعوضها عن سنوات الغياب وترى المزيد من الاشقاء الذين حرمت منهم، ولعلها كانت تعيش في ذاكرة وقلب والدها الذي لازمته نفس الاحلام ، فقرر أن لا يتأخر، وأهدى لزوجته الصابرة وكريمته الجميلة وعائلته المرابطة، سفيري الحرية «محمد الشريف» و»هند» ، اللذان أبصرا النور من نطفة مهربة في نفس اليوم الذي حققت فيه «نهاوند» حلم والدها بالنجاح في الثانوية العامة في 17-7-2019 ، وتقول نهاوند «شعرت أن لحظة عناق والدي اقتربت عندما أنجبت والدتي التوأم ، لا توجد كلمات تصف مشاعري بعد كل هذه السنوات التي حرمنا فيها والدي من الابناء والاشقاء .. كنت أتحسر عندما أشاهد المواليد الجدد، وأتمنى اللحظة التي يعود فيها والدي وتكبر عائلتنا في كنفه ، وتضيف «فرحت كثيراً، عندما تحقق الحلم الذي اعتبره بمثابة بشرى بقرب حرية والدي لنحتفل بهديته التي حولت حياتنا لسعادة لا ينقصها سوى اجتماع شملنا مع أبي وباذن الله سيكون قريباً «، وتكمل « على الرغم من كل ممارسات واساليب الاحتلال، لم ولن تتوقف حياتنا ولن تموت أحلامنا .. حاول الاحتلال تدمير كل شيء في مجزرة مخيم جنين، لكن نهض المخيم ولم يرفع الراية البيضاء، وفي ذكرى انتفاضة الاقصى، ما زلنا نتنفس حرية ونكتب القصائد عن القدس ونغنى الاشعار لفلسطين والأسرى والنصر ونؤمن أن الفجر القادم مهما تأخر.