أخي الثّائر الأسير كريم يونس: بداية أعزّيك بوفاة والدتك العظيمة الصابرة، أمي وأمّك، وأمّ كل المناضلين والأحرار، لقد فقدت أمّك بعد 40 عاماً في السجن، لكنك لم تفقد وطنك، ومن لا يفقد وطنه لا يفقد شيئاً مهما بلغت حجم الأحزان والتضحيات، إرادتك وصبرك وإيمانك وإصرارك على الحرية هو الذي يجعل الوطن وروح أمك توأمان، يلتقيان ويتوحّدان ويكسران الغياب والفقدان، أخي كريم مليون أمّ لك في الجزائر. أخي كريم، أكتب لك بعد ستين عاماً على استقلال بلدنا الكبير الجزائر من الاستعمار الفرنسي، لأبرق لك تحية الجزائر إلى فلسطين، إلى شعب الشهداء والأسرى، إلى الشعب الذي يجترح الأساطير في الصمود والمقاومة، فلولا فلسطين لما تحرّرت الجزائر، ولولا القدس لما اشتدت الزنود وأبرقت البنادق، من فلسطين شحنت الجزائر ذخائرها وانطلق رجالها وأسقطوا الاستعمار، فلسطين هي الملهم والمعلم، ومن أراد أن يهزم الكولونيالية والظلم عليه أن يوجّه قبلته إلى فلسطين، فمنها سيتعلم كيف يصمد ويقاتل وينتصر. أخي كريم: عيد استقلالنا الذي نحتفي به الآن لا زال ناقصاً، فلسطين لم تتحرّر، معركة تحرير الجزائر لم تنته، فلسطين تتعرّض للسلب والقتل ولأطول احتلال في التاريخ المعاصر، الاستقلال في الجزائر لم يكتمل، جراحكم توجعنا، القيود على أياديكم تؤلمنا، صرخاتكم تهزّنا، وشعورنا الدائم أنكم وحدكم في معركة تقرير المصير يزيدنا مأساة ويفجعنا، وكل جزائري يتمنى دائماً أن تكون الجزائر على حدود فلسطين لنكون معكم في الساحات والميادين والمواجهات، نشيد واحد وصلاة واحدة وصوت واحد وروح واحدة. أخي كريم: وجودك في السجن منذ أربعين عاماً لا زال يجرحنا، يؤنبنا، وصمة عار وهزيمة على جبين كل عربي، وجودك في السجن مع المئات من الأسرى والأسيرات الذين يقضون أكثر من عشرين عاماً يزلزل عظامنا ويقرع أجراس ضمائرنا، وفي ذكرى استقلال الجزائر لا زلنا نسأل لماذا تركنا البندقية؟ أخي كريم: معاً لبسنا بدلة الإعدام الحمراء، أنت في سجن الرملة الصهيوني وأنا في سجن وهران للاحتلال الفرنسي، ومعاً تدلى حبل المشنقة على رقابنا أشهر عديدة، ومعاً راقبنا الموت يزحف إلى أوصالنا ليل نهار، رؤوسنا كانت عالية، خاف الموت يا كريم، انقطع حبل المشنقة لأن القضية التي نناضل في سبيلها ثقيلة، لا تموت ولا تفنى ولا تسقط، استبدلوا حكم الإعدام بالمؤبد، كان السجانون يرتجفون وأرجلنا ثابتة. أخي كريم: عندما نرى الحياة من وراء القضبان نراها أكثر وضوحاً، غير مزيفة وغير مسيجة، ولا يوجد أدق من وصف الأسير وجمال رسوماته للفضاء، ولا أصدق من أغنية تغنى في السجن وترقص على ألحانها الطيور العائدة وتضحك السماء، ولا أصدق من نبوءة المعذبين الذين تحول صلبهم إلى بشارة للعالمين ولاهوتاً للأحرار، السجن يشعل ضوء الذاكرة. نحتفل في الجزائر ولكن هذا الاحتفال هو تحية لك، تحية لفلسطين، تحية للأسرى والأسيرات، لكل الشجعان والأبطال والصامدين، الجزائر معكم في القدس ويافا واللد وجنين، المكان واحد، وطن واحد، دم واحد، صلاة واحدة والمسافات ليست بعيدة، الجزائر