تأسّست الدعائم الأولى للدبلوماسية الجزائرية، خلال حرب التحرير المظفرة على يد رجال عظماء لم يتخرجوا من مدارس عليا و لا معاهد متخصصة لكنّهم استطاعوا بذكائهم الثاقب وروحهم الوطنية العالية أن يقودوا النضال السياسي الخارجي ببراعة، قلّ نظيرها، ما مكّنهم من تدويل القضية الجزائرية وانتزاع التأييد العالمي الذي حقّق الفارق في معركة لم تكن مطلقا متكافئة، لكنها انتهت بانتصار الحقّ وانهزام الباطل، طبعا بعد أن دفع الجزائريون ثمنا باهظا. بعد الاستقلال أخذت الدبلوماسية الجزائرية، ترسم معالمها وترسّخ مبادئها مستفيدة من ثقلها الثوري و مستندة إلى القيم والقانون الدولي الذي جعلته الجزائر عنوانا لسياستها الخارجية لا تحيد عنه تحت أي ضغط وأمام أي مغريات أو ابتزازات. وكان الثابت منذ البداية، هو دعمها لحق الشعوب في تقرير مصيرها، والتزامها بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وتزكية الحلول السلمية للنزاعات والأزمات من خلال تفعيل الوساطة ووسائلها الناعمة. بالرغم من التطورات والتغيرات التي شهدها النظام الدولي على طول العقود الماضية، فإن السياسة الخارجية الجزائرية لم تحد عن مبادئها النبيلة، ما أكسبها احتراما ومصداقية كبيرين على المستوى الإقليمي كما الدولي، و جعل الكثير من الدول والمنظمات تراهن عليها للمساهمة في حل العديد من النزاعات الدولية عن طريق لعب دور الوسيط. تسويات تاريخية على الرغم من أن سياسة الجزائر الخارجية ترتكز على مبدأ النّأي بالنفس وعدم التدخل في شؤون الآخرين، إلاّ أن هذا المبدأ يقابله دائما استثناء عندما يتعلّق الأمر بمساعدة الأشقاء والأصدقاء، على تجاوز أزماتهم وحلّ معضلاتهم. لهذا يزخر سجلّ الدبلوماسية الجزائرية بالكثير من جهود وعمليات الوساطة الناجحة التي تمخّضت عنها اتفاقيات وتسويات تاريخية، على غرار الوساطة بين العراقوإيران بشأن النزاع الحدودي حول شط العرب، والتي توّجت بتوقيع كلّ من شاه إيران محمد رضا بهلوي، ونائب رئيس مجلس قيادة الثورة العراقي حينها صدام حسين في السادس مارس 1975 على « اتفاقية الجزائر» . كما ساهمت الجزائر عبر وساطتها بين إيران والولايات المتحدةالأمريكية في حل واحدة من أعقد وأخطر الأزمات التي شهدها العالم والمعروفة بأزمة الرهائن الأمريكيين في سفارة واشنطنبطهران. ففي صباح الرابع من نوفمبر 1979، وبعد مضي أقل من 9 أشهُر على قيام الثورة الإيرانية، حاصر قرابة 500 طالب إيراني السفارة الأمريكية في طهران، واحتجزوا 52 أمريكياً من موظفي السفارة لتنفجر أزمة دبلوماسية كبيرة لا تزال ارتداداتها حاضرة حتى الآن. المهاجمون برّروا الحادثة بأنها جاءت كردّ فعل على ما قامت به الإدارة الأمريكية بعد سماحها لشاه إيران المخلوع محمد رضا بهلوي بدخول أراضيها ومنحه حق اللجوء، حيث اتهموها بالتخطيط لتقويض الثورة وإعادة الشاه إلى الحكمّ، بالرغم من أن واشنطن، أكّدت حينها أن استقبالها له كان بغرض العلاج، بعد إصابته بالسرطان. واستمرّت الأزمة 444 يوم، ولم يستطع أحد فكّ خيوطها لولا الدور الذي بذلته الدبلوماسية الجزائرية التي نجحت عبر وساطتها في الإفراج عن رهائن السفارة الأمريكية، يوم 20 جانفي 1981، لتنتهي بذلك أعقد حلقات مسلسل الخلافات الدائرة بين إيران والولايات المتحدةالأمريكية، وتُقطع منذ ذلك الحين العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وتفرض واشنطن حظرا تجاريا على طهران حتى