الأسير الفلسطيني ابن قرية عارة في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة 1948 كريم يونس يقضي 38 عاما في سجون الاحتلال الاسرائيلي، وهو أقدم أسير يقضي أطول فترة زمنية خلف القضبان، وخلال هذا الوقت الطويل تغيرت الأحوال والاتجاهات والسياسات، جاء قادة وذهب آخرون، تغيرت الأمكنة والأسماء واللغات والعقول، لكن السجن لم يتغير كعلاقة بشعة على بقاء أطول احتلال في التاريخ المعاصر، البرش هو البرش، الأصفاد هي الأصفاد، القضبان وصراخ التعذيب، الأسلاك والنوافذ الموصدة، رائحة الهواء الرطب، السماء البعيدة والذكريات البعيدة. ذاكرة كريم يونس احتشدت بالشهداء الأسرى، بالداخلين الى السجن وبالخارجين، السجان هو السجان، الوجع اليومي والحنين، الصور الأولى، الطيور وقطرة الحليب وبئر الماء، المدن والقرى والبساتين والظلال، والدته العجوز المقعدة وصوت حبات المسبحة بين أصابعها وهي تعد الأيام والسنين وتزفر طويلاً طويلاً بالدعاء. ثمانية وثلاثون عاماً مرت، صدئ الحديد وتعفن الجدار ويئس الجلاد، جربت حكومة “إسرائيل” كل قوانين البطش والخنق والقمع ووسائل شطب الهوية النضالية للإنسان الأسير، في كل مرة يظهر وجه كريم يونس العنيد، يحمل عتاده الانساني وذخيرته النضالية والأخلاقية، يحمل آلامه وإرادته ليهزم الليل والغياب، يرى ما لا يرون، يرى شمساً في السجن وخلف الظلمات. ثمانية وثلاثون عاماً مرت على جسد مخلوق من كبرياء وشموخ، وبرغم مرور أكثر من مائة عام على وعد بلفور المشؤوم، وأكثر من سبعين عاما على النكبة وأكثر من خمسين عاماً على الاحتلال الاسرائيلي وأكثر من خمسة وعشرون عاماً على اتفاقيات أوسلو، وبرغم التضخم العسكري والاستيطاني الاسرائيلي وبناء السجون، فأن دولة (إسرائيل) لاتزال تسمع من يدق على الجدران وأبواب الحديد، ولاتزال مشغولة بالحراسات والتشديدات الأمنية الى درجة الجنون، لم تتوقف الدقات والأنفاس، هناك من يمر من ألف باب وباب، هناك من يشعل الجوع في الإضراب، هناك من يحرر السجن من داخله، ويبقى السجان مقيداً في الزمان والمكان. كم حرباً تحتاج دولة (اسرائيل) لتنتصر على كريم يونس؟ كم شهيداً ستقتل؟ كم اسيراً ستعتقل؟ كم بيتاً ستهدم؟ كم جريحاً ومبعداُ وسجناً ومستوطنة؟لم يختف كريم يونس من الوقت، أكثر من 15 فرداً من أبناء أخواته وإخوته ولدوا خلال 38 عاماً، وكبرت العائلة، فاختنق الإسرائيليون في الديموغرافيا وأسرار النطف المهربة. حكم على كريم يونس وزميله ماهر يونس عام 1983 بالإعدام شنقاً وبمصادقة وزير الدفاع الاسرائيلي موشي ارنس، ورئيس هيئة الأركان رفائيل ايتان، ألبسوهما بدله الإعدام الحمراء لمدة 275 يوماً، حبل المشنقة يتدلى في سجن نيسان بالرملة حيث كانا يقبعان، الحبل يشد على الرقبة، الحبل يتحرك ببطء مع عقارب الساعة، الموت يرقص في تلك الزنزانة الخاصة المعزولة التي حشرا فيها، الموت يذهب ويجيء، يسهر الموت فوق الكتفين وقدام الباب وعلى العتبة. 275 يوماً في بدله الإعدام، كريم يونس مربوط بالجنازير من يديه وقدميه، على مدخل الزنزانة تواجد 12 شرطياً وضابطاَ ينتظرون قدوم الموت ليحتفلوا ويستمتعوا بالجريمة، حالة طوارئ واستنفار غير مسبوقة في تل ابيب، الحراسة مشددة، لن يهرب الموت او يخطئ، الموت جاهز ومستيقظ ولا ينام، الموت واقف كالظل لا يفارق كريم، الموت هو الزائر الوحيد القادم، سيأتي الساعة الخامسة، سيأتي الساعة السابعة،سيأتي ربما الآن، ربما ظهراً ،ربما في منتصف الليل، الموت يأتي بسرعة لا صوت له سوى الغرغرة، الحراس ماتوا كثيراً وهم ينتظرون قدوم الموت، يتساءلون لماذا تأخر الموت؟ الرجل الذي سيموت يبتسم في وجوهنا كأنه يرى ما بعد الموت حياة. . 275 يوماً في بدله الإعدام، دولة اسرائيل متأهبة لتنفيذ الجريمة، ولكن ما هذا الرجل الذي يفك عن رقبته حبل المشنقة، القدس انتفضت بين يديه، صنوبر الكرمل تحرك بين عينيه، والدته هبت عن كرسيها المتحرك واقفة، فاض البحر المتوسط، أمواجه عالية، دولة اسرائيل بعد 38 عاماً قلقة ومسيجة وخائفة. ربما سمع الجلادون في تلك الليالي صوت كريم يونس وهواجسه وهو يردد ما جاء في رواية ثورة المشنوقين للكاتب ترافن: أذا كانت حياتي لا تساوي شيئاً، وإذا كنت أعيش في السجن أسوأ من حيوان، فلم افقد شيئاً ان تمردت وثرت على ذاك الذي شنقني. 275 يوماً في بدله الإعدام، الانتظار كان هو الموت، من ينتظر أكثر يعيش أكثر، الإسرائيليون لم يستطيعوا الانتظار، بدأوا بتنفيذ الإعدامات الميدانية دون محاكمة في الشوارع وعلى الحواجز والأرصفة، وصار الإعدام قانوناً مشرعاً في الكنيست الاسرائيلي، تتدلى حبال المشانق من أروقته في تقديس للموت والقتل والكراهية المقيتة، كلهم يهتفون: الموت للعرب، الموت للأسرى، يحترقون في عنصريتهم ويدعون إنهم ضحايا المحرقة. 275 يوما في بدلة الإعدام، وقد أصبح الإعدام مفتوحاً على النسيان والمجهول بإصدار أحكام المؤبدات الجائرة على المئات من الاسرى والأسيرات، وانقضت حكومة الاحتلال على حقوق الاسرى بسن تشريعات عدائية وعنصرية وبشكل غير مسبوق، وشكلت ما يسمى لجنة اردان، لتضييق الخناق على الاسرى وتشديد الإجراءات عليهم، وسلبهم لكافة حقوقهم الإنسانية والمعيشية، يعتقد الإسرائيليون ان الإعدام يبدأ بإعدام الكرامة، وتجريد الاسرى من آدميتهم وإنسانيتهم، ويعتقدون انهم قادرون على إخماد نشيد الحرية في السجون: نعم قد نموت ولكننا سنقتلع الموت من أرضنا. 275 يوماً في بدلة الإعدام، صار حبل المشنقة غصن شجرة، ارتداها كريم يونس في عيد الميلاد، خلع البدلة، قفز عن السور، بدأ عاماً آخر، ها هو يقرع الأجراس في الساحة، يعلن إضراب الحرية والكرامة، لن نستسلم فأما النصر او الشهادة. 275 يوماً في بدلة الإعدام، كانوا يرونه قنبلة، وكان يراهم دولة عسكرتارية استبدادية تمارس الجريمة والخطايا المنظمة، كانوا يرونه تهديداً وجودياً على أسطورة ارض الميعاد، وكان يراهم عابرين غزاة فوق دبابة ومذبحة. 275 يوماً في بدلة الإعدام، الحبل ينفلت عن رقبة كريم ويشتد على رقبة دولة اسرائيل، دولة الابرتهايد في المنطقة، دولة يقودها التطرف القومي والديني، دولة لم يعد فيها أي مظهر لمجتمع مدني وديمقراطي، دولة تنحدر الى الفاشية وحبل المشنقة. 275 يوماً في بدلة الإعدام، وبتوقيت فلسطينوالقدس، دخل كريم يونس عامه الجديد حياً حراً سيداً، في يده اليمنى عكازة أمه العجوز، وفي يده اليسرى عكازة حياته المقبلة. تحية لكريم يونس من الشعب الفلسطيني الذي يواجه بشجاعة وباء الكورونا البيولوجي ووباء الاحتلال السياسي تحية في يوم الأسير للرجل الرمز الخندق والجامعة والمدرسة والمقاومة.