اليوم تلبس قميصك وترتدي كوفيتك وترفع علم فلسطين في ساحاتها وميادينها، حتى بحر الجزائر يا كريم حمل السلاح والفدائيين الذي وصولوا شواطئ فلسطين، نحن أشقاء الحرية واللغة العربية وصهيل الخيول السماوية، وكما كنا نردد دائماً نحن مع فلسطين ظالمة ومظلومة. أخي كريم عندما أفتح دفاتري وذكرياتي أجد دفاترك وذكرياتك، أجد دمك وصوتك وحبر قلمك وملح جسدك هنا، البطش والقمع والعزل والإهمال الطبي، التعذيب والتنكيل والمحاكمات غير العادلة، قوانين فاشية عنصرية، اعتقالات تعسفية جماعية، دماء على حيطان السجون، شهداء في مقابر سرية، سنوات طويلة في الجحيم واللهيب، سجان واحد، جلاد واحد، منظومة قمع واحدة، دمك أمامي، وجهك أمامي، الأسرى في سجون الاستعمار الفرنسي هم أنفسهم الأسرى في سجون الاحتلال الصهيوني، لكن الراية هي نفس الراية، راية المقاومة والخلاص والحرية. أخي كريم من صمّم سجن نفحه للأسرى الفلسطينيين هو نفسه الذي صمم سجن الجرف العسكري للأسرى الجزائريين، ومن صمّم سجن جلبوع للأسرى الفلسطينيين هو الذي صمّم سجن سركاجي للأسرى الجزائريين، سجون كثيرة ومعسكرات صمّمت لتحطيم نفسيات المعتقلين عن طريق القمع والإرهاب وتحويلها إلى مقابر لدفن الأحياء؛ ومن ارتكب مذبحة دير ياسين في فلسطين هو نفسه الذي ارتكب مذبحة سطيف في الجزائر، الإبادة والتطهير والترحيل والممارسات العنصرية الهمجية. أخي كريم: لقد دخلت السجن وأنا أهتف جزائرنا، وأنت دخلت السجن تهتف فلسطيننا، تتردّد أصواتنا في الشوارع والمظاهرات والانتفاضات، ولهذا اختار خليل الوزير أبو جهاد عنوان أول صحيفة فلسطينية لحركة فتح في الجزائرفلسطيننا نداء الحياة، وما زال نداء الحياة ينبض في عروق الشعب الفلسطيني، الحياة التي صنعتها داخل الجدران تنفجر ألغاماً تحت أقدام الطغاة والمحتلين، الانفجار قادم من السجون، الأعمار المحشورة والمقيدة في المؤبّدات والظّلمات تنتقل إلى هذه الأجيال الفتية، تعيد الدورة الدموية للأرض والإنسان، ولا تتوقف ساعة الروح العنيدة في القدس عاصمة فلسطين وتاج العروبة. أخي كريم: أكتب إليك لأنّي أكتب عن نفسي، حكايتنا المشتركة التي تتفتّق عن ولادة جديدة لأجل المستقبل، مستقبل الحرية والاستقلال، مستقبل من حمل أربعين عاماً على كتفيه ولم يشخ أو يستسلم أو يصدأ، مستقبل من يبني الأمل وسط الحديد والنار والعذاب، مستقبل الأساطير الإنسانية التي أرادت أن تنتصر أكثر مما تعيش، فإنسانيتنا سابقة على الموت واليأس كما قال الفيلسوف سارتر، وعندما أهتف بالنشيد الوطني الجزائري أجد نفسي أهتف بالنشيد الوطني الفلسطيني، وعندما أشعر بآلام التعذيب في ليالي الشبح والضرب أشعر بآلام آلاف الأسرى النساء والأطفال والمرضى في السجون وأقبية التحقيق، وعندما أقسم بالنازلات الماحقات والدماء الزاكيات الطاهرات والبنود اللامعات الخافقات؛ يختلط صوتي بصوتك وأنت تنشد: نعم لن نموت ولكننا سنقتلع الموت من أرضنا. نعم لن نموت، نعم سوف نحيا ولو أكل القيد من عظمنا ولو مزّقتنا سياط الطغاة ولو أشعلوا النّار في جسمنا