اليوم. كما ساهمت الدبلوماسية الجزائرية الوقائية أيضا في فضّ النزاع الإثيوبي الإريتيري، الذي تطوّر من خلاف حدودي إلى حرب استمرت سنتين من ماي 1998 إلى جوان 2000. وانتهت رسميا بتوقيع اتفاقية الجزائر في 12 ديسمبر 2000. مكّنت هذه الوساطة الناجحة الجزائر من استرجاع حضورها الدولي بعد أزمتها الداخلية التي أبعدتها بعض الشيء عن المشهد العالمي. وقبلها ساهمت الجزائر مع بلدان عربية في هندسة وإنجاح اتفاق الطائف الذي طوى فصول الحرب الأهلية في لبنان. حيث شاركت في إخماد نيران هذه الحرب التي دامت 15 سنة، وذلك من خلال عضويتها في اللجنة العربية الثلاثية، ومن خلال الجهود التي بذلها الدبلوماسي الجزائري الأخضر الإبراهيمي الذي عمل مساعداً للأمين العام للجامعة العربية بين سنتي 1984 و1991، وعيّنته الجامعة العربية والأمم المتحدة في 1989 مبعوثهما الخاص إلى لبنان، حيث قام بدور أساسي في إتمام اتفاق الطائف الذي وقّع في سبتمبر من نفس السنة، أي عام 1989. كما لعبت الجزائر في منتصف السبعينات من القرن الماضي دورا بارزا للإفراج عن وزراء النفط في منظمة أوبك الذين اختطفهم إيليتش راميريز سانشيز المدعو «كارلوس الثعلب»، عندما كانوا يعقدون اجتماعا للأوبك بالعاصمة النمساوية فيينا. وشهدت العاصمة النمساوية فيينا في ديسمبر عام 1975 عملية اختطاف استعراضية لوزراء النفط لدول منظمة «أوبك»؛ خلال الجلسة الختامية لاجتماعهم من قِبل 6 أشخاص يقودهم الفنزويلي إلييتش راميريز سانشيز؛ الشهير ب «كارلوس الثعلب». وبعد احتجاز وزراء النفط ومن ينوب عنهم، طلب الخاطفون من السلطات النمساوية توفير طائرة والمغادرة إلى الخارج. واستمرت عملية الاختطاف ما يقارب 46 ساعة، و تولى المسؤولون الجزائريون المفاوضات مع الخاطفين ونجحوا في إقناعهم بالإفراج عن جميع الرهائن الذين عادوا إلى بلدانهم سالمين. التضحية في سبيل السلام بلا شكّ، ان مسار الجزائر المستقلة حافل بعمليات الوساطة المثمرة التي أسهمت في حل العديد من الأزمات وإخماد نيران الكثير من الحروب، وذلك بالرّغم من الثمن الغالي الذي دفعته لما حاولت تحريك آلتها الدبلوماسية لإخماد نار الحرب العراقية – الإيرانية وإقناع الطرفين بالعودة إلى اتفاق الجزائر، حيث لقي وزير الخارجية الجزائري محمد الصديق بن يحيى في 4 ماي 1982 مصرعه رفقة ثمانية أعضاء من الوزارة وصحافي وأربعة من طاقم الطائرة خلال مهمة سلام بين بغدادوطهران، إذ نسف صاروخ الطائرة الرئاسية الجزائرية، وهي تسلك المثلث الحدودي العراقي-الإيراني-التركي. لقد سجل تاريخ الدبلوماسية الجزائرية، محطّات زاخرة تبعث على الغبطة والفخر، لكن لابدّ أن نسجّل بأن دور الوسيط الذي لعبته الجزائر في العديد من المرات ما كان لينجح لولا المبادئ التي ترتكز عليها السياسة الخارجية الجزائرية، بداية بالتوازن والحياد، فأولوية الحل السياسي على الأمني و العسكري، مرورا بإعطاء الوقت الكافي للحوار والمفاوضات من أجل تقريب وجهات النظر، وصولا إلى توفير الظروف والأجواء الملائمة للوصول إلى حلول ترضي جميع الأطراف. وبالرغم مما نسجّله من محاولات البعض التشويش على الجهود الجزائرية لحل أزمات الإقليم، والسعي لسدّ الطريق أمام اختيار مبعوثين أمميين من الجزائر مثلما يحصل مع الملف الليبي ، فإن هذا لن يزيد الدبلوماسية الجزائرية إلا عزما على الانخراط في عمليات السلام الدولية ومواكبة المتغيرات و مواجهة التحديات بكل إرادة وعزيمة.